عندما نتالم نريد حتّى من الطبيعة أن ترأف بنا. بدا وجه فارس شاحباً وهو يناولني جهاز الهاتف. ألقيت نظرة على ساعة الجيب. كانت العقارب تشير إلى 11:15 ليلاً. الشيخ مكتوم هو أكبر أبناء الشيخ راشد. أن يطلبني مكتوم في هذه الساعة المتأخرة من الليل فلأمر على جانب من الخطورة. حرصت على إبلاغك بأسرع وقت، منذ حوالي ساعة تعرّض أبي لسكتة دماغية. لكن حالته حرجة جدا أين هو؟ نُقِلَ إلى مستشفى دُبَي أنا قادم. وبعد ساعة وخمسين دقيقة كنت قرب سريره. انحنيتُ نحو أخي وصديقي ورفيق دربي وقبّلتُ جبهته. صدره يعلو ويهبط بنفس قصير، للمرّة الأولى منذ عرفته، تتداعى الأفكار أحياناً على نحو غريب جداً. بإشارة من يده يرفع الحيوان قائمته الأمامية. شعرت بأني أعبر أنهاراً لامرئية، ولم نخلّ يوماً بالاحترام المتبادل. في أشد اللحظات تعقيداً أعرب عن رعاية أبوية حيالي مع أنه لا يكبرني إلاّ بست سنوات. أحياناً كان يمضي ساعات سُهاده في التحدث معي عبر الهاتف عن الخطط التي تستنزفه ويهمه نجاحها أكثر من أن يعيش زمناً أطول إضافياً. والوظيفة غالباً ما تطغى فيها الأُبهة على الصداقة الحقيقية. - ماذا يقول الأطبّاء؟ يجب الاحتفاظ بالأمل. - «توكّلْ على اللهِ وكفى باللهِ وَكيلاً»". عندما نتألّم نريد حتى من الطبيعة أن ترأف بنا. توفيَ أخي شخبوط رحمه الله، لم أجرؤ على التفكير في أنّ مصيبة قد تحلّ براشد أيضاً. صاحب القرار؟ ألَمْ يقلْ: «ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ فإذا جاءَ أجَلُهُمْ لا يَسْتأْخرون ساعةً ولا يَسْتَقْدِمون»". لم نكن بعيدين عن القصر عندما بثّت الإذاعة الخبر الذي كنّا نخشاه كلّنا: الجيش العراقي دخل إلى الكويت. هذا الغزو كان بالتأكيد أكبر صدمة في حياتي. عدد من أبنائنا تعلّموا في المدارس الكويتية. مواطنونا يتلقون العلاج في بلغتني أولى التفاصيل المتعلّقة بالغزو صباح الثاني من أغسطس 1990. أذكر أنني طلبت ثلاث مرّات من وزير الدفاع أن يكرّر ما قاله عبر الهاتف. أعلنت حالة الطوارئ ووضعت القوّات المسلّحة في حالة تأهُب، بالاتفاق مع الشيخ مكتوم، الذي كان يقوم منذ ثمان وأربعين ساعة بمهامّ نائب الرئيس. كان القرار الأول الذي ينبغي اتخاذه هو استقبال إخواننا وأخواتنا الكويتيين النازحين عن بلادهم. وضعنا في تصرّفهم فنادقنا ومبانينا وفتح لهم عدد من مواطنينا بيوتهم وقلوبهم. مرافئنا أصبحت مناطق رُسوّ للأساطيل الأمريكية والبريطانية. ولم يكن أمامنا من خيار إلاّ الانضمام إلى التحالف المُسمّى ذات يوم أعلن غاندي: «إذا كان الخيار بين الجبن والعنف أبلغني مكتوم أن أباه أسلم الروح لبارثها. انتابني حزن شديد واغرورقت عيناي بالدموع. لكن الوضع يجب أن يتغيّر. من غير المعقول أن يعمل الناس على إفقار بعضهم بعضاً على هذا النحو. كان من النادر أن تأتي فاطمة إلى مكتبي في القصر. إن كان لديها اقتراح أو موضوع تعرضه عليّ كانت تفضّل أن نناقش الأمر معاً في المنزل. سألتها: المهر. فعلاً. عندنا وفي العالم المسلم عامة يُعتبر المهر هدية يقدمها الزوج إلى زوجته. بخلاف العادة في بعض الثقافات الآسيوية حيث تُعطى هذه التقدمة إلى عائلة الزوج، غير أن هذا المبلغ هو، للأسف، لم تعد هذه المكرُمة إحساناً بل أصبحت عبئاً. كلفة زواج نموذجي يمكن أن تبلغ مئات آلاف الدراهم التي تنفق على حفلات الزفاف والاستقبال الباذخة التي تتجاوز الحدّ، وعلى شراء المجوهرات والملابس. أنا أدرك المشكلة، قلتُ لها. فضلاً عن أنني سمعت بأن بعض العائلات أصبح أكثر جشعاً، مما أدّى إلى ارتفاع عدد الفتيات اللواتي ما عدنَ يجدنَ أزواجاً. وهم في أمسّ الحاجة إلى كلّ إمكاناتهم في بداية حياتهم الزوجية. لماذا لا يقيمون أفراحهم كما فعلنا نحن، وكما فعل أجدادنا. يكفيهم أن ينصبوا خيمة كبيرة، يحيط بهم الأصدقاء الحقيقيون، خالٍ من أي حرارة إنسانية، قالت بلهجة مرحة: أمهلتني فاطمة ستة أشهر. في الشهر السابع اتخذت قراري. - تعلمون جميعاً المشكلة التي يعاني منها الشبّان بسبب المهر وآن لنا أن نضع حدّاً لها. ثمّ: علينا أن نأخذ على عاتقنا المهر ونفقات هذا مستحيل. - إن فهمتكم جيّداً، لكن لا يمكنها مساعدة زوجين شابين على بناء مستقبلهما. الأمر هنا يتعلّق بزواج، - غلط، الأمر هنا يتعلّق بمسألة وطنية، التفتُ نحو وزير الشؤون الاجتماعية وطلبت منه إعداد دراسة حول الموضوع في أسرع وقت. في التاسع من ديسمبر 1992 وقّعتُ القرار. يسمح بموجبه تقديم مبلغ قدره عشرون ألف دولار لكل رجل يرغب في الزواج، وفي حالة الولادة يحق له الحصول على خفض الدين بنسبة عشرين في المائة عن كلّ ولد. حلم فاطمة تحقّق. من بين كلّ الأحلام التي شكّلت معالم في حياتي حلمٌ رأيته بعد أسابيع من وفاة شخبوط ثم راشد ولم يكفّ عن ملاحقتي. ذات ليلة كنت مستلقياً في فناء قلعة المويجعي، في العين، لم تكن هذه المرّة الأولى التي أسترخي فيها مفتوح العينين أعدّ كوكبة النجوم التي ستعيش لمليارات السنين بعد موتنا. في لحظة ما غفوت وظنئت أنني أسمع صوتاً يهمس لي: «لقد أطاع أمر السماء». كانت تلك هلوَسة طبعاً. تخيّلت صَرْحاً، صَرْحاً مفتوحاً أمام كلّ الزائرين، أبيض كوردة بيضاء. بل هندسة أثيرية، الإلهي في ملاقاة الإنسان. ومن الماء. من ماء كالبُحيرة، من ماء كالبحر، الذي يرمز إلى الثراء الحقيقي: ماء آبار العين العتيقة، من تركيا، لأن العالم كله سيكون له نفاذ إليه. أكبر سجادة في العالم، ولمَ لا تكون من مدينة مشهد، منسوجة