يعدّ حقّ الحياة – في نظر الإسلام – أهمّ حقوق الإنسان بعد حقّ الحرية. برهـان ذلك قول اللّـه عزوجل في سورة البقرة: ﴿والفتنة أشدّ من القتل﴾ (الآية 191)، وأن اللّـه جل جلاله قد أسجد ملائكته لهذا المخلوق الحر، ولكن حقّ الحياة يتبع حقّ الحـرية مباشرة – في نظر الإسلام – فقد كتب اللّـه على نبي إسرائيل وغير بني إسرائيل أنه ﴿من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً؛ والإحياء والقتل – في ظّني – غير مقصورَيْن على الإحياء المادي والقتل المادي، وإنما يشملان الإحياء المعنوي والقتل المعنوي أيضا وواضح أن المقصود بالإحياء في الآية الكـريمة هو المحـافظة على الحياة، فنحن نعني حقّ المحـافظة على الحياة، فكل حقّ من هذه الحقوق يتطلّب من الإنسان أن يسعى إلى الحصول عليه والحفاظ عليه في وقتٍ معا، ألم تر كيف تحدّث اللّـه عز وجل عن أولئك الـذين تخلّوا عن حقّ الحـرية طوعا أو كرها؟﴿إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! ﴾ (النساء: 97)، إلى قوله: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة . وقل مثل ذلك في الذين يتخلون عن حق الحياة: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم! إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً؛ من أجل ذلك نجد في حديث النبي ﷺ ذلك النص الفريد الذي لا نجده في أي كلام آخر سوى كلام المعصوم ﷺ، وهو قـوله في الحـديث المتّفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو: «إن لجسدك عليك حقّاً!». وإذا كان الناس قد تـوصّلوا بعد أربعة عشر قـرناً من تقــرير الإسلام لحقوق الإنسان، إلى إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنهم لم يتوصّلوا بعد إلى إعلام «حق الجسد»، ولو كان منها حقّ اللّـه عز وجل . كما أنها شرط لازم لقيام شـريعة اللّـه في الأرض، لأنّ هذه الشـريعة إنما ينهض بها حقّ نهوضها الأحياء الأصحاء، «فنظام الدين بالمعرفة والعبادة – كما قال الإمام الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» – لا يتوصّل إليه إلا بصحّة البدن وبقاء الحياة». من أجل ذلك جعل الإسلام الصحّة في المقام الأول بعد الإيمان، فقال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي بكر-: «لم يُؤْتَ أحدٌ بعد اليقين خيراً من المعافاة»؛ وقال – في الحديث الذي رواه ابن ماجه والحـاكم وأحمد عن معاذ بن عبد اللّـه بن خبيب عن أبيه عن عمه –: «إنه لا بأس بالغـنـى لمـن اتقـى، وقال – في الحــديث الذي رواه ابن مــــاجه عن عبد اللّـه بن محصن الأنصاري عن أبيه- «من أصبح منكم معافىً في جسده، فالنبي ﷺ يقول (في الحديث الذي رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيـرهم، وصححه الحـاكم ووافقه الـذهبي): «إن أول ما يحـاسب به العبد يوم القيـامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك؟»؛ ويقول – في الحــديث الذي رواه التـــرمذي عن أبي برزة الأسلمي، والإسلام يلفت نظر الإنسان إلى هذه النعمة، وينبّهه إلى أن كثيراً من الناس يخسرون الخسران المبين لقلّة اكتراثهم بها والاستفادة المثلى منها، فيقول النبي ﷺ – في ما وراءه البخـاري وغيره عن ابن عباس – : «نعمتان مغبـون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ»، ومن أجل ذلك يحضّه على اغتنامها والتمتّع بها، فيقول رسول اللّـه ﷺ – في ما رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس –: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وحقّ الصحّة أو قل: حقّ المحافظة على الصحة يستمد أبعاده من أمرين فطريين في خلق الإنسان وخلق الكون كله. أول هذين الأمرين مذكور في قوله تعالى في سورة الرحمن (7 – 9): وتنـبّه إلى أن أي إخلال به، يمكن أن يفضي إلى أوخم العواقب التي ترتدّ على الإنسان نفسه قبل كل شيء، كما قال سبحانه في سورة يونس: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ (الآية 23). أما الأمر الثاني فهو أن الأصل في خلقة الإنسان هو «السَّواء»، كما يدل على ذلك قوله تعالى مخاطباً الإنسان: ﴿خلقك فسواك فعدلك﴾ (الانفطار: 7)، لأن «الشرع موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم» – كما يقول العالم العامل المجاهد الفذ عز الـدين بن عبد السلام في كتابه النفيس «قواعد الإحكام في مصـالح الأنام»–، فتأمل وصيته بعد ندائه، أو جمعاً بين الحث والـزجر. وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وقد صدق رحمه اللّـه وأحسن إليه، فإن اللّـه سبحــانه قال لنا في سورة الرعد (17):﴿كـذلك يضرب الله الحق والباطل: فأما الزبد فيذهب جفاءً. فجعل سبحـانه مــا ينفع الناس هوالحقّ الذي أرسل به رسوله ﷺ وقال عنه: يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم (النساء:170). بل سائر الملل – كما يقول الإمام الشاطـبي في« الموافقات» – على أن الشــريعة وضعت للمحـافظة على الضروريات الخمس، ونحن واجدون إن شاء اللّـه بعد قليل تــأمل، والمحافظة على الميزان الصحي الذي أودعه اللّـه في بنيانه. فهو حقّ على النفس، وحقّ على المجتمع، هو أولا حقّ على المرء تجاه نفسه، وهو – كما أسلفنا – ملمح يتفرّد به الإسلام، ويلخصه قول النبي ﷺ الذي رواه البخاري عن وهب بن عبد اللّـه: «إن لنفسك عليك حقا». وحفظ الصحّة «يكون بأمرين – إذا اتبعنا تصنيف الإمام الشاطبي في «الموافقات» (2/8) – أحــدهما: ما يـقيم أركانها ويثبت قواعــدها، وهذا التصنيف البـــديع الذي وضعه الإمام الشـاطبي رحمه اللّـه للضروريات جميعا، ينطبق أفضل انطباق على الهدي الإسـلامي في حفظ الصحة. فهذا الهدى الكريم يتضمّن نوعين من التدابير: تدابير تقيم أركان الصحة الجسمية أو النفسية أو البيئية وتثّبت قواعدها، وتدابير تدرأ عن الصحة الجسمية أو النفسية أو البيية الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها، وتشتمل التدابير التعزيزية على كل ما يحافظ على صحة الإنسان، والامتناع عن الغذاء الطيب بلا مسوغ مشروع أمر مناف للصحة، فاعتبر ذلك عدوانا على حق الصحة كما ترى! المـلبـية لجـزء من حق الإنسان على نفسه في الصحّة، «حقّ الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه وجسده» (متّفق عليه عن أبي هريرة). ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، «لا يحـافـظ على الوضوء إلا مؤمن» (رواه ابن ماجه عن ثوبان). «أسبغوا الوضوء» (رواه أبو داوود عن عبد اللّـه بن عمرو). «كان ﷺ إذا توضأ يدلـك أصابع رجليه بخنصره» (رواه أبو داوود عن المستورد بن شـداد». «صح أن النبي ﷺ مسح أذنيه، وخــالـف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهـرهما وباطنهما» (رواه ابـن ماجه عن ابـن عباس). «إذا توضّأ أحدكم فليستنشق بمنخـريه من الماء ثـم لينتـثـر» (رواه مسلم عـن أبي هـريرة ). «من كان له شعـر فليكرمـه» (رواه أبو داوود). «إذا تغـوّط أحـدكم فليتـمـسّح ثلاث مرات» (رواه ابـن حـزم في المحـلى من طـريق ابـن أخي الزخرجي ( محمد بن عبد اللّـه بن مسلم مسنداً). «مُرْنَ أزواجكنَّ أن يستطيـبوا بالماء، فإن رسول اللّه ﷺ كان يفعله» (رواه الترمذي عن عائشة) «نظِّفوا لثـاتـكم من الماء وتسنّنوا ( تسوّكوا)» (رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد اللّـه بن بشر المازنـي). وقصّ الشّارب» (متفق عليه عن أبي هـريرة). • ومن ذلك التغذية المتوازنة كماً وكيفاً: ﴿والأنعام خلقها: لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون﴾ (النحل: 14). ﴿ كلوا من ثمرة إذا أثمر﴾ (الأنعام: 141). «ما مـلأ آدمي وعاء شرّاً من بـطن! بحسب ابـن آدم لقـيـمات يقـمـن صلـبه، فإن غلـبت الآدمـي نفسه فثلـث للطعـام وثلـث للشراب وثـلت للنفس» (رواه الترمذي وغيره عن المقدام بن معدي كـرب). ﴿خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ (الروم: 21). فمــن لـم يعمل بسنتي فليس مني» (رواه ابـن ماجه عن عائشة). «نهـى رسول الله ﷺعـن التبتُّل (وهو تـرك الزواج)» ( رواه النسائـي عن عائشة وسمرة بن جندب). وتقوية الجسم بالـرياضات المناسبة، والقيـام بكل ما يجلب النفع للإنسان: «إن لعينيك عليك حقا» (متفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو). «عليكم بما تطيقون» (متفق عليه عن عائشة) فتنطلق من قولـه عز وجل: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾( النساء: 29)، وقولـه جل شأنه: ولا تــلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195)، وقول النبي ﷺ «لا ضـرر ولا ضـرار» (رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم) (والضرر: الإضرار بالنفس، وهو – كما نرى – محرم بنص القرآن. لأن التوقّي يكفل الوقاية. وفي القـرآن والسنة نصوص كثيرة تتحدّث عن مختلف أنماط وقاية الإنسان لنفسه، ﴿ولا تقربوا الزنى، ﴿ولا تقربوا الفراحش ما ظهر منها وما بطن﴾ (الأنعام: 151). «إن أخوف ما أخاف على أمتـي عمل قـوم لـوط» (رواه ابـن مــــاجه والبيهقـي عـن جابر). • اجـتـناب التـعـرض للإصـابـات: «إذا عـرستم (أي نـزلتـم للنوم بالليل في سفر) فاجتنبـوا الطـريق، فإنها طرق الدواب ومـأوى الهوام بالليل» (رواه مسلم عن أبي هـريرة). وخمروا (أي غطوا) الطعام والشراب» (رواه البخاري عن جابر). • اجتناب المواد الضارة كالمسكرات والمخدّرات والتدخين: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾ (المائدة: 90). ومـا أسكر كثيره حـرم قليلـه، **** هذا ما كان من أمـر حقّ الإنسان في الصحـة على النفـس. أمـا حقّ الإنسان في الصحة على المجتمع فهو كذلك حقّ تعزيـزي وحقّ وقائـي. وله أشـكال كثيرة. وقوله سبحانه: ﴿وفصاله في عامين﴾ (لقمان: 14). وله عليهما كذلك حقّ تزويده بالمناعة الكافية الـلازمة لوقايته من الأمـراض المعدية، وذلك بتطعيمه باللقاحات المناسبة. وعدم التفريط في حقّهم، فآت كل ذي حقّ حقّه» (متّفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو) وقولـه ﷺ: «والرجل راع في بـيـته ومسـؤول عـن رعيـته، والتفريط في حقّ الولـد تفـريطـا قد يفقده حيـاته أمـر خطيـر، يقـول عنه ربنا عـز وجل: ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم﴾ (الأنعام: 140)، وثانيهما زيادة رصيدها من العناصر التي تحافظ على موازينها. ويقول: «إمـاطة الأذى عن الطـريق صدقة» (رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي ذر). وكان ﷺ يقول: « نظّفوا أفنيتكم» (رواه الترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه). وفي مقابل ذلك حـرص النبي ﷺ على تشجيع الزراعة، وبيد أحدكم فسـيلـة، وقال ﷺ: «لا يغرس المسلم غــرسا ولا يـزرع زرعاً فيـــأكـل منه إنـسـان ولا دابـة ولا شـيء إلا كـانـت لـه صــدقة» (رواه مسلم عن جابر)؛ وقال:« من زرع زرعا أو غرس غرسا فله أجر ما أصـابـت مـنه العـوافـي» (رواه يحيـى بـن آدم في كتاب الخـراج عـن أبي أسـيد): وقال: «من أحيا أرضا ميـتة فـله أجـرٌ فيها، وقد اتّبع الخلفاء الراشدون المهديون هذا الهدي المبارك. وروى يحيـى بـن آدم في كتاب «الخـراج» (46) كـــــذلك، عن أمير المـؤمنين رضي الله عنه أنه قال: «يا أيها الناس أعينوا على أنفسكم، معمِّر غير مخرب!» (الخـراج: 63). فإن لم يزرعها أحد فـامنحـها، فـإن لـم يـزرع فـأنـفـق عليها من بيت مـال المسلمين» (الخـراج:62). وأمـا الحـقّ الوقائي على المجتمع فيتلخّـص في منع «الضرار» وهـو الإضرار بالغير، وقـــوله ﷺ: «تـكـُفَّ شرّك عـن الناس، فإنها صـدقة منك على نفسك» (متفق عليه عن أبي ذر). فيعرّض نفسه إلى أسباب المـرض والهلاك، وفي الأمـاكن العامة جار، والجار في داخل البيت جار ذو قــــربى. بل هي إساءة محضة وإضرار محض. أن يتّخذوا جميع الاحتياطات الكفيلة بوقايته من كل أذى أو ضرر، أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشئ» (متفق عليه عن أبي موسى). كــــــذلك عـدّ النبي ﷺ من حقّ الإنسان على كل فرد من أفراد المجتمع، فـقد ورد فيـه أكثـر من نص خاص، إذ قال ص:»لا يـورد المُمْرض على المُصـح» (متـفق عليه عن أبي هـريرة)، وقد جاء النهي عن تلويث البيئة بصريح النص على وجه الخصوص. وكان من هـديه ﷺ أنه قال: «لا يبـولن أحـدكم في الماء الـراكد» (رواه ابـن ماجه عن أبي هـريرة)، وقارعة الطـريق، ومما يلفـت النـظر في هذه الأحـاديث استعمال لفظـة «الـلعن» ومشتقاتها، والـلعن: الطرد والنبذ والإبعاد، مما يدّل على أن فاعل هذه الأعمال التي تلوّث البيئة يسقط اعتباره الاجتماعي، التـدبيـر الـوقائي الأول إذن في مجال البيئة، فلا يجوز بل يحـرم تلـويثها مثلا بـدخان السـجـائر الـذي أصبح ضرره اليوم عين اليقـين؛ أو يطلق أدخنة مصنعه دون تصفية أو ترشيح فيلوث جو المدينة وهواءها الذي يتنفسه الناس؛ فيقول: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول﴾ (الأعراف: 205)؛ وكلها من المواد التي تستنضب الأوزون من الطبقات الجوية العليا من جهة، فتعرِّض سكان العالم إلى الآثار المضرة لـلأشعة فوق البنفسجية، ولكنها تساعد – في الوقت نفسه – على تولّد الأوزون في الطبقات الجـوية الــدنيا فتـزيد من هجمات الــربو، فهو عدم استنفاد العناصر الضرورية للحفاظ على سلامتها. حتى في التنظيف والتطهير. وضرب بنفسه المثل لذلك، فقد كان رسول اللّـه ﷺ يغتسل بالصـاع ويتـوضّأ بـالمد (رواه أبو داوود وابـن مـاجه عن جـابر) وعائشة؛ والترمذي وابـن ماجه عن سفينة) والمد: أقل من نصف لتر، والصاع أقل من لترين اثنين. وقال: يبلغه الله إنـسـانا أو دابـة وأشباهه ينفعهم الله عنه». فمـن زاد على هذا فـقـد أسـاء أو تـعـدّى أو ظـلـم» (رواه ابـن مـاجة والنسـائي؛ وروى مثله أبو داوود عن عبد اللّـه بن عمرو). ومن الأمثلة المهمة الأخرى على استبقاء ما يحفظ البيئة الصحية: الحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية. فقد قال النبي ﷺ: «من قـطـع سدرة صـوّب اللّه رأسـه في النـار» (رواه أبو داوود عن عبد اللّـه بن حبشي). وقد كان النبي ﷺ أول من أنشأ محـميات بيئية لا يجوز قطع شجرها ولا قتل حيوانها. فقد «حمـى رسول الله ﷺ كل ناحـية من المدينة بريداً بريداً: لا يخـبـط (ينزع) شجره ولا يعضد (يقطع) إلا ما يـسـاق به الجمل» (رواه أبو داوود عن عدي بن زيد) وكان ﷺ «ينهي أن يقطع من شـجـر المدينة شيء» (رواه أبو داوود عن سعد بن أبي وقاص) وقال عن المدينة: «لا ينـفـر صيـدها. ولا يصـلـح أن يقـطـع منها شـجـرة إلا أن يعـلـف رجل بـعـيره» (رواه أبو داوود) وقال: «إني أحــرم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع عضـاهُها» (رواه الإمـام أحمد عـن سعد بـن أبيِ وقـاص) (والعضاه: الشجر)؛ وقال عـن واد بـــالطـــائف: «إن صيد وجٌ وعضاهُه حـرام» (رواه الإمام أحمد وأبو داوود عن الـزبيـر). وقال الإمـام أبو يوسف في كتاب «الخراج» (104): حـدثنا مالك بـن أنس أنه بلغه عـن النبي ﷺ أنه حـرم عضاه المـــدينة وما حـــــولها اثني عشر ميـلا وحـرم الصيد فيها أربعة أميال حولها. وقد تغلغلت هذه المعاني في أفهام المسلمين أيما تغلغل. يقول الإمام أبي محمد ابـن حـزم في المحلى: «والإحسان إلى الحيوان بر وتقوى، ». بـرهان ذلك قول اللّـه عز وجل: ﴿وإذا تولىّ سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾(البقرة: 205). من علف أو رعي، **** فينطلق من المبادئ التالية التي تعتنقها الدولة الإسلامية: (1) الإنسان مـكرم: ﴿ولقد كّرمنا بـــــني آدم﴾ (الإسراء: 70). 2) الشريعة وضعت للـمحافظة على الضروريات الخمس: وهـي الـدين والنفس والنسل والمال والعقل». 3) الحياة حـق لكل إنسان، يقول اللّـه عز وجل: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ (المائدة: 32). والاعتداء على حياة أي نفس بشـرية، ولو كـانت جنينا أو شيخا أو معوقاً . عدوان على البشر جميعا: ﴿من قتل نفساً- بغير نفس أو فساد في الأرض-فكأنما قتل الناس جميعا﴾ (المائدة: 32). فالحسن هو الجيد، وهذه الجودة مطلوبة في كل شيء . كل شيء. فالنبي ﷺ يقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (رواه أحمد ومسلم عن شداد بن أوس). ولكن كلمة الإحسان تتضمّن أيضا تلك اللمسة الرفيقة الحانية التي افتقدناها أو كدنا نفتقدها في ممارسة الطب الحديث . تتضمّن نفسية العطاء حيث يحب المـرء لأخيه ما يحب لنفسه بل ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة. ويتضمّن الإحسان كذلك صحوة الضمير ومـراقبة الله عز وجل في كل تصرّف وسلوك كما يقول النبي ﷺ: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة). وقد تـمّ تطبيق هذه القيم في مجال حق الإنسان في الصحة منذ صدر هذه الحضارة التي ننتمي إليها ونعتزّ بها.  وكان للطفل – أي طفل – حقّ الـرعاية على الدولة؛ كالذي ورد في «طبقات» ابـن سعد: «أن عمر رضي الله عنه كان يفرض للمنفوس (الوليد) مئة درهـم، وفرض له رزقاً يأخذه وليه كل شهر بما يصلحه، وكان يوصـي بهم خيراً ويجعل نفقتهم ورضاعهم من بيت المال». كما ورد في عقد الـــذمّة بين خـــالد بن الــــوليد رضي الله عنه وبين أهل الحيرة: «وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصـــــابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصـدّقون عليه:(1) طـرحت جـزيته (يعني أعفي من الضـرائب)، ويتّضح من هذه الأمثلة أن الدولة الإسلامية تعتبر حقّ الصحة هذا حقّاً «لـلإنسان»، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وأن رعاية الدولة الإسلامية لـلإنسان تبدأ منذ الولادة بتأمين الرضاع الصحي، فـــالناس جميعاً، من حقّهم على الدولة الإسلامية أن تتساوى فــرصهم في الحصول على الـرعاية الصحية، وهذا هو لبّ الشعار أو المفهوم الذي تـــدعو إليه – بعد أربعة عشر قــــرناً – منظمة الصحة العالمية بعنوان «توفير الصحة للجميع». ويطيب لي أن أختم ببعض الحقوق الصحية التي أخذت تبرز اليوم وتستعلن، في مواكبة التقدّم العلمي الحثيث السير، وفي مواكبة التطور الذي طرأ على أفهام الناس، وقد اختلفت آراء فقهاء المسلمين في هذا الموضوع، فكلهم متّفقون على أن الجنين نفس، وعلى أن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، على أن الإمام الغزالي رحمه الله كان صاحب بصيـرة نافذة، ويقع الشيء (البــويضة الملقحة بتعبير اليوم) في المحل (مكان علـــوقها في الرحم)، وإفساد ذلك جناية، وتبلغ غاية التفاحش بعد الانفصال حياً بالميلاد، وهو ما كانت تقترفه عـرب الجاهلية من وأد البنات». ومنها أن التسبّب في إسقاط الجنين ولو عن غير قصد يستوجب عقوبة مالية اسمها الغُرّة وهي نوع من الدِّية. ومن هذه الحقوق حقّ الزوج والزوجة في الإنجاب. والسعي لذلك بالوسائل الطبية مشروع ما دام في نطاق المسموح الشرعي، أي أن يكون بمني الزوج وبويضة الزوجة في حال قيام الزوجية. وزرع قرنية العين، وزرع غير ذلك مما يمكن زرعه من الأعضاء. وعلى الدولة المسلمة وضع الضوابط التي تنظّم ذلك بما يكفل الالتزام بــــالهدي الإسلامي. والتبرّع بالدم أو الكلية أو غيرهما إنما يؤدّي فرض كفاية نيابة عن المجتمع كله. فقد قضى سيدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه بأنه إذا مات إنسان جوعاً في جماعة، فإن على هذه الجماعة الدّية، كما لو كان أفرادها قد شاركوا في قتله. إن كان ذلك لا يضـرّ بالمانح. والأصل في ذلك قول النبي ﷺ: «ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد: إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسّهر» (متفق عليه عن النعمان بن بشير): وقولـه ﷺ: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه»، ففي نقل الدم إلى المنزوف أو زرع الكلية لمريض تلفت كليتاه تـلفاً لا يقـبل الإصلاح، احياء مادي، وكــلاهما يـنـدرج تحت عنـــوان الإحياء الـذي ذكـــره اللّـه عز وجل في هذه الآية الكريمة. والحـديث عن هذه الأنواع من الحقوق التي تستجدّ يوما بعد يوم، يطول. ويكفي أن نلتزم فيها بالآيات والأحاديث التي أسلفنا ذكــرها،