الحمد لله الذي مأتم حمد إلا بحمده ، ولا عصيناك إلا بنعمتك ، ولا تیشرت لنا الأمور إلا بتلينك مصاعبها، والصلاة والسلام على رحمة الله المهداة ، ونعمته المسداة : محمد بن عبد الله ، فكل دارس للعلوم الإسلامية يعرف مكانة علوم السنة النبوية عند علماء المسلمين ، ومقدار الجهد المبذول في جمع السنة وتدوينها ، وما ألف فيه من ألوف المصنفات . وإن أيسر وأوضح ما يبين ضخامة تلك الجهود هو أن تراجع كتب فهارس كتب السنة القديمة والحديثة ، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق . ضخامة الجهد المبذول في خدمة السنة النبوية لا يمكن أن يكون محل نقاش ؛ إلا عند من لا يعرف تلك الجهود جهلا منه بها ، أو من لا تفيده أدلة المشاهدة والعيان اليقينية يقينا ولا ظنا ، فأما معالجة عدم معرفة من لا يعرف تلك الجهود : فهو أن يعرفها بذلك الاطلاع الميسور الواضح . والمعاندين : فليس علاجا معرفيا ، وإنما هو علاج نفسي أو أخلاقي ! وقد يقول قائل : إن ضخامة الإنتاج وعظم الجهد المبذول لا يستلزم صحة المنهج ، وهذا القول بإجمالى له وجه صحيح . ولكننا نلفت النظر إلى ضخامة الجهود المبذولة في علوم السنة ، لنؤكد على أمر مهم ، كنت فيها حريصا على سعة الاطلاع عليها غاية الحرص، وتقييم لقدرتها على تحقيق أهدافها المحددة لها ، و فلسفة منطلقا معاييرها النقدية . ويعطي الدليل : على مدى صوابية نتائجها ، وعلى مقدار الثقة بصحة منهجها وعلمته ، ولذلك فقد وجد أن من أوجب الواجبات علي هو إبراز تلك الأسس العقلية التي تقوم عليها علوم السنة النبوية ، والذي يقوم على إثبات أن هناك وسيلة دقيقة ومنهجية علمية وصل إلى الثقة بصحة المرويات المنقولة عن النبي ، وأن هناك جزءا من المنقول عنه صحیح ثابت النسبة إليه ، الأول : أن فهم هذه الأسس هو الذي يعمق فهمها ، الثاني : أن ذلك الفهم الدقيق لقواعد النقد عند المحدثين ، والذي يعتمد على بيان الأسس العقلية لنقدهم : هو الدليل الذي يثبت علمية ذلك النقد ، يمكن الاعتماد عليه في تمييز صحيح المرويات من سقيمها ، وبغير إدراك تلك الأسس العقلية لن يتم التصور الصحيح عن منهج المحدثين النقدي ، بل ستكون بعيدة كل البعد عن المنطلق العلمي في الدرس وفي الخروج بالنتائج وإصدار الأحكام . وهذا هو ما حدا بي إلى القيام باستخراج الأسس العقلية لعلم نقد السنة النبوية ، وإلى محاولة تقريبها وتيسير فهم منطلقاته العلمية والمنهجية ، على وجه الاختصار ! وبحسب ما أظنه يفي بالغرض من هذا البحث ، ثم الحكم لها أو عليها بعد هذا الدرس بكل حيادية وموضوعية . فقد عزمت على دراسة علاقة قواعد قبول الخبر عند المحدثين بالقواعد العقلية لقبوله لنتبين : هل بينهما علاقة ما ؟ أو ليس بينهما أي علاقة ؟ أم لعل الأمر تجاوز وجود علاقة بينهما ، إلى تكون علوم الحديث مؤسسة أصلا على أس عقلية ، فلم تنطلق إلا وهي محكومة بلجام العقل العميق ، للتثبت منها : هل كانت مبنية على قواعد علمية صحيحة (وهي المنهجية الصحيحة) ، أم كانت مبنية على نظريات متفرقة لا تربط بينها علائ حقيقية (وهي اللامنهجية) = فإننا قد نسلك في سبيل هذا الفحص أحد طريقين : الأول : قد نتوجه إلى فحص الأدلة الخارجة عن القواعد النقدية ذاتها ، من نحو کون تلك القواعد متفقا عليها بين العلماء ، لكنه يتأثر كثيرا بالأدلة الخطابية ، لا بالنظر إليه نفسه ولا بالتعرف على ومن ذلك هاتان القصتان المتشابهتان : الأولى : لأبي حاتم الرازي مع أحد جلة أهل الرأي، خلاصتها أنه عرض على أبي حاتم أحاديث ، فميز أبو حاتم بينها بأحكامه المختلفة ، فأخبره أبو حاتم بأن هذا ليس كذلك ، دل ذلك على أن كلامهم بعلم، ثم قال أبو حاتم: « وكذلك نحن، ژزقنا علم لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر، ثم علق ابن أبي حاتم على هذا الخبر بقوله ، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون من كلام النبوة» . تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (۳۰۱-۳۰۰) . والثانية : لأبي زرعة الرازي ، وقال له رجل : ما الحجة في تعليل الحديث ؟ قال : الحجة أن تسألني عن حديث له علة ، ثم تقصد محمد بن مسلم بن وارة ، ثم تقصد أبا حاتم ، فإن وجدت بيننا خلافا في علته : فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده ، وإن وجدت الكلمة متفقة : فاعلم حقيقة هذا العلم . لأنه يقوم على اعتماد استحالة توالي المصادفات الاعتباطية على شيء واحد، في تمييز الحكم العلمي المتقن الضوابط من الحكم المبني على التخرصات والضوابط غير المتقنة . والثاني : قد نتوجه إلى القواعد النقدية نفسها، غير أن صعوبة المنهج الثاني تكمن في أنه يوجب علما صحيحا وعميقا بالعلم المراد فحص قواعده النقدية ؛ لأن نقد القواعد يحتاج إلى معرفتها أولا : قاعدة . ثم نحتاج إلى محاكمة هذه الحكمة وفحص تلك الفلسفة مع بقية چگم بقية القواعد وفلسفتها ، وهل يشكل اجتماع تلك القواعد بناء نقديا مكتملا ، بلا ثغرات تقدح في صحة نتائجه كلها أو بعضها ، إن هذا المنهج العلمي لفحص قواعد النقد هو ما حرصت على السير عليه في هذا البحث ؛ لأقدم جوابا عن سؤال يقول : هل كانت قواعد نقد الحديث عند المحدثين قواعد منهجية صحيحة ؟ هل كانت مبنية على أشير عقلية متينة؟ لما كانت السنة النبوية عبارة عن أخبار مروية ، يتناقلها روائها جيلا بعد جيل ، وطبقة بعد طبقة = وجب أن يكون منهج التثبت لصحتها هو المنهج الذي يوجبه العقل للتثبت من الأخبار جميعها . ولذلك فلن تختلف السنة النبوية في منهج نقدها عن خبر من الأخبار ؛ وحينئذ لن يكون اختلاف منهج نقدها عن منهج نقد الخبر إلا في تفاصيل المنهج العقلي الكلي لنقد الأخبار ، ثم نوازن به منهج نقد المحدثين للسنة النبوية بعد ذلك . والمنهج العقلي للتثبت للأخبار يبدأ بتقرير ما يلي : بمجرد قبولهم الخبر من الأخبار فهو حكم منهم بأنه خبر موافق للواقع . والعكس بالعكس : فلا يرد العقلاء لمجرد رفضهم لقبول خبر من الأخبار فهو حكم منهم بأنه خبر مخالف للواقع. ورد الخبر هو : اعتقاد مخالفته للواقع . فإذا أراد العقل أن يقبل خبرا من الأخبار فعليه الحذر من أن لا يكون مخالفا للواقع ، فإذا تثبت من كونه غير مخالف للواقع ، وعندها فقط يقبله وما دام الخبر هو ما يتناقله الناس من الأقوال و يحكونه من الأفعال والقصص والحوادث ، فستكون أسباب كونه موافقا للواقع أو مخالفا له = هم الناس أنفسهم ، فهم من يجعلون خبر هم موافقا للواقع أو مخالفا له . فهو قول قد قيل أو حادث قد وقع ، أو قول ما قيل وحادث لم يقع ، والناس الذين تناقلوا الخبر هم من جعلوا خبرهم هذا موافقا لذلك الماضي أو مخالفا له . و كان فعله لذلك كله عن غير قصير ولا تعمد، و(الخطأ) : هذان هما السببان العقليان الوحيدان مخالفة الخبر للواقع ، ولذلك فهما السببان العقليان الوحيدان لرد الخبر وعدم قبوله . فسيكون أي خلل في تحقق هذه النجاة سيبا في الوقوع في فخ الخبر المخالف للواقع ، وسيترتب على ذلك من المفاسد بقدر أهمية ذلك الخبر ، وبقدر ما سينتج عن اعتقاد صحته من اعتقادات أو أقوال أو أفعال . فستكون أي زيادة على الشرط الذي يحقق تلك النجاة - بإضافة أمر سوى الكذب) و(الخطأ) لما تشترط النجاة منه - سيبا في رد أخبار تستوجب القبول ، وسيترتب على ذلك من المفاسد قريث ما يترتب على قبول ما يستوجب الرد، وبالقدر المختلف نفسه ، وبأسباب اختلافه عينها . وبذلك يمكن أن نقسم الخبر قسمة عقلية حاصرة من جهة تحقق نجاته من أفتي مخالفته للواقع (الكذب) و(الخطأ) إلى قسمين : والثاني : ما لم تقم له البراهين التي تدل على ذلك . وهذا القسم الثاني (وهو : ما لم تقم له براهين تدل على ذلك) ينقسم أيضا إلى قسمين ، بناء على القسمة العقلية الحاصرة القطعية أيضا : الأول : ما قامت البراهين على أنه مخالف للواقع بسبب كذب أو خطأ أو كليهما . والثاني : ما لم تقم له البراهين التي تدل على ذلك ، فلا هناك ما يدل على نجاته من الكذب والخطأ، ولا ما تدل على وقوعه في شيء من ذلك(۱). 1) في هذه القسمة العقلية لسنا محتاجين للاستدلال لها إلا بالعقل ، حيث قال : «الأخبار : منها ما يعلم فالأخبار من جهة تحقق نجاتها من آفة الأخبار (الكذب) و(الخطأ) وعدم تحقق نجاتها منهما ، الأول : الخبر الذي قامت البراهين الدالة على أنه قد نجا من (الكذب) و(الخطأ) : والثاني : ما لم تقم له البراهين التي تدل على ذلك . وهذا القسم الثاني (وهو : ما لم تقم له براهين تدل على ذلك) ينقسم أيضا إلى قسمين ، بناء على القسمة العقلية الحاصرة القطعية أيضا : الأول : ما قامت البراهين على أنه مخالف للواقع بسبب كذب أو خطأ أو كليهما . والثاني : ما لم تقم له البراهين التي تدل على ذلك ، فلا هناك ما يدل على نجاته من الكذب والخطأ، وبذلك تصبح الأقسام (في الحقيقة) ثلاثة ، هي : الأول : الخبر الذي قامت البراهين دالة على أنه قد نجا من (الكذب) و(الخطأ) : وهو الخبر المقبول بلا شك . الثاني : الخبر الذي قامت البراهين على أنه مخالف للواقع بسبب كذب أو خطأ أو كليهما : وهو الخبر المردود بلا شك . هذا كله هو التقرير العقلي الشرف لقبول الأخبار ، يوافق ما تستوجبه ضرورة العقل البشري . فأي منهج لقبول الأخبار يخالف هذا المنهج فإنه سيكون منها غير عقلي ، وبالتالي : فسیرفضه العقل تماما ، فالسؤال الذي يجب أن يجيب عنه هذا البحث إذن ، ينحصر في السؤال المحوري التالي : هل سار المحدثون في طريقة قبولهم للأخبار النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم على هذا المنهج العقلي ؟ أم كانت طريقهم مخالفة لهذا المنهج ؟ فإن كانت طريقة المحدثين في نقد السنة قد سارت على هذا المنهج العقلي فسيكون هذا دليلا على وضوح هذا المنهج العقلي عندهم ، وهذا كله هو ما سوف نجيب عنه في الفصل اللاحق (بإذن الله تعالى) : أي إنهم اعتبروا شروط الحديث الصحيح هي میزان معرفة موافقة ذلك الحديث للواقع ، فالحديث الذي تحققت فيه تلك الشروط فهو الحديث الموافق للواقع ، والحديث الذي لم تتحقق فيه تلك الشروط فهو الحديث الذي لا يحكم له بموافقة الواقع ، وهو الحديث المردود (بأقسام الرد المعروفة عند المحدثين). والخطأ (الإخبار بخلاف الواقع بغير عمد) . إلا أن تثبت سلامة من الكذب والخطأ كليهما . فهل نقصت شروط المحدثين عن تحقيق هذا الشرط العقلي ؟ أو زادت عليه ؟ هذا ما لن يتبين إلا إذا درسنا تلك الشروط ، شروط المحدثين للحديث الصحيح خمسة شروط ، وهي الشروط التالية : من الطرق التي يمكن أن تحقق للراوي حسين أدائه الحديث لمن يأخذه عنه . وهما : (الكذب)، و(الخطأ) . فإن ذلك يدل على صحة المنهج الذي أل عليه هذه الشروط ، وأنها شروط مبنية على منهجية علمية دقيقة : يوجبها العقل ، و تقتضيها الدراسة العلمية الموضوعية . وإن ثبت أن بعض هذه الشروط أو كلها لا علاقة له بتحقيق السلامة من آفات الأخبار : بأن كانت شروطا تقصر عن تحقيقها ، وليست مبنية على دراسة علمية موضوعي وسنجعل بیان علاقة هذه الشروط الخمسة أفتي الأخبار (الكذب ، والخطأ) مباحث خمسة ، نتناول في كل مبحث منها شرطا من شروط الحديث الصحيح ، اكتمال دراستها (شرطا شرطا) يمكننا الخروج بالنتيجة ، وهي: هل كانت هذه الشروط شروطا عقلية : (يوجبها العقل) منهجية : (يوجبها العلم) ؟ أم ليست كذلك المبحث الأول : علاقة شرط (العدالة) بشرط السلامة من آفات الأخبار : وهي بعبارة مختصرة : متانة الديانة ، التي يكون لها في قلب المتصف بها وازع يمنعه من ارتكاب ما يخالفها ، من كبائر الذنوب وما يلتحق بها من صغائرها(۲)= فإننا سنعرف علاقة اشتراطها أفتي الأخبار ؛ حيث إن الاتصاف بالكذب عموما(3) والتجرؤ على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا مما ينافيان هذه العدالة الدينية منافاة قاطعة ؛ لأنهما من كبائر الذنوب. وأنهم لذلك اشترطوا هذا الشرط : لأجل السلامة من الكذب إذن في اشتراط العدالة يقتضيه العقل للسلامة من تعمد الراوي للكذب ، وبذلك يتبين أن المحدثين كانوا حريصين على انتفاء الكذب عن الرواية ، فإن قيل : هل يكفي أن لا يعرف الراوي بالكذب لكي يحكم على إخباره بأنه صدق لم يكذب فيه ؟ ألا يمكن أن يكذب في خبر واحد؟ أولا : ينبغي أن نعترف في البداية أن المحدثين كانوا منتبهين لضرورة التحرز من الكذب ، اشتراطهم أن لا يكون الراوي كذابا ، ثم يحق لنا بعد ذلك أن نناقش وسائلهم للتحرز من الكذب : هل كانت وسائل تحقق غايتها بإتقان ؟ أم كانت وسائل لا تحقق تلك الغاية ؟ ولن يعين على فهمه . ثانيا : مع أن اشتراط عدم اتصاف الراوي بالكذب قد يوهم أنه شرط كاف في سياق التحرز الكذب ؛ واشترطوا فوق هذا الشرط شرطا أعم وأشمل منه ، وهو العدالة الدينية (كما سبق) . لا يقوم به اشتراط عدم معرفتنا الراوي بالكذب . وماداموا يطلبون هذا الشرط الإضافي ، فهذا يدل على علمهم بأن اشتراط عدم معرفتنا الراوي بالكذب شرط غير كاف للتحرز من وقوعه في الكذب . ولا يتحقق الاحتراز من الكذب إلا بها . وبعبارة أخرى : مادام المحدثون غير غافلين عن أن اتصاف الراوي بالصدق (بمعنی عدم اشتهاره بالكذب أو بعدم افتضاحه به ) لا ينفي أن يحمله طمع أو منفعة ما على أن يكذب مرة أو مرات قليلة ، الذي يمنع المتصف بها من الكذب على النبي تحت ضغط أي إغراء أو مصلحة ، ولو كان آمنا من الافتضاح بالكذب ، لأن العدل لا يكون عدلا حت كان آمنا من الافتضاح بالكذب ؛ ولا يكون عدلا حتى تكون فضيحة الآخرة وعقوبتها عنده أشد من فضيحة الدنيا وعقوبتها . فلها من نفسها أشد رقيب على نفسها . إلا في تعجيل هلاك من خالف وازعه المادي غالبا ، من الذين يفكرون في العواقب ، إذن : والعدالة : إيمان وقناعة راسخة لدى المتحلي بها تمنعه من الكذب على رسول الله ، حتى لو كان مبدأ باطلا ، وأن الوفاء للمبادئ قد يصل إلى حد فدائها بالنفس والمال والأهل : موئا وبذلا وتقديما(۱) . ولو نظرنا في أصحاب المبادئ الدينية المختلفة وغير الدينية ، وفي قصص دفاعهم عنها ، ومشاهد حفاظهم عليها ، مما حفظه لنا التاريخ القريب والبعيد = لعلمنا أن الإيمان بالمبدأ هو المحرك الأقوى والحاكم الأكبر على نظرة الإنسان للأشياء وعلى قراراته وعلى تصرفاته وأفعاله . ولذلك فلا نستغرب أن يكون للعدالة الدينية هذا الأثر على نفس صاحبها ، ما دام أن الكذب عليه ينقض هذه العدالة ولا يجتمع معها في النفس في وقت واحد. فإذا كنا نتكلم عن الدين الحق ، ولا عرفت البشرية مثله (ولا قريبا منه في قوة الأدلة العقلية الملجئة إلى الإيمان فكيف سيصل اثر الايمان به في نفوس المؤمنين ؟! فلا يخلو وهو باستمراره للفسق لن يخفى أمژه فكيف يخفى على المقربين منه من عدول أهله وأصحابه ؟! الذين تلزمهم عدالتهم بالإفصاح عن حاله والإخبار عن جراحية) ، فحص أئمة النقد عن حاله والتحري في شأنه) . فإذا عرف بعدم العدالة وافضح بالفسق ، حتى في حال استمراره الفسوق ، - وإما أن يعاجل التوبة والإنابة ، ويسارع في العود إلى العدالة ، هذه من الكذب على النبي ؛ إلا إذا صرح بذبته وتبرأ منها ، وصحح النقل عنه ببيان ما تترد فيه . كما لم يلتبس حاله بأهل العدالة بعد أن غرف بكذبة واحدة على النبي ، أو بالعلم بكذبه بإعلانه هو به ؛ ولا يصح الاعتراض على منهجية وعقلانية هذا الشرط ؛ منها : وانظر في هذه المسألة : الكفاية للخطيب (۱/ ۳۶۲-۳۰۷) ، وفتح المغيث للسخاوي (۲/ ۲۳۰ - - - وإلى سؤاله عمن يشهد على صحة سماعه ممن روى عنه ، وإلى إلزامه بإخراج الأصل المكتوب والتأكد من صحته ، ولكثرة النقاد والمتحرين في أحوال النقلة ، وتوالي اجتهاداتهم وتتابع بحوثهم حول الراوي المعين نفسه من الرواة ، فلا وفي الأموال التي الأصل فيها الحرمة) أخا وإعطاء ، وفي مختلف أنواع النزاعات فصلا وإصلاحها . وما زال عقلاء الناس يرون هذا الاحتكام حافظا للحقوق ، محققا للعدالة، رغم ما يكتنفه من احتمالات ضئيلة للخطأ . هذا . فما دامت العقول قد أقرت بمنهج قبول شهادة الصادقين في تحقيق العدالة والفصل بين المتخاصمين ، وأقرت بمنهج تمييزهم عن غيرهم من الشهود الذين لا تقبل شهادتهم ، فليس في منهج قبول الرواة ما يستحق الرفض ؛ وهي الشهادة التي يحتكم إليها العقلاء جميعهم من جميع الأديان والأعراق وفي جميع الأزمان قدیمها والحديث !! بل شرط العدالة أدق وأقوى في تحقيق تلك الطمأنينة ، كما سبق بيانه . كما هو حال عقلاء بني آدم جميعهم ، لزمه (من باب لو بقي احتمال خفاء كذب الراوي على أهل الحديث في حديث واحد، فلا يقبل انفراد العدل مطلقا ، حتى من أهل الصلاح"، أحد، حتى أهل العلم الكبار والأئمة الأعلام) ، الذي إن لم يقم دليل أو قرينة على تعمد الكذب فيه ، كان ذلك سبا لرد الحديث الخطأ غير المتعمد ؛ وفق ضوابط دقيقة). وانظر كيف يفتضح الراوي عندهم بحديث واحد بعد أن كان متسترا بالصلاح والتصوير في الرواية : فقد سئل ابن معين عن العباس بن الفضل الواقفي ، ثم قال : «وضع حديثا لهارون الرشيد في الأمراء . لم يكن به بأس ، (ثم قال يحيى بن معين :) ولو أن رجلا يهم في الحديث بكذب حرف : هتك الله ستره») . وسيعلم بانفراده به ، ولن يقبل من راوية بسسب ذلك حتى جاء سؤاله هكذا بلا صيغة استفهام عنها ، فجاء سؤاله سؤال المتعجل في التحذير من ذلك الخطر العظيم المحدق ، لا يجد وقتا في تطويل السؤال عنه ، كما لا يؤثر إيلام نفسه بتطويل الحديث عن هذا المصاب الجلل ؛ ليكون هذا الجواب الهادئ أفضل جواب ، بل أفضل دواء لتلك النفسية المنزعجة ، التي أخرجت ذلك السؤال مستصرخ المخدر ، فقد حدث أبو إبراهيم الترجماني إسماعيل بن إبراهيم بن بسام البغدادي (ت ۲۳۶ ه) ، فأمر بضرب عنقه ، فقال له الزنديق : لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين ؟! قال :أريح العباد منك ، قال : فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال : فأين أنت - يا عدو الله - من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينځلانها فيخرج منها حرفا حرفا)) . وقال ابن معين لرجل من أهل الحديث : «لولا الجهابذة لكثير الشوقة) واليوفي في رواية الشريعة . فهل ما سمعت ، ولذلك لما ادعى أحد الجهلة بالسنة وعلومها أنه قد أدخل الزنادقة على المحدثين ألوف الأحاديث المكذوبة ، فتد الإمام الدارمي (ت ۲۸۰ه) دعواه هذه ، دلسوا على المحدثين ؟! فدونك أيها الناقد البصير الفارس النحرير ! فوجدنا منها اثني عشر حديثا ؛ فلم تهجن العلم والدين في أعين الجهال بخرافاتك هذه ؟!! »۲) . ولا تبديل إسنا مكان إسنا ، وتقديم كلمة من تأخيرها ، ويصون عليهم أغلاطهم ومدرساتهم ، وتزري بهم من أعين من حواليك من السفهاء ، فدونك أيها المعارض : فوجدنا عشرة أحاديث دلسوا على أهل العلم ، كما أوجدنا مما دلسوا على إمامك المريسي ، أو جرب أنت فدلس عليهم منها عشرة ، حتى تراهم كيف يردونها في وكيف دلس الزنادقة على أهل الحديث اثني عشر ألفا ؟! ولم يبلغ ماژوي عن رسول الله وأصحابه اثني عشر ألف حديث ، بغیر تکرار (إن شاء الله) ؛ إذن رواياتهم كلها من وضع الزنادقة في دعواك !) . لا تظنون أن أحدا يقدر يكذب على رسول الله به وأنا حي. ولئن كان الإمام الدارقطني يعتز بمقدرته الفائقة على حماية السنة من الكذب ، فقد كان غيژه يشهد الناس له بذلك ، حيث جاء من بغداد للحج، وودي على نعشه : «هذه جنازة يحيى بن معين : الذاتي الكذب عن رسول الله » ) . وأنا لا أحتج بهذه العبارات ؛ إلا لإثبات أن التحرر من الكذب كان أظهر ما اعتني به المحدثون ، إلا فيما اعتقده من الهوى ، ولا يعمل به . ولا تقبل شهادة لنفسه ، ولا لابنه ، ولا فيما جر إليه نفعا ، لأن نفسه ثريه أن الحق فيما اعتقده ، وكذلك أصحاب الحديث فيما انتحلوا، فمن أين علموا علما يقينا أنهم على الحق ؟! قيل لهم : إن أهل المقالات (وإن اختلفوا ، ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعا إليه) فإنهم مجمعون لا يختلفون على أن : من اعتصم بكتاب الله عز وجل ، واستفتح باب الرشد، وليس يدفع أصحاب الحديث عن ذلك ؛ إلا ظالم ؛ ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين ، على ما أعلمتك . وأما المتناقض : فنحن ماخبروك بالمخارج منه ، ومنبهوك على ما تأځر عنه علمك ، وبالله الثقة وهو المستعان»(۲) . وأن اقتصارها في علمهم على الحفظ فهو من وجه آخر شهادة تزكية لهم ونقلهم ! فنقص فهمهم ، إلا ما يستنبطه لهم الفقهاء من مروياتهم !! (2) تأويل مختلف مع علمه بتوثيق الأئمة وثنائهم الكبير في ابن إسحاق ؛ مما يدل على أنه يقصد بهذا الإجماع : أن من أثنى عليه إنما قبله إذا لم يش بحكم من الأحكام . وقد ذكر الخطيب نفسه شيئا كثيرا منه في ترجمته الواسعة لابن إسحاق (۲) .