إذا كنت غنيًا كن سعيدًا؛ لأن مزاولة الأمور الخطيرة هُيئَت لك، وكنت مشكور الصالحات مرجوَّ الجميل. ونُشر رواق العزِّ فوق ذمارك، فتمَّ لك وجه من وجوه الحرية والاستقلال، وإن كنت فقيرًا فكن سعيدًا! لأنك سلمت من شلل معنوي ابتلي به من دانت لرغبته جميع المطالب، ووُقيتَ ما عُرِّض له السريُّ من حسد وكرهٍ، فلا تتلظى الصدور لنعمتك، ولا يُنظر إلى متاعك بعين مريضة. إذا كنت مُحسنًا فكن سعيدًا؛ ووددت إسعاد عشرات ومئات لتتضاعف مسرتك النبيلة الواحدة بتعدُّد المنتفعين بأسبابها. وإن عجزت عن الإحسان فكن سعيدًا؛ فقد أجَّلت ساعة تشهد فيها نكران الجميل ممن صانعت، فاتخذ المعروف سلاحًا يهددك به، تلك الساعة لا بد من مرورها، وتيأس من إصلاحه قبل أن تصل إلى قمة الغفران السامي، إذا كنت شابًّا فكن سعيدًا؛ وقد بعُد أمامك مرمى الآمال، فتيسر لك إخراج الأحلام إلى حيز الواقع إذا كنت بذلك حقيقًا، وإذا كنت شيخًا فكن سعيدًا؛ لأنك عركت الدهر وناسه، وأُلقيت إليك من صدق الفراسة وحسن المعالجة مقاليد الأمور، فكل أعمالك إن شئت منافع، والدقيقة الواحدة توازي من عمرك أعوامًا؛ لأنها حافلة بالخبرة والتبصر وأصالة الرأي، كأنها ثمرة الخريف موفورة النضج، أشبعت بمادة الاكتمال والدسم والرغبة. إذا كنت رجلًا فكن سعيدًا؛ لأن في شهامة الرجولة يتجسم معنى الحياة الأكبر، وإذا كنت امرأة فكن سعيدًا؛ فالمرأة منشودة الرجل، وعذوبتها مستودع تعزيته، إذا كنت رفيع الحسب فكن سعيدًا؛ فقد فزت بثقة الجماعة دون أن يوصي بك أحد، وإن كنت وضيع النسب فكن سعيدًا؛ لأنه خيرٌ لك أن تكون مؤسس عيلتك، ورافع عمادها الذي تعرف به، من أن تكون أحد أبنائها المرغمين بطبيعة الحال على حمل اسمهم، إذا كنت كثير الأصدقاء فكن سعيدًا؛ والنجاح مع الصداقة أبهر ظهورًا، وجُمع القلوب حولك يستلزم صفات وقدرات لا توجد في غير النفوس ذات الوزن الكبير، أهمها الخروج من حصن أنانيتك لاستكشاف ما عند الآخرين من نُبل ولطف وذكاء، وإذا كنت كثير الأعداء فكن سعيدًا؛ وهم أضمن شهادة بخطورتك، زدتَ شعورًا بأهميتك، فاتعظتَ بالصائب من النقد الذي هو كالسم يريدونه فتاكًا، ولكنك تأخذه بكميات قليلة، فيكون لك أعظم المقويات، وهل يهتم النسر المحلِّق في قصي الآفاق بما تتآمر له خنافس الغبراء؟ إذا كنت صحيحًا فكن سعيدًا؛ وإن كنت عليلًا فكن سعيدًا؛ فالغلبة لما تختار منهما، والشفاء موقوف على ما تريد. إذا كنت عبقريًّا فكن سعيدًا؛ فقد تجلَّى فيك شعاع ألمعي من المقام الأسنى، ورمقك الرحمن بنظرة انعكست صورتها على جبهتك فكرًا، وفي صوتك سحرًا، والألفاظ التي هي عند الآخرين أصوات ونبرات ومقاطع، وتسخط وتدهش، وتقول للمعنى «كن!» فيكون. لأن الألسنة لا ترهف حدَّها لتذكرك، والأنظار لا يستعر فيها لهيب التفحص وحب المنافسة إذ تتجه إليك. هاك القمة فاقتحمها إن كنت كفُؤًا، وإلا فاقنع بأنك جزء مهم من أجزاء الكون تستعملك الكفاءة وقودًا؛ فالإيوانات الباذخة لا تقوم بغير الحجارة الصغيرة، وأنت متمتع براحة لا ينعم بها من لا ترتوي شفتاه بغير ماء الحياة، وإن كان خائنًا فكن سعيدًا؛ لأنه لم يكن على استعداد لاستماع أمثولة خفية تلقيها عليه نفسك، ولا يغادر امرؤ حظيرة المحبة إلا ليفسح مكانًا لمن هو خير منه وأجدر. إذا كنت حرًّا فكن سعيدًا؛ وتتسع الممكنات، وإن كنت مستعبدًا فكن سعيدًا؛ لأن العبودية أفضل مدرسة تتعلم فيها دروس الحرية، وتقف على ما يصيرك لها أهلًا. وقوة جديدة، فكن سعيدًا؛ لأنك في حِلٍّ من أن تخلق لك جناحين تطير بهما فوقه؛ وشرابًا لظمأ جنانك. فقد دلَّلتك الحياة، وضمتك إلى أبنائها المختارين، وأرتك الألوهية عطفها في تبادل القلوب، فتجلت لهما بدائع الفجر، وهنأتهما الشموس بما لم تهتد بعد إليه في دورتها بين الأفلاك، وأفضى إليهما الأثير بمكنون أسراره؛ لذلك هما يتأملان حيث يتصابى الخالي، ويمزحان حيث يجد، ويتفرسان في خطوط البقاء حيث لا يلمح هو خيالًا. وإن كنت محبًّا غير محبوب فكن سعيدًا؛ لأن النابذ يحب المنبوذ في أعلى طبقات كيانه، حبًّا لا يدانيه افتتانه بمن يهوى، والهجران حالة جمَّة المعاني والألغاز ترقق ما ضخم من الرغبات، وتصفِّي ما عكر من الانفعالات، حتى يغدو الفؤاد شفَّافًا نورانيًّا متلألئًا كآنية تتناول فيها الآلهة كوثر الخلود. وأنت لا تعرف ساعة مروره. كن عظيمًا ليختارك الحب العظيم، ويتمرَّغ في الأوحال، فتظل على ما أنت أو تهبط به، بدلًا من أن تسمو إلى أبراج لم ترها عين، ولم تخطر عجائبها على قلب بشر؛ لأن هياكل مطالبنا إنما تقام على خرائط وهمية وضعتها منَّا الأشواق. ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق.