والواقع أن التعصب — بوصفه ظاهرةً بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان — يمكن أن يُعالَج بمناهجَ وأساليبَ متعدِّدة، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة، ربما كان أصلحُ منهج يُتبَّع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصبٌ ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها — سواء أكانت قبيلة أم وطنًا أم مذهبًا فكريًّا أو دينيًّا — أسمى وأرفع من بقية الفئات، إذ إن اعتقاد فئة معيَّنة بتفوقها يعني آليًّا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدْرًا، ذلك لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طَوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي؛ وفضلًا عن ذلك فكثيرًا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثرَ مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهرًا لا يتمشَّى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته؛ ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات — في الفلسفات التي تنحو منحًى ديمقراطيًّا — يزداد بالتكاتف مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم. ويبحث عن أسبابٍ نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أَعْقَد من أن تُفَسَّرَ من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، ولعل تعقُّد هذه العلاقة يتكشف بوضوحٍ لو ضربنا لها مثلًا مستمدًّا من بلد التعصب المتسق والمنظم، فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيرًا من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، كما كان مسلكُ الكثيرين منهم — على المستوى الشخصي — ينم عن قدْرٍ غيرِ قليلٍ من الانحلال. ولكن التفكير الجدلي يستطيع أن يتوصَّل — من وراء هذا المظهر السطحي — إلى التعقُّد والتشابك الحقيقي الذي تنطوي عليه علاقة التعصب؛ إذ إن مَن يمارس الاضطهاد يعمل — عن وعي أو بغير وعي — على إبقاء مَن يضطهده في حالةٍ يكون فيها جديرًا بأن يُضطهَد، هو اتهام الأقليات بالتقوقع والتساند والتكاتف فيما بينها على حساب تعاونها وتضامنها مع الأغلبية؛ ففي هذه الحالة بدورها تؤدي ممارسة الأغلبية للاضطهاد إلى رد فعلٍ لدى الأقلية يتمثل في مزيد من الانطواء على ذاته والحرص الشديد على مصالح أفرادها، فهل لا يوجد سبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهل يتحتم أن يظل طرفا هذه العلاقة في تباعد وتنافر يتزايدان بلا انقطاع؟ إن المنطق السليم يقنعنا بأن المشكلة ليست مما يستعصي حلُّه، إن من الشائع — عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب — أن يُقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولًا، وإن تَعصُّبَ هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيًّا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية، ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية، غير أن هناك حالاتٍ قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف؛ حيث تمارِس أقليةٌ بيضاء من أصلٍ أوروبي اضطهادًا جماعيًّا شاملًا ضد أغلبية أفريقية من سكان البلد الأصليين؛ ومن ثَم فهي تعوِّض ضَعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالةٍ لا تسمح لها بالانقضاض عليها، ومن هنا كانت أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر هي تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب أفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين. على أن تاريخ اليهودية يمكن أن يُعَدَّ مثلًا صارخًا — امتد عبْر مئاتٍ طويلة من السنين — لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية، ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن — في أية حالة من الحالات — أقليةً حاكمة مسيطرة على زمام الدولة كما هي الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب أفريقيا، وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبشَ فداء» يُفرِّغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الإخفاق — وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه في حالاتٍ معيَّنة على الأقل — فإن وقوع الاختيارِ على الأقلية اليهودية بالذات طَوال ألوف السنين لكي تكون «كبشَ الفداء» هذا؛ فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر ردُّ فعلٍ من جانب الأغلبية على الأقلية، وهو — بطبيعة الحال — اضطهادٌ صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضَّعف، ولكنه ينقلب إلى وحشيةٍ مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، وعلى ذلك فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، فيرجع إلى خرافاتٍ وأساطيرَ استفزازية عنيدة على الدوام تكون جزءًا لا يتجزأ عن التراث اليهودي. ولعل أبلغَ دليل على ما نقول هو أن اليهود — مهما كان مقدار ضعفهم في مجتمعٍ ما — يرفضون الاندماجَ في هذا المجتمع، ذلك لأن الاندماج في الأغلبية والحصول على نفس حقوقها على قدمِ المساواة هو الحلم البعيد الذي تكافح من أجله الأقليات المضطهدة في جميع أرجاء العالم، وحسبنا شاهدًا على ذلك كفاح زنوج أمريكا في سبيل المساواة في فرص العمل والتعليم والحقوق السياسية، أما في حالة الأقلية اليهودية فإن الاندماج يُعَدُّ في نظرها أفظع الجرائم التي يمكنها أن ترتكبها في حق ذاتها، إذ إن هذه المجتمعات لو مَنحت الأقلية اليهودية حقوقَها المتساوية وعملت على إدماجها فيها وإذابتها ذوبانًا تامًّا؛ وواقع الأمر أن وجود نوعٍ من الإحساس بالظلم والاضطهاد كان — ولا يزال — جزءًا لا يتجزأ من القوة الدافعة التي ساعدت اليهود على التماسك والاحتفاظ بتراثهم على مر العصور، لتبين لنا أن الوصول إلى تسويةٍ نهائية على أساس التعايش السلمي مع دولةٍ قائمة على أساسٍ عنصري مثل إسرائيل، بل لأن قادتها يدركون أن حالة السلام الدائم هي أكبر خطر يمكن أن يتعرض له كِيان الشعب اليهودي في إسرائيل؛ هو السؤال عما إذا كان التعصب منتميًا إلى البناء الأعلى superstructure أو إلى البناء الأدنى أو الأساس infrastructure، ونستطيع أن نقول — بوجه عام — إن التعصب كان يُفسَّر بذاته في العصور القديمة التي كانت كل الأسس فيها خافية، فقد أصبح التعصب يُرَدُّ دائمًا إلى أصولٍ أخرى أسبق منه وأقدر على تفسيره. ولكن الذي يعنينا هنا هو أن تفسيرات علم النفس ذاتها تُعَدُّ — في نظر الكثيرين — منتميةً إلى البناء العلوي، إنه التبرير الأيديولوجي للاضطهاد الواقع على فئاتٍ معيَّنة يستغل المجتمع طاقتها دون أن يمنحها حقوقها المشروعة. وليس في وُسعنا أن نجزم إن كان هذا التفسير صالحًا للانطباق على كل حالات التعصب التي شهدها البشر على مر التاريخ، ولكن الأمر المؤكد هو أن النظرة الفاحصة إلى مظاهر التعصب في عالمنا المعاصر تقنعنا بأن هذا هو التفسير الأكثر انطباقًا على الواقع الذي نعيش فيه؛ والاعتقاد بأن الشعب اليهودي شعبٌ مختارٌ وعده الله منذ ألوف السنين بأرض فلسطين هو الذي يبرر للصهيونية طردَ العرب من ديارهم واستغلال مَنْ بقي منهم أسوأ استغلال بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. فإذا صح أن التعصب — في عالمنا المعاصر — هو في أساسه تبريرٌ ظاهري لعلاقة الاستغلال التي تمارسها فئةٌ قوية على فئةٍ أخرى تحتل — لسبب أو لآخر — مركزًا أسوأ،