وفيما يتعلق بالصراع حول القدماء والمحدثين فإننا نجد الجاحظ يسلك سبيلاً وسطا، ومثل هؤلاء النقاد يراهم الجاحظ مثالاً على الراوي الذي يجهل كنه ما يرفض من الشعر، موازنته بين الشاعرين المهلهل وأبي نواس وفيها يفضِّل الأخير على الأول. فالمهلهل قد وصف هيبة مجلس أخيه كليب وسكوت الناس فيه بقوله: أودى الخِيارُ من المعاشر كلهم واستبّ بعدك يا كليبُ المجـلسُ ويعلّق الجاحظ على ذلك بقوله أنّ أبيات أبي نواس في الحديث عن خبز إسماعيل وبخله به فيها من الحديث عن هيبة مجلس كليب أجود مما قاله المهلهل في بيتيه السابقين. على خُبْزِ إسماعيل واقية البخلِ فقد حَلَّ في دار الأمـان مـن الأكل وما خبزه إلاّ كعنقاء معـــرب تصوَّرُ في بُسطِ الملوك وفي المَثلِ وما خبزه إلا كليب بن وائل ومن كان يحمي عـزه منبت البقــل وإذا هو لا يستب خصمان عنده ولا الصوت مرفوع بجد ولا هزل فإن خبز إسماعيل حل به الذي أصاب كليبا لم يكن ذاك عن بذل فانصاع كالكوكب في انحداره لفت المشير مـوهنا بـناره شدَّاً إذا أخصف في إحضاره خّرَّقَ أذنيه شبـا أظـفـاره وقد أنشد الجاحظ الأرجوزة بتمامها ثم علل ذلك بأنه أورد رجز أبي نواس للقارئ في ذلك الباب لأن أبا نواس كان عالما وراوية، ويقرر الجاحظ أن الناظر في شعر أبي نواس بعين الاعتبار لابد أن يفضله على غيره إلا إذا كان منساقاً وراء العصبية،