تحدّد تطوّر المنجز الروائي بمنطلقات تتجاوز حدود التسلسل التاريخي؛ فالسلَّمية التصاعدية التي تنتقل بالإصدار الروائي من طَوْر التأسيس إلى الازدهار والانتشار تخضع لمؤثِّرات محيطة، وعلى إثر هذا السياق تنفذ الرواية إلى عمْقها النِّتاجي، المؤثر في تلقي التجربة الروائية؛ له ما يتضمنه “من إمكانات تجعله أقرب إلى تمثيل المجتمعات، لذا فليس غريبًا أن تكون كتابة الرواية المنطق الرئيس لتجسيد القيم والأهداف المتبناة من تلك المجتمعات، إذ تستوعب تعدد الأصوات واختلاف وجهات النظر، إنَّها الحوارية التي يمثلها فن الرواية مقابل فن الشعر الذي يتشكل في إطار مونولوجي”([1])، المجتمعات التي تُبنى أنظمتها على أساس فردي أو قبليّ أو طائفي غير قابلة لتكون ممثَّلة في أعمال روائية تعتمد على مبدأ (الحوارية)([2]). إنَّ الرواية السعودية في طورها الريادي، لم تتَّصل بمحيط ثقافي يشكِّل تجربتها الروائية بوعي يدرك منطقها الإبداعي، وصورها الاجتماعية منتقاة قسرًا، فاستمرّت مهادنة زمنًا، فاضطرَّ بعض الروائيين النَّسْج السردي باستعارة سياق ثقافي خارجي؛ ومن هذا المنطلق نفهم تعبير أحد روادها عن شعوره آنذاك بقوله: “وكنت أحد المتحمسين لقضايانا الاجتماعية، أتمنى لو استطعت أن أفرغ كل ما يدور في رأسي من أفكار شابة، فقد عاشت محافظة بكل ما في هذا من معنى، لئلًّا تزحف على ما ألفت، تختلف مساءلة بدايات الرواية السعودية، حسب الأثر المقدَّر في نوع التجربة الأولى وطبيعتها، يتوازى مع التراكم المتتابع للنص الأدبي، باختلاف جنسه ونوعه، لكنَّ طبيعة سياق النشأة الثقافي هو العامل الأبرز في تشكيل هذا النتاج الروائي، فالتأريخ للرواية السعودية بصدور رواية (التوأمان، لا يحمل معه إلَّا مجرد التصدير الكتابي للقص الروائي، ولذا فإنها بقول محمد حسن عواد: “لم تصادف رواجًا في الطبقات الأدبية الممتازة وعند الشباب المثقف، لأنها خالية من كل مقومات الفن الروائي الجيد الذي يجتذب النفوس ويلقح العقول، وكان في عزمنا أن ننتقدها حين ظهورها، ولكن تركناها تموت بنفسها وبفعل الحياة القوية التي لا تقبل إلا القوي وهكذا كان”([4])، فالفعل الروائي الأوَّل لم يكن مجرَّدًا من محيط النقد العارف بطبيعة النص الروائي ومستلزماته، لم تكن كافية لإنتاج عمل يتساوق معها، فالأعمال الأخرى التي تليت (التوأمان) ما زالت في سياج الإصلاح والتوجيه، ١٩٣٥م) لمحمد نوري الجوهري، التي يعدّها عبد العزيز السبيل استهلال الرواية السعودية؛ وعلى تباين سرديَّة العملين، فإنهما يتدانيان في ضعف التنامي الروائي للشخوص، وافتعالات المقاطع المجافية لسردية الرواية، ولنفهم طبيعة هذا المنجز الريادي في الرواية السعودية، يلزم الإقرار بصعوبة التجربة الروائية؛ لا تقتصر على قدرة القصِّ وحده، بل هي “شكل من أشكال الحداثة الأدبية والاجتماعية، فهي النص الوحيد القادر على استيعاب حراك المجتمع وتفاعلاته، كما أنها النص الذي يقدم النمط الحواري في كيفية تداخل الأنساق الاجتماعية عبر المحكي ذي الخلفيات الاجتماعية المختلفة”([6])، جاءت رواية (ثمن التضحية، ١٩٥٩م) لحامد دمنهوري، ما دعا الباحثين إلى استقلال هذه المرحلة، بوصفها مرحلة تجديد في الرواية السعودية([7])، لخصوصيَّة التعامل مع الأثر الروائي، تتشوَّف التغير الاجتماعي في مكة، باستشراف مستقبلي، وتجربة دمنهوري الروائية في (ثمن التضحية) لا يُجادل بأهميَّتها؛ فكانت روايته (ومرَّت الأيام، وعلى ثبات حامد الدمنهوري مهادنًا في تجربته، يبرز إبراهيم الناصر الحميدان في تجربة روائية أوسع، فتحضر ثنائية القرية/المدينة في روايته (ثقب في رداء الليل، ١٩٦٠م) وهي ثنائية ستتوافد على الحدث الروائي السعودي، واستمر نتاج الحميدان زمنًا، ومثله رواية عبد الله جمعان (القصاص، إضافة إلى صدور بعد الأعمال الروائية التي تتواضع تجربتها مثل أعمال محمد زارع عقيل، ١٩٦٥م) التي عُدَّت محاولة أوليَّة في كتابة الرواية التاريخية. بدأت الرواية النسائية بإنشاء تجربتها، وإن لم تكن تجربة نابعة من تكوين المجتمع الداخلي، وغياب فرص التعليم النظامي للمرأة، فكتبت سميرة خاشقجي «سميرة بنت الجزيرة العربية» روايتها الأولى (ودّعت آمالي، ١٩٥٨([8])) وأتبعتها بعدد من الروايات، وريادة سميرة خاشقجي واضحة في الرواية النسائية، رغم افتقار أعمالها للنضج الروائي، وانقطاع أعمالها الأولى عن المجتمع السعودي، لا أن تعالج التكوينات الاجتماعية بواقعية شديدة الخصوصية والصلة بالمجتمع في حركته اليومية”([9])، بدأت تتهيأ مقوِّمات النهضة الروائية في السعودية؛ وتلقي أنظارًا عالمية عليها، اعتمادًا على ممارسات فردية، سنح الفضاء المحيط بتجارب روائية مؤثرة، كما تتغذى الرواية على ما يقدمه المجتمع من هامش للروائي في خلق أجوائه الروائية”([10])، فتراءت للروائي مساعيه، بتراكم التجربة وسعتها، وتطور التقنية الروائية، فمنهم من ثنّى تجربته، مثل هدى الرشيد في روايتها (عبث، وتتخلَّص رواياته من الهشاشة الفنيَّة، وعلاقتها بالهويَّة حضورًا وغيابًا، وكذلك ننظر لروائيَّة عبد العزيز الصقعبي، في روايته (رائحة الفحم، وفيها تبرز الأزمنة متداخلة والحوارات والشخصيات، وتجديد في التكوين لمفهوم البطل وشخصيته في الرواية السعودية. وبعاقبة هذا السياق الناجح في إثراء مشهد الرواية فنيًّا؛ استطاعت الرواية أن تجتذب أقلامًا من غير محطيها، وأن تخوض غمار الكشف عن مستور الواقع، وقد كان حضوره مؤثِّرًا لا في المستوى السردي للرواية السعودية، وعلى إثرها انساقت تأويلات مجتمعية جديدة، تتعامل مع المنجز الروائي بعيدًا عن سياقه الأدبي، واستمرَّ هذا النتاج بوصفه ذروة المنشط الروائي في السعودية، فكتبت رجاء عالم عددًا من الروايات التي تشكِّل حدثًا تجريبيًا مختلفًا، ١٩٨٧م) وبها فازت بجائزة ابن طفيل للرواية، وتوالت أعمالها حتى تاريخ كتابة هذا المقال، ٢٠١٠م) التي نالت بها مناصفة جائزة البوكر للرواية العربية، ورواية (باهَبَل: مكة ١٩٤٥- ٢٠٠٩، دلالة على وضوح رؤية العمل الروائي لديها، وقدرتها على التحرر من مشاغبات السياق تُفرض على الروائي في ظروف مجتمعية محددة. وحضور الشعبية في روايته الأولى (الموت يمر من هنا، ٢٠١٠م) التي فازت بجائزة البوكر للرواية العربية ٢٠١٠م، لما حققَّته من نتائج أضفت على الرواية السعودية طابعًا فريدًا، سواء في مستوى التجربة الأولى للروائي، وقدرته على إنضاجها، وإثبات اسمه في تاريخ الرواية السعودية، أو بما حصدته من جوائز عربية، ونفاذها إلى مساحات تلقي تتجاوز المجتمع العربي، (طوق الطهارة ٢٠٠٧م)، ٢٠١٦م) الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية ٢٠١٧م، وروايته (فيضة الرعد، وعبد الله ثابت وروايته (الإرهابي ٢٠، ويحيى امقاسم في روايته (ساق الغراب (الهربة)، وعبد الله بخيت وروايته (شارع العطايف، وفي الرواية النسائية تشعَّبت الأسماء وتوافدت، لكن من الأسماء المهمة في سياق التحول الروائي بعيدًا عن رجاء عالم، تبرز ليلى الجهني، وروايتاها: (الفردوس اليباب، ومها الفيصل في روايتيها (توبة وسُليّى، إن المدى المتتابع في المنجز الروائي السعودي، في أنساق تتطابق مع سياقات ثقافية متجددة، انفصلت عن حالة التّماس الضدية في النزاع المتراكم، وتقاسم القرية والمدينة، بات للرواية السعودية مساحة أخطر، استطاعت بعض الروايات أن تحقِّق قفزة في ممارسات جديدة، دون تحسّس المواجهة الاجتماعية، سمحت لأسماء كثيرة بالكتابة الروائية دون وعي بمعاناتها، فظهرت تراكمات روائية، بعيدة عن النضج الروائي. ومن الاستشفاف المتوقع للمستقبل الروائي في السعودية، يمكن أن نظفر بأنسجة مستحدثة في سياق كتابة المجتمع الحديث، تجدِّد المعالجة الروائية دون اعتماد على قوالب مألوفة.