قد يسبق إلى الفهم من ذكر (علوم القرآن) تلك العلوم التي يمكن استنباطها من القرآن الكريم كعلم التوحيد أو علم الفقه ونحوهما، ولكن هذه العلوم أو المعارف القرآنية ليست هى المقصودة إذا أردنا (بعلوم القرآن) المعنى الاصطلاحي، ذلك أن القرآن الكريم منذ نزوله صار محوار لعلوم شتى، تتناول جوانب الدارسات القرآنية المتنوعة كعلم الق ارءات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك. وقد نشأت هذه العلوم مع نزول القرآن الكريم وكان من أولها ولا شك علم التفسير الذي أرساه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أخذه عنه بعض أصحابه فتحدثوا فيه وعرف عنهم وأخذه عنهم التابعون, المبرد وله كتاب معاني القرآن. تسمية الكتب المصنفة في تفسير القرآن ومنها كتاب ابن عباس رواه مجاهد ورواه عن مجاهد حميد بن قيس. ومعاني القرآن للأخفش. الكتب المؤلفة في غريب القرآن ومنها كتاب غريب القرآن لأبي عبيدة. - 19 - الب ازر. الكتب المؤلفة في النقط والشكل للقرآن ومنها كتاب الخليل في النقط. وكتاب اللامات للأخفش سعيد. والابتداء عن حمزة. الكتب المؤلفة في وقف التمام ومنها كتاب أحمد بن عيسى اللؤلؤي. العباس المبرد. المعتزلي. وكتاب ابن شبيب. وكتاب حمزة بن حبيب. الكتب المؤلفة في أج ازء القرآن ومنها كتاب أبي عمرو الدوري. سلام. الكتب المؤلفة في ناسخ القرآن ومنسوخه ومنها كتاب حجاج الأعور وكتاب ابن أبي داود السجستاني. الكتب المؤلفة في نزول القرآن ومنها كتاب الحسن بن أبي الحسين. بن إسحاق القاضي. الكتب المؤلفة في معان شتى من القرآن ومنها كتاب أحمد بن علي المهرجاني المقرئ في جوابات القرآن، الغريابي, كتاب المجاز لأبي عبيدة, كتاب قطرب فيما سأل عنه الملحدون من آي القرآن، كتاب المسائل في القرآن للجاحظ، كتاب المخلوق لأبي علي الجبائي، كتاب الحروف تأليف عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي، كتاب بشر بن المعتمر في متشابه القرآن، كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه لمحمد بن يزيد الواسطي(1) ومن خلال ما ذكره ابن النديم يتبين لنا النشأة المبكرة لعلوم القرآن ومدى الحرص البالغ من المسلمين على الاهتمام بكل ما يتعلق بالقرآن الكريم من علوم مختلفة ونتيجة لاتساع تلك العلوم وكثرة المؤلفات المدونة في كل واحد منها، فقد أرى العلماء أن يدونوا مؤلفات تحتوي خلاصة لتلك العلوم المتنوعة على سبيل الإجمال بحيث يكون ذلك مقدمة أو تمهيدا للوقوف على بعض تلك العلوم بشيء من التفصيل لمن شاء، وعلى هذا المنهج سار الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما من العلماء في العصر الحديث وحتى يومنا هذا، وهذا هو الم ارد بالمعنى الاصطلاحي لعلوم القرآن. واذا كنا قد عرفنا أن تاريخ علوم القرآن قد بدأ في عصر مبكر من تاريخ الإسلام فلنا أن نتساءل عن تاريخ تدوين علوم القرآن على النحو الإجمالي الذي أشرنا إليه يعني تاريخ المصنفات التي وضعت في ذكر (أنواع) العلوم المتخصة بالقرآن، وتستعرضهاعلى سبيل الإجمال لا التفصيل. واذا كان شأن 1- انظر: الفهرست لابن النديم – تحقيق محمد أحمد أحمد – المكتبة التوفيقية – بدون تاريخ، - 21 - هـذا الحد، فماذا يكون شـأن كل علم منها إذا فصل فيه القول على سبيل الاستقلال؟ وصدق الله إذ يقول: (ُقْل َلْو َكاَن اْلَبْحُر ِمَداًدا لِكلِماِت ربِي لنِفد البحر قبل أَن تنفد كلِمات ربِي ولو ِجئنا ِبِمثلِِه ََ(1)َِّ ََََََُْْْ ََََََُِّْْ ََْ َْ ْ َمَدًدا) والحقيقة أن بداية تدوين (علوم القرآن) على الطريقة الإجمالية يكتنفه شيء من الغموض حتى لا يمكن للباحث أن يحدد تاريخا دقيقا لذلك، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه, كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته من المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة، ما يهز القلوب طربا ويبهر العقول عجبا، معينا للمفسر على حقائقه، ومطلعا على بعض أسارره ووقائعه"(2) وكلام الزركشي مشعر بأنه هو واضع هذه الطريقة الإجمالية للتأليف في علوم القرآن، ويؤكد على هذا ما ذكره السيوطي (ت 911هـ) في (الإتقان في علوم القرآن) تعقيبا على ما ذكره عن كتابه (التحبير في علوم التفسير) من تناوله لبعض مباحث علوم القــرآن، غير مسبوق بالخوض في هذه المسالك، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، إذ بلغني أن الشيخ الإمام بدر الدين محمد - 22 - بن عبد الله الزركشي أحد متأخري أصحابنا الشافعيين، ألف كتابا في ذلك حافلا يسمى البرهان في علوم القرآن فتطلبته حتى وقفت عليه"(1) وما ذكره السيوطي يؤكد على أن واضع هذا النمط من التأليف في (علوم القرآن) هو الإمام الزركشي، علوم القرآن. ويدل على ذلك أيضا قوله قبل ذلك "ولقد كنت في زمان الطلب أتعجب من المتقدمين إذ لم يدونوا كتابا في أنواع علوم القرآن كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، وعين الأوان، أبا عبد الله محيى الدين الكافيجي مد الله في أجله وأسبغ عليه ظله يقول: قد دونت في علوم التفسير كتابا لم أسبق إليه، فكتبته عنه فإذا هو صغير الحجم جدا، وحاصل ما فيه بابان: الأول: في ذكر معنى التفسير والتأويل والقرآن والسورة والآية. والثاني: في شروط القول فيه بال أري. وبعدها خاتمة في آداب العالم والمتعلم، فلم يشف لي ذلك غليلا، ولم يهدني إلى المقصود سبيلا. قاضي القضاة وخلاصة الأنام، وحامل لواء المذهب المطلبي، - 23 - ومجموعا ظريفا، ذا ترتيب وتقدير وتنويع وتحبير"(1). لكنه يتحدث عن الأنواع التي ذكرها الشيخ جلال الدين فيقول "ثم تكلم في كل نوع منها بكلام مختصر يحتاج إلى تحرير وتتمات، وزوائد مهمات"(2) وما ذكره السيوطي يؤكد على عدم ذيوع هذا اللون من التأليف في علوم القرآن في عصر السيوطي وما قبله، وانما هي طائفة يسيرة، ونبذة قصيرة: (فنون الأفنان في علوم القرآن) لابن الجوزي. و(جمال الق ارء) للشيخ علم الدين السخاوي. و(المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز) لأبي شامة. و(البرهان في مشكلات القرآن) لأبي المعالي عزيز بن عبد الملك المعروف بشيذلة. وكلها بالنسبة إلى نوع هذا الكتاب كحبة رمل في جنب رمل عاج، ونقطة قطر في حيال بحر ازخر" (3) وابن الجوزي من علماء القرن السادس الهجري توفي (597هـ) وكذلك أبو شامة من علماء القرن السابع الهجري توفي (665هـ) فإذا علمنا هذا علمنا أن الزركشي المتوفى (794هـ) كان مسبوقا إلى هذه الطريقة من التأليف في علوم القرآن بطائفة من علماء القرن - 24 - السادس والسابع وان كانوا قلة ولم يبلغوا مبلغه في الاتساع في ذكر أنواع علوم القرآن. علوم القرآن هو القر السابع. مرتبة ولا متعاقبة من نسخة مخطوطة. واذن نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان أي إلى بداية القرن الخامس بدلا من القرن السابع، ولقد كنت مشغوفا أن أق أر مقدمة كتابه هذا لآخذ اعت ارفا صريحا منه بمحاولته إنشاء هذا العلم الوليد، ولكن ماذا أصنع والجزء الأول مفقود غير أن اسم الكتاب يدلني على هذه المحاولة"1. لكن هذا ال أري الذي تفرد به الشيخ الزرقاني من التأريخ لبداية التدوين في (علوم القرآن) على النحو الإجمالي لا يمكن القول به اعتمادا على أن عنوانه يحمل اسم علوم القرآن وحسب، لا سيما وأن كثي ار من المؤلفات قبل هذا التاريخ وبعده تحمل في عناوينها هذا التركيب دون أن تكون من هذا النمط من المؤلفات التي نتحدث عنها فيما يختص بعلوم القرآن على النحو الاصطلاحي، ومما يزيد رفضنا لهذا ال أري قول الشيخ الزرقاني نفسه بعد ذلك عن الكتاب "وكذلك استعرضت بعض الأج ازء الموجودة ف أريته يعرض الآية الكريمة بترتيب المصحف ثم يتكلم عليها من علوم القرآن، فيسوق وبعد أن يفرغ النحوية واللغوية، ثم يتبع ذلك بهذا العنوان: (القول في المعنى ثم ينتقل من الشرح إلى الوقف وما لا يجوز، في الق ارءة)، وقد يتكلم في الأحكام الشرعية التى تؤخذ من الآية عند عرضها ففي آية (وأَِقيموا ال َّصلاة وآتوا الَّزكاة وما تقِدموا لأنفِسكم ِمن َُ ََُ َََََُُِّ ُُْْْ ٍ ِ ِ ِ(1) َخْير تَجُدوهُ عْنَد َّاللّ) من سورة البقرة يذكر أوقات الصلاة وأدلتها، وأنصبة الزكاة ومقاديرها ويتكلم عن أسباب النزول وعلى النسخ وما إلى ذلك عند المناسبة، فأنت ترى أن هذا الكتاب أتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها، حتى كأن هذا التأليف تفسير من2التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات" ونحن بعد هذا العرض الذي عرض الشيخ الزرقاني لمنهج الحوفي في كتابه البرهان لا نجد مجالا للشك في أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون تفسي ار للقرآن الكريم ولا علاقة له بطريقة المتأخرين عنه في التصنيف في علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي أو الإجمالي. وعلى كل حال فإن كان من العسير أن نحدد بدقة تاريخ بدء التدوين في (علوم القرآن) بالمعنى الإجمالي أو الاصطلاحي فإن من المؤكد أن التدوين في علوم القرآن بهذا النحو صار في العصور المتأخرة - 26 - محل اهتمام كبير وعناية بالغة من علماء الد ارسات القرآنية فألفت فيه العديد من المؤلفات، وان كان كثير منها يقتصر على عرض طائفة يسيرة من العلوم القرآنية مفضلا الإفاضة في ذكر جوانب تلك العلوم الغاية من علوم القرآن والغاية الرئيسية التي تسعى إليها علوم القرآن هى الوقوف على م ارد الله من كلامه وتبين أحكامه في قرآنه, والدلالة على إعجاز القرآن الدال على صدق النبوة لذلك فلا غنى للمفسر والباحث في إعجاز القرآن عن الوقوف على تلك العلوم القرآنية للاستعانة بها في تفسير القرآن وبيان إعجازه،