إذ هما في الغار] ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فدخل فكسحه، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،لدغت، فداك أبي وأمي،وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد «٣» . قالت عائشة: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و (كان) يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث «٤» . وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه «٥» . وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة،ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها «١» .وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، في جميع الجهات تحت المراقبة المسلحة الشديدة، وانتشروا في الجبال والوديان، لكن من دون جدوى وبغير عائدة. ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما، وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما «٣» .وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.في الطريق إلى المدينة] وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش،وكانا قد استأجر عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديا خريتا- ماهرا بالطريق- وكان على دين كفار قريش، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، خذ إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، فسميت ذات النطاقين «١» .ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وأخذ بهم الدليل- عبد الله بن أريقط- على طريق السواحل.وأول من سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل،وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما لقفا، ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم هبط بهما العرج، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: أنفض الضرع من التراب والشعر والقذى. ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوي منها، ما يشرب ويتوضأ، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فقلت: إشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف،فيقول: هذا الرجل يهديناي الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير «١» . أقبل رجل منهم حتى قام علينا، إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، فركبتها، فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، وأبو بكر يكثر الإلتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع فقلت له، إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن،وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله،ورجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ههنا. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما «٣» . ثم تطعم وتسقي من مر بها، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، وسقي أصحابه حتى رووا، وحلب فيه ثانيا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا.فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة بكلام رائع كأن لسامع ينظر إليه وهو أمامه- وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر المقالة- فقال أبو معبد: لقد هممت أن أصحبه، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه . وأفلح من أمسى رفيق محمد فيالقصي ما روى الله عنكم . ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها . فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها.قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة «١» .٥- وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، وعقدها برمحه،٦- وفي الطريق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام،النزول بقباء: وفي يوم الإثنين ٨ ربيع الأول سنة ١٤ من النبوة- وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق ٢٣ سبتمبر سنة ٦٢٢ م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء «٤» .قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، هذا جدكم الذي تنظرون، فثار المسلمون إلى السلاح «١» .قال ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ،قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى- وفي نسخة: يجيئ- أبا بكر، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه،وكانت المدينة كلها قد زحفت للإستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي: إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران «٤» .ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع - على نبوته ثلاثة عشر عاما كاملا عند من يقول: إنه أكرم بالنبوة في ٩ ربيع الأول في سنة ٤١ من عام الفيل، وأما من يقول: إنه أكرم بالنبوة في رمضان سنة ٤١ من عام الفيل فعنده يتم على نبوته- في ذلك اليوم- اثني عشرة عاما وخمسة أشهر و ١٨ يوما أو ٢٢ يوما.التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم «١» . وأسس مسجد قباء وصلى فيه، فلما كان اليوم الخامس- يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار- أخواله- فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي،وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة- ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا «٤» : أشرق البدر علينا .أيها المبعوث فينا . جئت بالأمر المطاع والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، وذلك في بني النجار- أخواله- صلى الله عليه وسلم. فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده «١» .وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي: قال: فانطلق فهيء لنا مقيلا، قال: قوما على بركة الله «٢» .وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر «٣» .قالت عائشة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك،كل امرئ مصبّح في أهله .وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة . بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة . وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة» «٤» .إلى هنا انتهى قسم من حياته صلى الله عليه وسلم، وتم دور من الدعوة الإسلامية، وهو الدور المكي.المرحلة الأولى الحالة الراهنة في المدينة عند الهجرة] لم يكن معنى الهجرة هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. ولذلك أصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد،ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام والقائد والهادي في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزمة الأمور بلا نزاع.والأقوام التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كانت على ثلاثة أصناف، وكان يواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديدة غير المسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى الآخرى.١- أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم.٢- المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة.٣- اليهود.أ- والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليهم كانت تختلف تماما عن الظروف التي مروا بها في مكة، فهم في مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة، وكانوا يستهدفون إلى أهداف متفقة، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى، مقهورين أذلاء مطرودين، لم يكن لهم من الأمر شيء، ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية، والإجتناب عن الرذائل والدنايا.المرحلة الأولى الحالة الراهنة في المدينة عند الهجرة] لم يكن معنى الهجرة هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام والقائد والهادي في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزمة الأمور بلا نزاع. يختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر إختلافا واضحا، وهذه الأصناف الثلاثة هي: ١- أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم.٢- المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة.٣- اليهود. وكانوا يستهدفون إلى أهداف متفقة، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى، وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في الدين، فلم يكن هؤلاء المسلمون يستطيعون أن يقيموا مجتمعا إسلاميا جديدا بمواده التي لا يستغني عنها أي مجتمع إنساني في العالم، ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية، وعلى الحث على البر والخير ومكارم الأخلاق، والإجتناب عن الرذائل والدنايا. فقد آن لهم أن يواجهوا بمسائل الحضارة والعمران، وبمسائل المعيشة والإقتصاد، وبمسائل السياسة والحكومة، وبمسائل السلم والحرب، مجتمعا إسلاميا، ويكون ممثلا للدعوة الإسلامية التي عانى لها المسلمون ألوانا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات.ولا يخفى أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد، أو شهر واحد، أو سنة واحدة، بل لا بد له من زمن طويل، يتكامل فيه التشريع والتقنين مع التثقيف والتدريب والتربية تدريجيا، وكان الله كفيلا بهذا التشريع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بتنفيذه،وكان الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم،كان هذا أعظم ما يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى المسلمين، وهذا الذي كان هو المقصود- على نطاق واسع- من الدعوة الإسلامية، والرسالة المحمدية، نعم كانت هناك مسائل- دون ذلك- كانت تقتضي الإستعجال. لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجل وهو آمن في سربه، وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد. ونجوا بأنفسهم إلى المدينة، ليس لهم ملجأ يأوون إليه، ولا عمل يعملونه لمعيشتهم، وكانوا يزيدون يوما فيوما،ومعلوم أن المدينة لم تكن على ثروة طائلة، وفي هذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة إقتصادية، قلت لأجلها المستوردات، وتفاقمت الظروف.ب- أما القوم الثاني- وهم المشركون من صميم قبائل المدينة- فلم تكن لهم سيطرة على المسلمين، ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولم تمض عليهم مدة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم لله.وكان فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، بل كان مضطرا إلى إظهار الودّ والصفاء نظرا إلى الظروف، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي، فقد كانت الأوس والخزرج إجتمعوا على سيادته بعد حرب بعاث، ولم يكونوا إجتمعوا على سيادة أحد قبله، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليتوجوه ويملكوه، وكان على وشك أن يصير ملكا على أهل المدينة إذ باغت مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصراف قومه عنه إليه، فكان يرى أنه استلبه ملكا، فكان يبطن شديد العداوة ضده- ولما رأى الظروف لا تساعده على شركه، وأنه يحرم الفوائد الدنيوية أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقي مستبطنا الكفر، وكان لا يجد مجالا للمكيدة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين إلا ويأتي بها- وكان أصحابه- من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجوة في ملكه- يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتخذون بعض الأحداث، ولكن بعد الإنسحاب إلى الحجاز صبغوا بالصبغة العربية في الزي واللغة والحضارة، وحتى قامت بينهم وبين العرب علاقة الزواج والصهر، وأراذل متأخرون، وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم، وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية.وكانوا مهرة في فنون الكسب والمعيشة، فكانت في أيديهم تجارة الحبوب والتمر والخمر والثياب، ويصدرون التمر، وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعافا مضاعفة، بل كانوا أكالين للربا، ليكتسب هؤلاء الرؤساء مدائح من الشعراء، وسمعة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ولا طائلة، ثم كانوا يرتهنون أرض هؤلاء الرؤساء وزروعهم وحوائطهم، ثم لا يلبثون إلا أعواما حتى يتملكونها.وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد، يلقون العداوة والشحناء بين القبائل العربية المجاورة، ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعره تلك القبائل، فلا تزال في حروب دامية متواصلة، ولا تزال أنامل اليهود تؤجج نيرانها كلما رأتها تقارب الخمود والإنطفاء، وبعد هذا التحريض والإغراء كانوا يقاعدون على جانب، يرون ساكتين ما يحل بهؤلاء العرب، كانوا يتحفظون على كيانهم اليهودي، ليأكلوه أضعافا مضاعفة، ويكسبوا ثروات طائلة.وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة: وكانت ديارهم داخل المدينة.٣- بنو قريظة، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس، وكانت ديارهما بضواحي المدينة.وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد ساهمت بأنفسها في حرب بعاث، كل مع حلفائها. فالرسول لم يكن من جنسهم حتى ليسكن جأش عصبيتهم الجنسية التي كانت متغلبة على نفسياتهم وعقليتهم، ثم دعوة الإسلام لم تكن إلا دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في الشؤون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيب الأموال، ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتالف فيما بينها، وحينئذ لا بد من أن تفلت من براثن اليهود، فيفشل نشاطهم التجاري، ويحرموا أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم، بل ربما يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل،فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذها اليهود،كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الإستقرار في يثرب،ويظهر ذلك جليا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي؛ وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني. فو الله ما التفت إلي واحد منهما، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ ويشهد بذلك أيضا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقد كان حبرا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت، وأخيرنا وابن أخيرنا (وفي لفظ:) سيدنا وابن سيدنا، (وفي لفظ آخر:) خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك (مرتين أو ثلاثا) ، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. وفي لفظ فقال: يا معشر اليهود إتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. في أول يوم دخل فيه المدينة.هذا كله من حيث الداخلية، وأما من حيث الخارجية، فإن ألد قوة ضد الإسلام هي قريش، كانت قد جربت منذ عشرة أعوام- حينما كان المسلمون تحت يديها- كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة وسياسة التجويع والمقاطعة، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، ثم لما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، بل تامرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه، وبعد هذا كله- لما نجا المسلمون إلى أرض تبعد عنها خمسمائة كيلو مترا- قامت بدورها السياسي لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب، فأغرت غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، في حين كان عدد اللاجئين يزيد يوما فيوما. ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام «١» .كان حقا للمسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة، كما صودرت أموالهم، وأن يدالوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموا في سبيل حياة المسلمين، وأن يكال لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع، حتى لا يجدوا سبيلا لإبادة المسلمين، واستئصال خضرائهم.هذه هي القضايا والمشاكل التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ورد المدينة بصفته رسولا هاديا وإماما قائدا.قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة (١٢ ربيع الأول سنة ١ هـ الموافق ٢٧ سبتمبر سنة ٦٢٢ م) ، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب.بناء المسجد النبوي:] وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه،اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة . فاغفر للأنصار والمهاجرة هذا الحمال لا حمال خيبر .وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل . وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعلت له ثلاثة أبواب، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع.وبنى بيوتا إلى جانبه، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب «١» .ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتالف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الإنطلاقات،وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة.المؤاخاة بين المسلمين:]