لا أُحاوِلُ أَنْ أَدَّعيَ أَنَّني أَصْبَحْتُ حَكيمَةً مُقارَنَةً بِما كُنْتُ عَلَيْهِ قَبْلَ ثَلاثَةِ أَعْوامٍ مِنَ الآن، وَلَكِنَّني كُنْتُ أَقَلَّ خِبْرَةً وَأَكْثَرَ اسْتِعْدادًا لإِطْلاقِ الأَحكامِ الجاهزةِ عَلى النّاسِ وَالأَفكارِ وَالظَّواهرِ مِنْ حَوْلي. وَعَلى الرَّغْمِ مِنْ مَيْلي بِطَبْعي إِلى الجَدَل، إِلّا أَنَّ لِتِلْكَ التَّجْرِبةِ أَثَرًا في نَفْسي يُشبِهُ أثرَ أدواتِ تشذيبِ النَّباتاتِ وَتَهْذيبِها. إذْ كنْتُ كَثيرةَ الحِرْصِ عَلى تَبَنّي المَوْقِفِ الَّذي لا يَتَبَنّاهُ أَحَدٌ في نِقاشٍ ما، كَعادَةِ السّنْفورَةِ المُعْترضة، بِحَمْلِ رايَةِ الدِّفاعِ عَنِ الظّاهِرَةِ دِفاعًا مُسْتَميتًا زادَ مِنْ حِدَّتِهِ ارْتِفاعُ نِسْبَةِ الطَّلَبَةِ غَيْرِ المُتَقَبِّلينَ لتَفَشّي العَرَبيزيَّةِ وَسَيْطَرَتِها عَلى شَكْلِ تَواصُلِنا اليَوْميّ. عَجَبًا لَهُم! وَذَلِكَ ما لا يَرْضى بِهِ أَبْناءُ اللُّغاتِ الأُخْرى للُغاتِهِم… فَهيَ تُساهمُ في خَلْقِ مَشروعِ الهِجْرَةِ الصّامِتَةِ إِلى لُغَةٍ أُخْرى، وَتَتَسَبَّبُ في زيادةِ تَسارُعِ تَحَقُّقِهِ عَلى مُسْتَوَيَيِ اللُّغَةِ المَنْطوقَةِ وَالمَكْتوبَةِ. بلْ قدْ يتجاوَزانِهِ إِلى المُطالَبَةِ بِالاِعْتِرافِ بِهَذا المَسْخِ الكِتابيِّ في صياغَةِ المُحْتَوى الدِّراسيِّ وَالمُعامَلاتِ الرَّسْميَّةِ بِما يُحقِّقُ مُتَطَلِّباتِ الواقِعِ الَّذي يَميلُ إِلى الأَسْهَلِ! وَقَدْ تَخْتَفي الصّوَرُ وَالِاسْتِعاراتُ، وَتَمَّحي العَيْنُ وَالضّادُ وَالقافُ، تَسَبَّبَ في خَلْقِ غُرْبَةٍ في نَفْسِ الجَدَّةِ وَالجَدِّ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَعَلَّما غَيْرَ العَرَبيَّة، وَمِمّا قَدَّمْتُهُ حينَذاكَ في دِفاعي: ـ أَنَّ الطِّباعَةَ عَلى مَفاتيحِ الحُروفِ العَرَبيَّةِ تَتَطَلَّبُ وَقْتًا مُضاعَفًا مُقارَنَةً بِالوَقْتِ اللّازِمِ للطِّباعَةِ عَلى مَفاتيحِ اللَّوْحَةِ بِالإِنْكليزيَّةِ. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ عَصْرِ السُّرْعَةِ وَسُرْعَةِ العَصْر؟ ـ أَنَّ هَذِهِ الظّاهرةَ لا تُهَدِّدُ جَوْهَرَ اللُّغَةِ وَلا قَواعِدَها. وَنَحْنُ المُدافِعونَ عَنْها، لا نُطالِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ حُرّيَّةِ التَّعْبيرِ عَنِ الكَلِماتِ العَرَبيَّةِ بِاسْتِعْمالِ رُموزٍ مُسْتَعارَةٍ مِنْ أَرْقامٍ وَحُروفٍ لاتينيَّة، وَهيَ حَلٌّ مُبْتَكَرٌ أَوْ جِسْرٌ يَصِلُ بَيْنَ طَرَفَيْن… سَقَطَتْ كَلِماتي الأَخيرَةُ عَلى مَسْمَعي كَحِجارَةٍ صَغيرةٍ وَمُتَلاحِقَة، وَهوَ يَسْتَعْرِضُ العِباراتِ "الكول" عَبْرَ وَسائِلِ التَّواصُل، وَتَصْفيقُهُمُ الحارُّ،