جلس على حافة سريره مفكراً واضعاً رأسه بين كفيه. اخوته الثلاثة وهو رابعهم وأكبرهم والمطلوب منه قضاء حاجاتهم بعد فقد أبويه ونفاذ المال الذي ورثوه أنه يريد التخلص من هذا العذاب الذي يعانيه ولكن كيف؟ قطع حبل أفكاره السوداء نقرات خفيفة على الباب وصوت أخيه الصغير راشد: أفتح يا صادق اريد منك أن تشتري لي محفظة أقلام وكراسات. وفرت دمعات من عينيه. وقام الى النافذة فاذا بالشمس قد آذنت بالمغيب. وتوقف قليلاً عن السير وأخذ يفكر في كيفية السّطو على احداها. وقال في نفسه وقد صمم على تنفيذ ما يريد: أريد أن اختلس، لقد نزعت الرحمة من قلوبهم ففرضوا اسعاراً باهظة على بضائعهم . أن غناهم كان احتيالاً وجشعاً فلمَ لا أحتال وأسطو على هؤلاء الذين اتصفوا بالطمع والقسوة. لقد شرد في هذه الأرض المحتلة وقطعت به الأسباب. فسطا على احدى المحلات التجارية وتنفس الصعداء وقد نجح في تنفيذ جريمته. وفجأة سمع صوت نباح كلب يرهب الحارّة من لصوص ومفسدين وعابثين. وهاجت الكلاب في هذه اللحظة الرهيبة وكأنها في شجار مستعر وانطلق نباحها معاً. واستدار وحوّل وجهته الى طريق آخر، وجرى مسرعاً حتى خفت على مسامعه نباح الكلاب. وظلل الكون صوت رهيب وبدأت خيوط الفجر تنسج ثوب النهار وواصل سيره الى البيت وكان قريباً من المقبرة. ولاحت في مخيلته أشباح الموتى وهي تعقد له محكمة كبرى لتعاقبه على جريمته. فأخذت نفسه تتعذب فكان عذاباً مريراً . أيردّها في مكانها أم يلقي بها في أعماق الجبّ القريب منه أم يلقي بنفسه في الجبّ. شعر بأن قواه ستنهار. وعلاه الوجوم والاضطراب وشرد في بيداء حيرته وتساءل بحرقة: ما الذي دفعني الى مثل هذا العمل المشين أهو الفقر والحاجة أم الانتقام من هؤلاء التجار الجشعين الذين يحتكرون بضائعهم ويواصلون برفع الأسعار على الضروريات التي لا غنى عنها. أنهى المرحلة الثانوية بتفوق وارتقاء. ونشأ يتيم الأب حتى أمه التي عطفت عليه قد أدركتها منيتها والتي عاهدته أن تكون له مضحية عاملة في مهنة الخياطة في سبيل اكمال تعليمه. جلس ووضع يديه على رأسه وتذكر أن ف يجيب قميصه أقراص من الأسبرين. ولكن الى أين؟ الى بيته؟ لكن صيحة انطلقت من أعماقه. ستعيش في بحر الهمّ والقلق والعذاب ووقف قليلاً مفكراً وانحدرت من عينيه دموع خطيئته. لامست أسماعه أقدام المارّة فسار الهويني وأنتابت خواطره النقية التقيّة وصوت ضميره يدعوه الى الخلق الحسن والفضيلة الطيبة. نظر الى معصم يده فالسّاعة تشير الى السّادسة والنصف. وسار وقد انفرجت أساريره وفي طريق عودته الى البيت أبصر الأشجار وعلى أغصانها العصافير المغرّدة . انها تحلق في الفضاء الرحب وتنتقل من شجرة الى أخرى ومن سماء الى سماء ومن أرض الى أرض أخرى. وأحسَّ ببشائر النشوة تهز من اعماقه وقد غذّتها زقزقة العصافير فأخذت تشدو مع هذا الصوت الجميل فأيقظتْ في نفسه حب العمل والتوكل على الله وفي قرارة نفسه الاقدام والعمل عملاً شريفاً ليعيل اخوته ويحقق مطالبهم وحاجاتهم.