لشدة عشقه لابن خلدون ومحاولته إسقاط النظريات الخلدونية على الواقع العربي الراهن اقترن اسمه باسم هذا الرجل الذي يعتبر المؤسس الأول لعلم الاجتماع، إنه المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي لم تجد مجلة «العربي» الكويتية قامة فكرية أفضل منه لتوكل إليه الإشراف على ملف خاص عن «ابن خلدون» حينما حلت ذكرى وفاته الستمئة في عام 2005. من المتوسط بين رواد نهضة أوروبا الأوائل بحكم جدة تفكيره، كما يفسر اهتمام الباحثين الأوربيين به، ابن خلدون ما زال معاصرا للعرب في معظم دراساته وأبحاثه، وهي عديدة ومتعمقة بل ومتميزة باتساق الرؤية الفكرية والتشخيص العيني في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعا إلى تجديد المشروع النهضوي، فإنه كما يتضح من العنوان دعوة مباشرة بدءا من الغلاف إلى بذر الفكر الخلدوني باعتباره فكرا يؤسس لثقافة العقل. برؤية نافذة حقا، بل العولمة، وعندما تأملت في العولمة لأول مرة، قبل عقد من الزمن، ذهب فكري حالا إلى تلك العصائب والقبائل، وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم؟ وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى، الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري». برؤية نافذة حقا، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية ولكي يدلل أكثر على أن ابن خلدون ما زال معاصرا للعرب وأن العرب بحاجة إلى وقت طويل حتى يتجاوزوه فقد تطرق الأنصاري إلى ست مسائل رئيسية هي في صلب العقيدة الخلدونية وجميعها من أسباب الاضطراب في المجتمعات العربية الراهنة: *تحذيره من أنواع الاستبداد والتسلط الأخرى المؤدية إلى انقلاب الناس على السلطان، أو التعاون مع أعدائه. *إشارته إلى أن الأوطان كثيرة العصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة. اهتمام بصراعات الأمة وإنما مقارنة بالشرق الذي انتفض وخلع رداء البكائيات واللطم ووضع نفسه على سكة قطارات الرخاء والازدهار والنهضة. لذا نجده كثيرا ما يلفت النظر في مؤلفاته ودراساته وأبحاثه إلى تجارب الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية مثلا في التقدم الصناعي والانعتاق مما سببته الهزيمة العسكرية أو مما سبّبته هيمنة الأجنبي من انكسار نفسي. وفي دراسة نشرتها له مجلة رسالة الخليج العربي في 1987 تحت عنوان «جذور التربية اليابانية وخصائصها المميزة مع مقارنتها ببعض البدايات العربية»، ناهيك عما قاله ذاته مرة حول التجربة الهندية من أنه في الهند «هناك أناس يؤمنون بقداسة البقر مثلاً، ويؤمنون بمعتقدات متباينة كثيرة وكل فريق متروك لاعتقاده، لكنهم في الحياة العامة أي في الحياة السياسية مؤسسون لديمقراطية من أهم الديمقراطيات في العالم». ولعل ما يميز فكر الأنصاري وأعماله هو استخدامه للبحث والتحليل المنهجي الرصين الذي يفكك الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويدرسها دراسة متعمقة وليست دراسة سطحية مخلة أو دراسة واقعة تحت ضغط الأهواء والأمزجة الأيديولوجية الخاصة. وهذا لئن كان ناجما عن الشهادات الأكاديمية الرفيعة التي يحملها الرجل من أحد أفضل وأقدم جامعات الشرق الأوسط وهي جامعة بيروت الأميركية التي قضى فيها 12 عاما من زهرة شبابه ما بين عامي 1963و 1979 وعن الدورات التي حضرها في جامعات أوروبية مرموقة مثل كامبريدج البريطانية والسوربون الفرنسية، فإنه ناجم أيضا من بيئته الثقافية الأولى . وكان ميلاده في مدينة المحرق عاصمة البحرين القديمة. وهذه المدينة العريقة، ومحمد بن عبدالله آل خليفة، والشاعر عبدالرحمن قاسم المعاودة، ورائد الصحافة البحرينية الأول عبدالله الزايد، وأساطين الطرب الشعبي من أمثال محمد بن فارس وضاحي بن وليد ومحمد زويد وغيرهم. وهي مدرسة الهداية الخليفية التي افتتحت في عام 1919، وتلقى فيها الأنصاري علومه الابتدائية على يد مجموعة من المدرسين العرب من شتى التيارات الفكرية، وثقف نفسه ذاتيا من خلال مكتبتها التي كانت تضاهي المكتبات الجامعية، ثم بسبب احتضانها أيضا لأول مدرسة للبنات (مدرسة خديجة الكبرى التي افتــتحت في عام 1928). من جهة أخرى فإن المحرق هي مهد الأنشطة الثقافية لأنها شهدت ولادة أوائل الأندية الثقافية في منطقة الخليج مثل نادي إقبال أوال في 1913، والنادي الأدبي في عام 1922. وفي هذا السياق سُجل عن الأنصاري قوله في مقابلة تلفزيونية: «لم أكن بحاجة لقراءة كتب عن الحرب العالمية الثانية لأني منذ نعومة أظفاري كنت أسمع الناس يتحدثون عنها». وفي المقابلة نفسها أضاف أن ثلاثة كتب أثرت في نشأته الفكرية وهي: «القرآن الكريم» الذي أمده بلغة عربية سليمة، وفتوح الشام للواقدي الذي وسّع مداركه التاريخية، وديوان أبي القاسم الشابي الذي تذوق من خلاله الشعر العربي الفصيح. ويبدو أن هذا كان في سنواته المبكرة أي قبل أن يكتشف ابن خلدون ويتعرف على مقدمته التي وصفها بأنها « تفسر كل الظواهر تفسيرا عقلانيا ومنطقيا». فكر متسامح فقد كانت أسواقها عامرة وشوارعها مكتظة، وأحياؤها يسكنها خليط من الاثنيات والثقافات والمذاهب، ومصادر التسلية والمعرفة فيها عديدة. ومنازل العرب والفرس والبلوش وسواه. من الذين أشادوا بفكر الأنصاري ووجدوا فيه «غذاء فكريا ضروريا لمن يريد فهم جذور القضايا ويتعمق في تحليل المجتمعات العربية والإسلامية الدبلوماسي المصري السابق الدكتور «محمد نعمان جلال» الذي وضع كتابا عنه في عام 2004 تحت عنوان «الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجا». والحقيقة أن للأنصاري مشروعين فكريين وليس مشروعا واحدا! المشروع الأول حمل اسم «مشروع نقد الفكر العربي» الذي تجسد في ثلاثة مؤلفات من مؤلفاته هي: «تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي (1988)»، و« مساءلة الهزيمة: جديد الفكر العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية» (2001)، لماذا يخشى الإسلاميون علم الإجتماع؟» (1995)، والذين يتابعون الأنصاري وإرهاصاته الفكرية، القومية واللاقومية. والذين تناولوا لاحقا هذه القاعدة من أمثال الفلسطيني «مأمون شحادة» وجدوا فيها قدرة فذة على صياغة معادلة نقدية «للذات والواقع والتاريخ» عبر قراءة ابستمولوجية واقعية لجسم الفكر العربي، «بعيدا عن الهيام التاريخي والمزاودة». وإن العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبّط المزمن في المأزق العربي الراهن، حيث يعاني العرب التباسا خطيرا في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة». أما كاتب هذه السطور فقد استوقفه المقطعان التاليان في كتاب الأنصاري الموسوم بـ « مساءلة الهزيمة»: « الواقع العربي يتعرض لحصار إسرائيلي وإيراني وتركي. ونزاع داخلي يشكل حصارا إضافيا. والعقل العربي يتعرض لحصار الوعي الذاتي الملتبس برغم المعلوماتية الهائلة المتدفقة، فالصحوة الإسلامية أو المرجو أن تكون صحوة جعلت العقل الإسلامي ماضويا معاديا للعقل منشغلا بمذهبيات وفتن تاريخية وكأنه لم يعد العقل الذي قدم عبقرية عمر السياسية وعبقرية جعفر الصادق الفقهية والفلاسفة العظام مثل الكندي وابن سينا وابن رشد، وأصبح الفلاسفة هؤلاء موضع اتهام وتهجم وامتد التجريم إلى المعتزلة والمصلحين والمفكرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعباس محمود العقاد». وحول الوسطية يقول إنه «يقبلها إذا كانت حقيقية ولا يقبلها إذا كانت تلفيقا لأن ذلك يؤدي إلى مغالطة». وحول الإيمان والعقل يقول: «إن القول بأن الإيمان والعقل يتفقان وينطبقان تمام الانطباق غير صحيح. هو النظام الذي يستند إلى مرجعية دينية، وما هو مضمون ومدى إرادته الإلهية. بقي أن نقول إن للأنصاري،