الْيَوْمَ أَصَرَّ أَحْمَدُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ أُمِّهِ إلى السّوقِ. كانَتْ قَدْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ مُصاحَبَتِها بَعْدَ أَنْ عانَتْ مِنْ مَشاكِلَ عَديدَةٍ تَسَبَّبَ فيها. الْيَوْمَ أَصَّرَ عَلَيْها بِالذَّهابِ مَعَها. وَاسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ بِقَفَصٍ وَجِوالٍ وَسارَ وَراءَها. كَثيرًا ما طَلَبَ مِنْها أَنْ تَجْلِسَ في الْبَيْتِ وَتَتْرُكَهُ هُوَ يَعْمَلُ، ابْتَسَمَتْ وَقالَتْ لَهُ: أَنْتَ لا تَزالُ صَغيرًا. كانَ يُريدُ أَنْ يَقولَ لَها أَنَّهُ لَيْسَ صَغيرًا، لكِنَّها لَمْ تَكُنْ تَتْرُكُ لَهُ فُرْصَةَ مُناقَشَتِها!حينَما وَصَلا إلى السّوقِ وَجَدا سَيِّدَةً تَفْرِشُ بِضاعَتَها مَكانَ أُمِّهِ. لكِنَّ السَّيِّدَةَ رَفَضَتْ قائِلَةً: الْأَماكِنُ كَثيرَةً، رَفَضَتْ أُمُّ أَحْمَدَ وَأَصَرَّتْ أَنْ تَجْلِسَ في مَكانِها الْمُعْتادِ، صَرَخَ أَحْمَدُ في وَجْهِ الْمَرْأَةِ: قومي يا سِتُّ. نَبَّهَتْهُ أُمُّهُ بِإِشارَةٍ مِنْ يَدِها وَتَوَجَّهَتْ إلى السَّيِّدَةِ قائِلَةً: هَلْ تَرْضينَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مَكانَكِ؟! حينَما وَصَلا إلى السّوقِ وَجَدا سَيِّدَةً تَفْرِشُ بِضاعَتَها مَكانَ أُمِّهِ. لكِنَّ السَّيِّدَةَ رَفَضَتْ قائِلَةً: الْأَماكِنُ كَثيرَةً، رَفَضَتْ أُمُّ أَحْمَدَ وَأَصَرَّتْ أَنْ تَجْلِسَ في مَكانِها الْمُعْتادِ، صَرَخَ أَحْمَدُ في وَجْهِ الْمَرْأَةِ: قومي يا سِتُّ. نَبَّهَتْهُ أُمُّهُ بِإِشارَةٍ مِنْ يَدِها وَتَوَجَّهَتْ إلى السَّيِّدَةِ قائِلَةً: هَلْ تَرْضينَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مَكانَكِ؟! - آثَرْتُ السَّلامَةَ وَجِئْتُ إلى هُنا! - وَلِماذا لَمْ تُصِرّي أَنْ يُخْلي لَكِ مَكانَكِ؟ - رُبَّما أَدّى ذلِكَ إلى مُشْكِلَةٍ- وَماذا تَتَوَقَّعينَ أَنْ أَفْعَلَ؟ - سَيَضَيعُ الْوَقْتُ في نَقْلِ الْبِضاعَةِ. - سَيَضَيعُ الْوَقْتُ في نَقْلِ الْبِضاعَةِ. - نَعَمْرَدَّتْ أُمُّ أَحْمَدَ بِقُوَّةٍ وَحَزْمٍ. فَكَّرَتِ الْمَرْأَةُ قَليلًا ثُمَّ قالَتْ: لا داعِيَ لِشَيْءٍ، نَظَرَتْ أُمُّ أَحْمَدَ إلى ابْنِها وَابْتَسَمَتْ، وَقالَتْ لِابْنِها: بِهُدوءٍ وَبِلا انْفِعالٍ، فَكَّرَتِ الْمَرْأَةُ قَليلًا ثُمَّ قالَتْ: لا داعِيَ لِشَيْءٍ، نَظَرَتْ أُمُّ أَحْمَدَ إلى ابْنِها وَابْتَسَمَتْ، وَقالَتْ لِابْنِها: بِهُدوءٍ وَبِلا انْفِعالٍ، وَجَلَسَ أَحْمَدُ بِجانِبِها عَلى أَحَدِ الْأَقْفاصِ وَسُرْعانَ ما تَوافَدَتِ الزَّبائِنُ، وَكانَ أَحْمَدُ يَتَحَمَّسُ في بَعْضِ الْأَوْقاتِ وَيُنادي مَعَها، فَقالَتْ أُمُّهُ ضاحِكَةً: اسْكُتْ وَإِلّا فَسَتَهْرُبُ مِنّا الزَّبائِنُ. إلى أَنْ جاءَ وَلَدٌ يَصْغُرُ أَحْمَدَ قَليلًا، وَقَفَ أَمامَ أُمِّ أَحْمَدَ وَوَجَّهَ كَلامَهُ إلَيْها قائِلًا: أُريدُ "كيلو بَطاطِس". - حاضِرٌ يا نورَ عَيْنَيَّ. تَناوَلَتْ أُمُّ أَحْمَدَ كيسًا وَبَدَأَتْ تَضَعُ فيهِ الْبَطاطِسَ. صَرَخَ الْوَلَدُ بِحِدَّةٍ: انْتَظِري! - قالَ الْوَلَدُ بِلَهْجَةٍ آمِرَةٍ: هذِهِ الْحَبَّةُ صَغيرَةٌ، وَراحَتْ تَنْتَقي الْحَبّاتِ الْكَبيرَةَ لكِنَّ الْوَلَدَ صاحَ مَرَّةً أُخْرى: وَهذِهِ خَضْراءُ. أَنْهَتْ أُمُّ أَحْمَدَ وَزْنَ الْبَطاطِسِ وَسْطَ احْتِجاجاتِ الْوَلَدِ وَطَلَباتِهِ الَّتي لا تَنْتَهي، وَأَحْمَدُ لا يُريدُ أَنْ يَتَدَخَّلَ رَغْمَ أَنَّ داخِلَهُ يَفورُ وَيَغْلي. بَعْدَ ذلِكَ قالَ الْوَلَدُ: أُريدُ كيلو باذِنْجان، لا أُريدُهُ أَنْ يَكونَ كَالْبَطاطِسِ الَّتي وَضَعْتَها عَلى مَزاجِكَ. اغْتاظَ أَحْمَدُ مِنَ اللَّهْجَةِ الَّتي يَتَكَلَّمُ بِها الْوَلَدُ مَعَ أُمِّهِ، "وَمالُها الْبَطاطِسُ؟ أَلَمْ تُعْطِكَ ما تُريدُ؟!" قالَ أَحْمَدُ حانِقًا. أَنْهَتْ أُمُّ أَحْمَدَ وَزْنَ الْبَطاطِسِ وَسْطَ احْتِجاجاتِ الْوَلَدِ وَطَلَباتِهِ الَّتي لا تَنْتَهي، وَأَحْمَدُ لا يُريدُ أَنْ يَتَدَخَّلَ رَغْمَ أَنَّ داخِلَهُ يَفورُ وَيَغْلي. بَعْدَ ذلِكَ قالَ الْوَلَدُ: أُريدُ كيلو باذِنْجان، لا أُريدُهُ أَنْ يَكونَ كَالْبَطاطِسِ الَّتي وَضَعْتَها عَلى مَزاجِكَ. اغْتاظَ أَحْمَدُ مِنَ اللَّهْجَةِ الَّتي يَتَكَلَّمُ بِها الْوَلَدُ مَعَ أُمِّهِ، "وَمالُها الْبَطاطِسُ؟ أَلَمْ تُعْطِكَ ما تُريدُ؟!" قالَ أَحْمَدُ حانِقًا. فَهَزَّ الْوَلَدُ رَأْسَهُ بِاسْتِخْفافٍ وَقالَ: لا تَتَدَخَّلْ أَنْتَ. أَحْمَدُ يَغْلي كَالْمِرْجَلِ. - قالَ أَحْمَدُ مُعْتَرِضًا: أَلا تَرَيْنَ طَريقَتَهُ؟! بِباطِنِ أَحْمَدَ بُرْكانٌ مُتَلاطِمُ الْحُمَمِ. - حاضِرٌ يا حَبيبي سَأُعْطيكَ ما تُريدُ وَأَكْثَرَ، أَعْطِني حاجَتي وَلا شَأْنَ لَكَ بي. صاحَ أَحْمَدُ وَعَيْناهُ تَتَوَهَّجانِ: أَرَأَيْتِ؟! لَمْ يَعُدْ أَحْمَدُ يَسْتَطيعُ الِاحْتِمالَ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ. صاحَ بِكُلِّ الْغَضَبِ الَّذي بِداخِلِهِ: - خُذْ. فَوَقَعَ الْوَلَدُ عَلى الْأَرْضِ، لكِنَّ أَحْمَدَ كانَ كَالْإِعْصارِ الْهائِجِ، وَبَعْضُ الْواقِفينَ يُحاوِلونَ الْفَصْلَ بَيْنَهُما. وَراحَتْ أُمُّ أَحْمَدَ تُنادي صارِخَةً: أَحْمَدُ . لكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطيعوا أَنْ يُبْعِدوهُ عَنْهُ إِلّا بَعْدَ أَنْ نَكَّلَ بِهِ تَنْكيلًا أَبو أَحْمَدَ وَجَدَّتُهُ وَأُمُّهُ الَّتي كانَ عَلَيْها أَنْ تَشْهَدَ أَحْداثًا مُؤْسِفَةً وَقَعَتْ بَعْدَ مُشاجَرَةِ ابْنِها مَعَ الْوَلَدِ. وَجاءَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بَعْدَ أَنْ أَسْعَفوهُ وَتَطَوَّعَ الْبَعْضُ بِتَوْصيلِهِ إلى الْبَيْتِ، وَلَمْ تَتَوَقَّفْ بالرغم مِنْ مُحاوَلاتِ أُمِّ أَحْمَدَ لِتَطْييبِ خاطِرِها. أَرادَتْ أُمُّ الْوالِدِ الذَّهابَ إلى نُقْطَةِ الشُّرْطَةِ، وَبَعْدَ مَجْهودٍ كَبيرٍ وَمُحاوَلاتٍ لا تَنْتَهي نَجَحوا في النِّهايَةِ، وَاضْطُرَّتْ أُمُّ أَحْمَدَ إلى الِاعْتِذارِ لَها وَلِابْنِها وَلِكُلِّ مَنْ جاءَ مَعَها. أَمّا أَحْمَدُ فَلَمْ يَكُنْ نادِمًا عَلى ما فَعَلَهُ؛ فَرَأْيُهُ أَنَّ الْوَلَدَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ، وَخاصَّةً أَبوهُ الَّذي لا تَسْمَحُ حالَتُهُ الصِّحِّيَّةُ بِاحْتِمالِ مِثْلِ تِلْكَ الْأَخْبارِ الْمُزْعِجَةِ، وَالِانْفِعالاتِ الشَّديدَةِ الَّتي تَحْدُثُ- غالِبًا- مَعَها وَالْحَقيقَةُ أَنَّ أَباهُ شَعَرَ بِالْحُزْنِ لِتَصَرُّفِ ابْنِهِ بِهذِهِ الطَّريقَةِ، وَشَعَرَ بِالْقَلَقِ فَلَوْ أَنَّ أَمْرًا كَهذا تَكَرَّرَ وَتَعَرَّضَتِ الْأُسْرَةُ لِأَذًى مِنْ أَيِّ نَوْعٍ فَمَنِ الَّذي سَيَقِفُ لَهُمْ وَمَنِ الَّذي سَيَحْميهِمْ؟! هُوَ عاجِزٌ أَقْعَدَهُ الْمَرَضُ، وَمِثْلُ هذِهِ الْمَشاكِلِ تَحْتاجُ لِحائِطٍ قَوِيٍّ مَنيعٍ! خَيَّمَتْ أَجْواءُ الْكَآبَةِ عَلى الْبَيْتِ، اللَّتانِ انْزَوَتا عَلى نَفْسَيْهِما تُتابِعانِ ما يَحْدُثُ بِعَدَمِ فَهْمٍ، كانَتا تَشْعُرانِ أَنَّ أَمْرًا غَيْرَ سارٍّ يَحْدُثُ لِلْأُسْرَةِ، رُبَّما كانَ الْأَمْرُ يَنْطَبِقُ أَكْثَرَ عَلى الصُّغْرى. وَالْحَقيقَةُ أَنَّ أَباهُ شَعَرَ بِالْحُزْنِ لِتَصَرُّفِ ابْنِهِ بِهذِهِ الطَّريقَةِ، وَشَعَرَ بِالْقَلَقِ فَلَوْ أَنَّ أَمْرًا كَهذا تَكَرَّرَ وَتَعَرَّضَتِ الْأُسْرَةُ لِأَذًى مِنْ أَيِّ نَوْعٍ فَمَنِ الَّذي سَيَقِفُ لَهُمْ وَمَنِ الَّذي سَيَحْميهِمْ؟! هُوَ عاجِزٌ أَقْعَدَهُ الْمَرَضُ، وَمِثْلُ هذِهِ الْمَشاكِلِ تَحْتاجُ لِحائِطٍ قَوِيٍّ مَنيعٍ! خَيَّمَتْ أَجْواءُ الْكَآبَةِ عَلى الْبَيْتِ، اللَّتانِ انْزَوَتا عَلى نَفْسَيْهِما تُتابِعانِ ما يَحْدُثُ بِعَدَمِ فَهْمٍ، كانَتا تَشْعُرانِ أَنَّ أَمْرًا غَيْرَ سارٍّ يَحْدُثُ لِلْأُسْرَةِ، رُبَّما كانَ الْأَمْرُ يَنْطَبِقُ أَكْثَرَ عَلى الصُّغْرى. وَبِالنِّسْبَةِ لِجَدَّتِهِ فَقَدْ حَزِنَتْ أَكْثَرَ لِما حَدَثَ، وَراحَتْ تَلومُ حَفيدَها وَلكِنْ بِلُطْفِها وَعَطْفِها الْمَعْهودَيْنِ طالِبَةً مِنْهُ أَنْ لا يَعودَ لِمِثْلِ هذِهِ التَّصَرُّفاتِ مِنْ جَديدٍ. وَبَدَّدَ تَماسُكَها أَوْ ما كانَتْ تَتَظاهَرُ بِهِ مِنْ تَماسُكٍ. شَعَرَتْ أَنَّها -هِيَ عَمودُ الْبَيْتِ الْآنَ- ضَعيفَةٌ، ماذا سَيَحْدُثُ في الْمُسْتَقْبَلِ؟ هَلْ تَسْتَطيعُ السَّيْرَ في هذا الطَّريقِ، رَغْمَ أَنَّها مُهَدَّدَةٌ في أَيِّ لَحْظَةٍ؟ لِماذا يَنْشَأُ بَعْضُ الْأَوْلادِ بِهذِهِ الْقَسْوَةِ عَلى والِديهمْ؟! لِماذا لا يَقُدِّرونَ مَتاعِبَهُمْ وَيُخَفِّفونَ مِنْ أَحْمالِهِمُ الَّتي يَحْمِلونَها بِغَيْرِ إرادَةٍ وَبِغَيْرِ سابِقِ إنْذارٍ؟ إيه يا أَحْمَدُ! لِماذا هذِهِ الْأَفْعالُ؟ وَلاذَتْ بِصَمْتٍ يُجَلِّلُهُ الْحُزْنُ، وَلَمْ تُسْعِفْ كَلِماتُ أَحَدٍ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ تُخَفِّفَ عَنْها، حَتّى الْكَلِماتُ الَّتي دارَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَبَيْنِها كانَتْ قَصيرَةً مَبْتورَةً كَأَنَّما يَتِمُّ اقْتِطاعُها بِأَحْجامٍ صَغيرَةٍ مِنْ جِبالٍ بَعيدَةٍ، حَتّى يَسْتَطيعُ حامِلُها السَّيْرَ بِها عَبْرَ مَسافاتٍ طَويلَةٍ. شَعَرَتْ أَنَّها -هِيَ عَمودُ الْبَيْتِ الْآنَ- ضَعيفَةٌ، ماذا سَيَحْدُثُ في الْمُسْتَقْبَلِ؟ هَلْ تَسْتَطيعُ السَّيْرَ في هذا الطَّريقِ، رَغْمَ أَنَّها مُهَدَّدَةٌ في أَيِّ لَحْظَةٍ؟ لِماذا يَنْشَأُ بَعْضُ الْأَوْلادِ بِهذِهِ الْقَسْوَةِ عَلى والِديهمْ؟! لِماذا لا يَقُدِّرونَ مَتاعِبَهُمْ وَيُخَفِّفونَ مِنْ أَحْمالِهِمُ الَّتي يَحْمِلونَها بِغَيْرِ إرادَةٍ وَبِغَيْرِ سابِقِ إنْذارٍ؟ إيه يا أَحْمَدُ! لِماذا هذِهِ الْأَفْعالُ؟ وَلاذَتْ بِصَمْتٍ يُجَلِّلُهُ الْحُزْنُ، وَلَمْ تُسْعِفْ كَلِماتُ أَحَدٍ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ تُخَفِّفَ عَنْها، حَتّى الْكَلِماتُ الَّتي دارَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَبَيْنِها كانَتْ قَصيرَةً مَبْتورَةً كَأَنَّما يَتِمُّ اقْتِطاعُها بِأَحْجامٍ صَغيرَةٍ مِنْ جِبالٍ بَعيدَةٍ، حَتّى يَسْتَطيعُ حامِلُها السَّيْرَ بِها عَبْرَ مَسافاتٍ طَويلَةٍ. عادَ أَحْمَدُ يُؤَنِّبُ نَفْسَهُ عَلى هذِهِ الطَّريقَةِ الَّتي يَتَصَرَّفُ بِها، ظَلَّ يُرَدِّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، لكِنَّ سَطْحَ الْبَيْتِ يَسْتَقْبِلُها بِصَوْتٍ مَكْتومٍ، تُرى ماذا يَحْدُثُ؟! الصَّوْتُ في تَصاعُدٍ مُسْتَمِرٍّ، سَطْحُ الْبَيْتِ يَسْتَقْبِلُها بِصورَةٍ واهِنَةٍ. كُلَّما تَصاعَدَ صَوْتُها وَعَلَتْ نَبْرَتُهُ عَرَفَ أَنَّ سَطْحَ الْبَيْتِ يَتَداعى أَمامَها. السَّماءُ تَشُقُّها سِكّينٌ مِنْ نارٍ، فَكَيْفَ أَمْطَرَتْ بِهذِهِ الْغَزارَةِ في الصَّيْفِ؟! الْمَطَرُ لا يَتَوَقَّفُ، وَفي الشِّتاءِ يَكْتَفي بِغِطاءٍ خَفيفٍ يَشْعُرُ مَعَها بِالدِّفْءِ وَالِاحْتِماءِ. ما الَّذي تَغَيَّرَ؟! مِنْ أَيْنَ يَأْتي الْآنَ بِغِطاءٍ ثَقيلٍ؟! لا يُريدُ أَنْ يُزْعِجَ أُمَّهُ أَوْ أَباهُ أَوْ جَدَّتَهُ. وَلكِنْ لَوْ ظَلَّ الْحالُ عَلى هذا الْوَضْعِ فَرُبَّما تَجَمَّدَتْ أَوْصالُهُ. وَالْأَرْضُ تَحَوَّلَتْ إلى بِرَكٍ موحِلَةٍ، سَيَكونُ الْغَدُ عَصيبًا عَلى الْجَميعِ. وَفي الشِّتاءِ يَكْتَفي بِغِطاءٍ خَفيفٍ يَشْعُرُ مَعَها بِالدِّفْءِ وَالِاحْتِماءِ. ما الَّذي تَغَيَّرَ؟! مِنْ أَيْنَ يَأْتي الْآنَ بِغِطاءٍ ثَقيلٍ؟! لا يُريدُ أَنْ يُزْعِجَ أُمَّهُ أَوْ أَباهُ أَوْ جَدَّتَهُ. وَلكِنْ لَوْ ظَلَّ الْحالُ عَلى هذا الْوَضْعِ فَرُبَّما تَجَمَّدَتْ أَوْصالُهُ. وَالْأَرْضُ تَحَوَّلَتْ إلى بِرَكٍ موحِلَةٍ، سَيَكونُ الْغَدُ عَصيبًا عَلى الْجَميعِ. قَطَراتٌ كَبيرَةٌ بِحَجْمِ حَبّاتِ اللَّيْمونِ. أَيُّ مَطَرٍ هذا وَماذا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ بِبُيوتِ الْقَرْيَةِ الطّينِيَّةِ؟! قَبْلَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ في تَساؤُلاتِهِ اشْتَدَّ انْهِمارُ الْمَطَرِ. دَقَّ قَلْبُهُ بِعُنْفٍ. ماذا يَحْدُثُ؟ عِمْلاقٌ مِنَ الْخَوْفِ يَحِلُّ في صَدْرِهِ، يُريدُ أَنْ يوقِظَ أَهْلَ الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ تَحْدُثَ كارِثَةٌ. حاوَلَ أَنْ يَمْضِيَ إلى الْخارِجِ حَيْثُ يوجَدُ أَبوهُ وَجَدَّتُهُ. أَخَذَ الْماءُ يَهْطِلُ مِنْ خِلالِهِ بِلا تَوَقُّفٍ. نادى بِأَعْلى صَوْتٍ عَلى أُمِّهِ، يَبْكي، - سَأَموتُ. وَيَقَعُ بِجِوارِهِ بِدَوِيٍّ هائِلٍ. السَّقْفُ يَنْهارُ تَمامًا، السَّماءُ بَكّاءَةٌ كَأَنَّها في أَشَدِّ حالاتِ الْحُزْنِ. لا يَزالُ في الْغُرْفَةِ، ما هذِهِ الْكَوابيسُ الَّتي باتَتْ تُنَغِّصُ نَوْمَهُ. كُلَّما غَفِلَتْ عَيْنُهُ دَخَلَ في عَوالِمَ مَقيتَةٍ، السَّقْفُ يَنْهارُ تَمامًا، السَّماءُ بَكّاءَةٌ كَأَنَّها في أَشَدِّ حالاتِ الْحُزْنِ. لا يَزالُ في الْغُرْفَةِ، ما هذِهِ الْكَوابيسُ الَّتي باتَتْ تُنَغِّصُ نَوْمَهُ. كُلَّما غَفِلَتْ عَيْنُهُ دَخَلَ في عَوالِمَ مَقيتَةٍ، وَتُهَرْوِلُ إلَيْهِ، لا تَخَفْ. يَهْدَأُ قَليلًا، وَجَبينُهُ مُتَأَلِّقٌ بِحَبّاتِ الْعَرَقِ. ماذا يَحْدُثُ لي؟ يَلُفُّهُما الصَّمْتُ، ي الصَّباحِ، ثَوانٍ وَأَخَذَ نَفَسًا عَميقًا وَطَرَدَ تَرَدُّدَهُ وَقالَ: أُمّي، وَاتَّسَعَتْ عَيْناها بِشِدَّةٍ. بِرَغْمِ عَدَمِ مُوافَقَتِها، - لا شَيْءَ، فَحالُ الْأُسْرَةِ هُوَ السَّبَبُ. في الصَّباحِ، ثَوانٍ وَأَخَذَ نَفَسًا عَميقًا وَطَرَدَ تَرَدُّدَهُ وَقالَ: أُمّي، وَاتَّسَعَتْ عَيْناها بِشِدَّةٍ. بِرَغْمِ عَدَمِ مُوافَقَتِها، - لا شَيْءَ، فَحالُ الْأُسْرَةِ هُوَ السَّبَبُ. في مِثْلِ هذِهِ الْأَيّامِ كانَ يَطيرُ فَرَحًا وَهُوَ يَقيسُ قَميصَهُ وَبِنْطالَهُ الْجَديدَيْنِ (أَوْ قَميصَيْهِ وَبِنْطالَيْهِ، وَإِمّا يُفَصِّلُها لَهُ عَمُّ سَلامَةَ الْخَيّاطِ. يَعودُ إلى الْبَيْتِ حامِلًا مَلابِسَهُ في يَدٍ وَدَفاتِرَ الْمَدْرَسَةِ في الْيَدِ الْأُخْرى يَكادُ لا تَحْمِلُهُ قَدَماهُ مِنَ الْفَرْحَةِ. وَأُخْتاهُ تَشْتَري لَهُما أُمُّهُما قِطْعَةَ قُماشٍ كَبيرَةً تَذْهَبُ بِها إلى الْخالَةِ فاطِمَةَ في بَيْتِها لِتُفَصِّلَ لَهُما مَرْيَلَتَيْنِ جَميلَتَيْنِ تُطَرِّزُ أَطْرافَهُما، وَياقَتَيْهِما بِماكينَةِ التَّطْريزِ الَّتي اشْتَرَتْها مُنْذُ عِدَّةٍ سَنَواتٍ وَاسْتَطاعَتْ أَنْ تَجْذِبَ الزَّبائِنَ بِفَضْلِها؛ فَلا أَحَدَ يَقْتَني ماكينَةً مِثْلَها في الْبَلَدِ. لَنْ تَسْتَطيعَ أُمُّهُ أَنْ تُوَفِّرَ لَهُ وَلِأُخْتَيْهِ احْتِياجاتِهِمْ، إنَّهُ يَعْرِفُ ذلِكَ، وَيُقَدِّرُ مَوْقِفَها وَيَتَمَنّى بِصِدْقٍ أَنْ تُتاحَ الْفُرْصَةُ لِيُساعِدَها. وَأَسْتَطيعُ أَنْ أَبْرَعَ فيهِ. - وَماذا أَيْضًا؟! - أَسْتَطيعُ أَنْ أَعْمَلَ كذلِكَ نَجّارًا أَوْ سَبّاكًا أَوْ صَبِيًّا في قَهْوَةٍ. هَزَّتْ أُمُّهُ رَأْسَها كَأَنَّما يُطْرِبُها الْكَلامُ. - ظَلَّتْ أُمُّهُ تَسْتَمِعُ إلَيْهِ. سَيَكونُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ أَتَعَلَّمَ حِرْفَةً. وَأَسْتَطيعُ أَنْ أَبْرَعَ فيهِ. - وَماذا أَيْضًا؟! - أَسْتَطيعُ أَنْ أَعْمَلَ كذلِكَ نَجّارًا أَوْ سَبّاكًا أَوْ صَبِيًّا في قَهْوَةٍ. هَزَّتْ أُمُّهُ رَأْسَها كَأَنَّما يُطْرِبُها الْكَلامُ. - ظَلَّتْ أُمُّهُ تَسْتَمِعُ إلَيْهِ. سَيَكونُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ أَتَعَلَّمَ حِرْفَةً. بَقِيَ أَحْمَدُ لِلَحَظاتٍ غَيْرَ مُصَدِّقٍ. كانَ يَظُنُّ أَنْ يَأْتِيَ رَدُّها رَفْضًا وَنَهْرًا وَزَجْرًا وَمُطالَبَةً بِإِكْمالِ تَعْليمِهِ في كُلِّ الْأَحْوالِ؛ وَلكِنْ ها هِيَ كَآخِرِ ما كانَ يَتَوَقَّعُهُ تُوافِقُ! قالَ بِلا حَماسَةٍ، وَفي نَفْسِ الْوَقْتِ دونَ الشُّعورِ بِالنَّدَمِ: شُكْرًا يا أُمّي لَقَدْ أَزَحْتِ عَنّي عِبْئًا ثَقيلًا. " قالَ أَحْمَدُ في نَفْسِهِ، فَمُؤَكَّدٌ كانَتْ لَدَيْهِ رَغْبَةٌ قَوِيَّةٌ في أَنْ يُكْمِلَ تَعْليمَهُ، بَقِيَ أَحْمَدُ لِلَحَظاتٍ غَيْرَ مُصَدِّقٍ. كانَ يَظُنُّ أَنْ يَأْتِيَ رَدُّها رَفْضًا وَنَهْرًا وَزَجْرًا وَمُطالَبَةً بِإِكْمالِ تَعْليمِهِ في كُلِّ الْأَحْوالِ؛ وَلكِنْ ها هِيَ كَآخِرِ ما كانَ يَتَوَقَّعُهُ تُوافِقُ! قالَ بِلا حَماسَةٍ، وَفي نَفْسِ الْوَقْتِ دونَ الشُّعورِ بِالنَّدَمِ: شُكْرًا يا أُمّي لَقَدْ أَزَحْتِ عَنّي عِبْئًا ثَقيلًا. " قالَ أَحْمَدُ في نَفْسِهِ، فَمُؤَكَّدٌ كانَتْ لَدَيْهِ رَغْبَةٌ قَوِيَّةٌ في أَنْ يُكْمِلَ تَعْليمَهُ، وَلكِنْ. يُمْكِنُني أَنْ أُكْمِلَ تَعْليمي لَدَيَّ الْعَديدُ مِنَ الْمَصانِعِ وَالْعُمّالِ وَالْمُهَنْدِسينَ وَالْأَطِبّاءِ وَ. وَمَنْ يَدْري؟ وَذاعَ الْخَبَرُ في الْبَيْتِ. نِعْمَ الرَّأْيِ يا أَحْمَدُ. هكَذا قالَتْ جَدَّتُهُ. أَمّا أَبوهُ فَقالَ: لَكَ ما تُريدُ يا بُنَيَّ. لا نَسْتَطيعُ أَنْ نَرْفُضَ لَكَ طَلَبًا. - سَتَتْرُكُ الْمَدْرَسَةَ يا أَحْمَدُ؟ لَنْ تَذْهَبَ مَعَنا بَعْدَ ذلِكَ؟ اِرْجِعْ في كَلامِكَ فَلا داعِيَ لِهذا! - أَنْتُما لا تَفْهَمانِ شَيْئًا. لَدَيَّ الْعَديدُ مِنَ الْمَصانِعِ وَالْعُمّالِ وَالْمُهَنْدِسينَ وَالْأَطِبّاءِ وَ. وَمَنْ يَدْري؟ وَذاعَ الْخَبَرُ في الْبَيْتِ. نِعْمَ الرَّأْيِ يا أَحْمَدُ. هكَذا قالَتْ جَدَّتُهُ. أَمّا أَبوهُ فَقالَ: لَكَ ما تُريدُ يا بُنَيَّ. لا نَسْتَطيعُ أَنْ نَرْفُضَ لَكَ طَلَبًا. - سَتَتْرُكُ الْمَدْرَسَةَ يا أَحْمَدُ؟ لَنْ تَذْهَبَ مَعَنا بَعْدَ ذلِكَ؟ اِرْجِعْ في كَلامِكَ فَلا داعِيَ لِهذا! عَيْناهُ مُتَطَلِّعَتانِ لِلْأَمانِ بِرَغْمِ أَيِّ شَيْءٍ. حَتّى وَلَوْ كانَ "عظم في قفة" كَما تَقولُ أُمُّهُ دائِمًا. في الْيَوْمِ التّالي، وَفَوْقَ هذِهِ الْأَقْفاصِ حَقائِبُ بلاستيكِيَّةٌ سَوْداءُ، وَضَعَتْ حِمْلَها وَنادَتْ عَلَيْهِ هُوَ وَأُخْتَيْهِ. عَيْناهُ مُتَطَلِّعَتانِ لِلْأَمانِ بِرَغْمِ أَيِّ شَيْءٍ. حَتّى وَلَوْ كانَ "عظم في قفة" كَما تَقولُ أُمُّهُ دائِمًا. في الْيَوْمِ التّالي، وَفَوْقَ هذِهِ الْأَقْفاصِ حَقائِبُ بلاستيكِيَّةٌ سَوْداءُ، وَضَعَتْ حِمْلَها وَنادَتْ عَلَيْهِ هُوَ وَأُخْتَيْهِ. طارَتْ أُخْتاهُ مِنَ الْفَرَحِ وَخَطَفَتْ كُلٌّ مِنْهُما مَرْيَلَتَها وَراحَتْ تُقَلِّبُ فيها، دونَ أَنْ تَلْبَسَها حَتّى لا تَتَكَسَّرَ أَوْ تَتَّسِخَ. حَمَلَتْها أُمُّهُ وَنَظَرَتْ إلَيْهِ بِابْتِسامَةٍ عَذْبَةٍ. - فَتَحَتْ أُمُّهُ اللُّفافَةَ، لِيَظْهَرَ بِداخِلِها مَلابِسُ رِجّالِيَّةٌ. لِمَنْ هذِهِ الْمَلابِسُ؟ هَلْ مُمْكِنٌ أَنْ يَحْدُثَ هذا؟! وَأَخْرَجَتْ أُمُّهُ بِنْطالًا رَمادِيًّا صَغيرًا وَقَميصًا أَزْرَقَ. وَحَقيبَةً مِنَ الْجِلْدِ، عَرَضَتْ كُلَّ ذلِكَ أَمامَهُ دونَ أَنْ تُكَلِّمَهُ كَلِمَةً واحِدَةً. - فَتَحَتْ أُمُّهُ اللُّفافَةَ، لِيَظْهَرَ بِداخِلِها مَلابِسُ رِجّالِيَّةٌ. لِمَنْ هذِهِ الْمَلابِسُ؟ هَلْ مُمْكِنٌ أَنْ يَحْدُثَ هذا؟! وَأَخْرَجَتْ أُمُّهُ بِنْطالًا رَمادِيًّا صَغيرًا وَقَميصًا أَزْرَقَ. وَحَقيبَةً مِنَ الْجِلْدِ، قَفَزَتْ أُخْتاهُ مِنَ الْفَرَحِ وَأَمْسَكَتْ واحِدَةً مِنْهُما بِالْقَميصِ، - لِأَحْمَدَ؟ وَقالَتْ أُخْتُهُ الْكَبيرَةُ: - وَراحَتا تَقْفِزانِ في سَعادَةٍ وَبَهْجَةٍ: هييييييييه . وَوَجَمَ هُوَ، ثُمَّ بَعْدَ قَليلٍ قالَ عابِسًا: لِمَنْ هذِهِ الْأَشْياءُ يا أُمّي؟ لِماذا اشْتَرَيْتِها؟ - لَكَ أَنْتَ. بَلْ يَجِبُ أَنْ تَلْتَزِمَ أَنْتَ بِقَرارِنا. وَوَجَمَ هُوَ، ثُمَّ بَعْدَ قَليلٍ قالَ عابِسًا: لِمَنْ هذِهِ الْأَشْياءُ يا أُمّي؟ لِماذا اشْتَرَيْتِها؟ - لَكَ أَنْتَ. بَلْ يَجِبُ أَنْ تَلْتَزِمَ أَنْتَ بِقَرارِنا. - وَلكِنْ يا أَبي. - وَلكِنْ وَحَرامٌ أَنْ تَتْرُكَ الْمَدْرَسَةَ، الْآنَ.