اعتبر الشيخ زايد تسلمه مقاليد الحكم في أبو ظبي فرصة لترجمة مبادئه إلى خطوات عملية والمضي قدماً في تنفيذ رؤيته للوحدة والتطوير والتنمية. ولم يعتبر الشيخ زايد منصبه تتويجاً لحياته السياسية، بل منطلقاً لخدمة أهالي أبو ظبي. وعلاوةً على ذلك بدأت المشروعات التي دشنت في عهده تغير ملامح أبو ظبي ليعم الرخاء، وكان ذلك كله مقدمة لتحقيق حلمه العظيم وهو وحدة إمارات المنطقة وتكاملها بحيث يجني الجميع ثمار التطور.يتسم مفهوم الوحدة عند الشيخ زايد ببعد أخلاقي عميق؛ فهي لم تكن مطلقاً مجرد وسيلة لتحقيق مصلحة سياسية ضيقة، وإنما كانت في ذهنه مبدأ فلسفياً يمثل جوهر الوجود الإنساني وضمانة استمراره، وهو يعتبر الوحدة كالنهر الذي يزداد قوةً وغزارة، إذ تصب المياه فيه من كل صوب أثناء تدفقه. كان الشيخ زايد يرى أن من البديهي أن تزول الخلافات والانقسامات السياسية بين شعوب الأرض، وأن تتحطم الحواجز التي تحول دون تقدم البشرية من فقر وجهل ومرض، وأن حالة الانقسام والتشرذم هي سبب ضعف البنية الاجتماعية، ويؤمن إيماناً تاماً بأن ما يحققه الاتحاد يفوق مجموع ما تحققه إمارات متفرقة، وكانت هذه الرؤية الواسعة حاضرة دائماً ضمن أحاديث الشيخ زايد عن الوحدة. " وكان الجزء الأول من رؤيته البعيدة هو إقامة دولة الإمارات العربية المتحدة كدولة مستقلة ذات سيادة تشكل خطوة على درب الوحدة، فلقد بنيت دولة الاتحاد على هدي هذه المبادئ السياسية والقيم الخلقية العميقة، وكان من المقرر أن يتبع ذلك تحقيق تكامل أوسع وتعاون أوثق مع دول الخليج العربية تحديداً والعالم العربي بصفة عامة لقد استوعب الشيخ زايد أهمية الوحدة منذ صباه الباكر، حين كان يمضي بعضاً من وقته في مجلس أبيه، وقد أدركها بداية في رجال القبائل الذين يفدون إلى المجلس بهمومهم وقضاياهم المنفصلة والخاصة، ولكنهم يظلون ملتحمين ضمن نسيج القبيلة. وتركت هذه الصورة المبكرة انطباعاً مهماً لدى الشيخ زايد حول أهمية التكتل والاتحاد، لتتطور لاحقاً إلى مبدأ راسخ في حياته. لغتهم واحدة ودينهم واحد، وحتى الأرض التي عاشوا عليها منذ آلاف السنين وحدة واحدة". لقد تصور الشيخ زايد أن الوحدة بين شعوب الخليج العربي ستكون نموذجاً ملهماً للعالم العربي بأسره؛ فلو كان بالإمكان أن تنجح هذه الوحدة في هذه المنطقة وتقوم بين قبائل مزقتها العداوات العميقة - منها ما هو اقتصادي، ومنها ما يعود إلى قضايا وخلافات عفا عليها الزمن، وأخرى تستند إلى عداوات راهنة - فإنها يمكن أن تتحقق في مناطق أخرى من العالم العربي. وإذا ما وجدت شعوب الخليج العربي قاعدة للتكامل فيما بينها، فإن الأجزاء الأخرى في العالم العربي ستحقق التكامل أيضاً. وبقدر إيمانه بالوحدة كان الشيخ زايد ملتزماً ببذل كل ما يستطيع لتحقيق التقدم الذي لم يكن مطلباً إنسانياً فحسب، بل جزءاً من إيمان عميق دفعه إلى أن يعمل لما فيه المصلحة العامة، يسيرها ويديرها . وعلى الله التوفيق». وكان الشيخ زايد مقتنعاً بالأهمية البالغة للوحدة في تحقيق التطور، على أن يكون تحقيق الوحدة جزءاً من خطة أكثر اتساعاً وشمولاً. وقد شعر الشيخ زايد أنه ليس إلا شخصاً متواضعاً اختارته الأقدار لأداء هذه المهمة، وأكد هذا المعنى بقوله:إذا رضي الله عن القائد بعثه إلى أمة يرضى عنها، وهداه إلى أن يقود أمته إلى سواء السبيل الذي يرداه . وإنما بيد الله سبحانه وتعالى . وعن أعمالهم، فإنه يهيئ لهم من أبنائهم قادة يجتمعون على طريق الخير، ويرفعون مستوى مواطنيهم كانت فكرة الوحدة بالنسبة إلى الشيخ زايد مهمة للغاية بحيث لم يكن بوسعه أن يتركها تفشل، إذ سرعان ما ثبت أنها ليست بالأمر اليسير، فقد شهد المشكلات التي واجهت الاتحاد الذي أوحت به بريطانيا في اليمن الجنوبي، واستوعب درساً مهماً من الانهيار المخزي لتلك التجربة . لقد أراد وحدة ناجحة ودائمة تلبي طموحات شعبه؛ وحدة تعود عليهم بمنافع حقيقية، وليس وحدة تلبي مصالح البريطانيين. وانطلاقاً من رؤيته الواقعية فقد أدرك التعقيدات الكامنة في عملية الانتقال من مرحلة الحماية البريطانية إلى مرحلة الاستقلال والاعتماد على النفس، وكان يدرك الأسباب التي جعلت قلة من المسؤولين البريطانيين فقط - وليس معظمهم - تعتقد أن التجربة الوحدوية في المنطقة قادرة على البقاء، بل إنه تقبل فكرة أن شكوكهم لها ما يبررها. وأوحت تجربة مجلس الإمارات المتصالحة بأن النزعة الانقسامية بين الإمارات سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى تمزيق الدولة الوليدة التي لم تترسخ قواعدها بعد. وما يمكن أن تحققه من مكاسب. وخلال الفترة 1968 - 1971 بدا أن معظم الجهود التي تبذل في سبيل الاتحاد تؤكد مخاوفه، فقد التزم الحكام بمبدأ الاتحاد إلا أنهم ركزوا في البداية على المصالح الآنية لإماراتهم، وفي هذه الأثناء أعطى الشيخ زايد أولوية لتعزيز البنية التحتية الاقتصادية واللحمة الاجتماعية في أبو ظبي، ليكون ذلك بمنزلة اللبنة الأولى في بناء الاتحاد مستقبلاً.كان الطريق إلى إقامة دولة الإمارات العربية المتحدة معقداً وشائكاً إلى حد بعيد. وباستثناء الشيخ زايد، فإن قلة من الأطراف الأخرى التي لها صلة بعملية إقامة الاتحاد - وهي الحكومة البريطانية وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات الأخرى في جنوب الخليج العربي – قد اتبعت سياسة ثابتة بهذا الشأن. ولكن في وقت مبكر، وتحديداً في نيسان/ إبريل 1968، وفي حوار طويل مع إدوارد هندرسون، لخص الشيخ زايد خطته لتحقيق الاتحاد، والتي توافقت إلى حد بعيد مع المحصلة النهائية التي تمت في عام 1971، فقد رأى أنه لابد من وضع هدف محدد يكون لكل إمارة دور في تحقيقه من أجل بقاء الاتحاد، أما إذا فشل الاتحاد فسيحدث اضطراب اجتماعي. وحيث إن أبو ظبي هي الإمارة ذات المساهمة الرئيسية في الاتحاد فإن أهلها يودون أن تكون إمارتهم مقراً للحكومة الاتحادية، على أن تبقى كل إمارة مستقلة في شؤونها الداخلية،مع وجود وزارتين مركزيتين؛ واحدة للدفاع والأخرى للشؤون الخارجية.وقد أثبتت الأيام أن الشيخ زايد هو القائد المناسب في المكان المناسب والوقت المناسب، ففضلاً عن رؤيته الوحدوية وقوته ونشاطه واتساع أفقه، يتصف الشيخ زايد بقدرة مميزة على إجراء المشاورات بأناة ومثابرة من أجل تحقيق الإجماع في الرأي، كما أنه أظهر استعداداً وقدرةً على التوصل إلى تفاهم مع خصومه وتسوية خلافاته معهم بشكل يندر أن نجد له مثيلاً في مكان آخر.الطريق نحو الاتحادانطلقت الخطوات الحثيثة نحو وضع إطار سياسي جديد للمنطقة في منتصف كانون الثاني/ يناير 1968، عندما أعلنت الحكومة البريطانية فجأة أنها ستنسحب من المنطقة، ورغم أن القرار كان مفاجئاً للحكام، فإنهم سرعان ما أدركوا أن عليهم الآن أن يقفوا صفاً واحداً لما فيه مصلحة شعوبهم. ولكن محاولاتهم ظلت مقيدة بفعل الوجود البريطاني الذي امتد إلى أكثر من قرن من الزمان. وفي الوقت ذاته أدت القوة العسكرية البريطانية دور القوة الرادعة والحامية في مواجهة أطماع الدول المجاورة. وبناءً عليه كانت دبلوماسية الدول القوية في المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية وإيران والعراق، مبنية على تواصل الدور البريطاني في المنطقة. وفي عام 1968 تقرر رحيل الطرف الرئيسي في صياغة السياسة العامة على أن يكون هذا الرحيل عام 1971، وكانت الفترة المتبقية أمام إمارات الخليج العربي قصيرة للغاية ولا تكفي لوضع بدائل واضحة. كانا يمثلان تطوراً سياسياً منطقياً. ولكن كان من المستبعد في ذلك الوقت التوصل إلى نتيجة مستقرة ودائمة. وتبرر احتمالات عدم الاستقرار الأهمية الكبرى التي أولاها الشيخ زايد لعملية تطوير الثقة المتبادلة والسعي لتحقيق الوئام سواء في بناء دولته أو في نهجه الدبلوماسي. وكانت شخصية الشيخ زايد الفريدة ومكانته الخاصة بين الحكام الذين عاصروه تتيحان له تفهم العوامل الكثيرة المعقدة التي قد تحدد في نهاية المطاف نجاح الاتحاد أو فشله.جاءت الخطوة الحاسمة الأولى في طريق الاتحاد نتيجة لاتفاق ملحوظ في الرؤى بين الشيخ زايد حاكم أبو ظبي والشيخ راشد حاكم دبي، إذ أدت الاتفاقية الثنائية المبدئية بين الحاكمين إلى إقامة اتحاد بين أبو ظبي ودبي بتاريخ 18 شباط/ فبراير 1968. ومن العوامل المهمة جداً التي أعطت دفعة لإبرام الاتفاقية المذكورة رغبة القائدين في إعطاء نموذج للإمارات الأخرى عن سبل نجاح الوحدة وفوائدها. " ووفقاً لهذه الاتفاقية تتشكل دولة فيدرالية واحدة ذات سياسة خارجية ودفاعية وأمنية مشتركة، وتقدم خدمات طبية وتربوية مشتركة، ولها حقوق مواطنة مشتركة. وتأكيداً على أن هذه الاتفاقية أكثر من مجرد وثيقة مكتوبة، أبرمت الإمارتان في اليوم نفسه اتفاقية أخرى خاصة بترسيم الحدود البحرية بينهما، وكان لهذه الاتفاقية أهمية حاسمة في تطوير الموارد النفطية في دبي. ومثلت هذه الاتفاقية تنازلاً طوعياً من قبل أبو ظبي لصالح دبي، وإشارة مهمة إلى أن التسوية السلمية قد تحل المشكلات طويلة الأمد بين الإمارتين.لقد تطورت العلاقة التي ربطت حاكمي أبو ظبي ودبي منذ اللحظة التي شارك فيها الرجلان في فترة مبكرة من عمرهما في مجلس الإمارات المتصالحة، كما ربطهما تفاهم مشترك قائم على إدراك واضح متبادل للسمات الحقيقية لكل منهما، وتعمقت الثقة الجوهرية بينهما عبر مراحل بناء دولة الإمارات العربية المتحدة وما تلاها من أحداث. وعندما التقى السفير الأمريكي في دولة الكويت وليم ستولتزفس William Stoltzfus الشيخ راشد في 4 حزيران/ يونيو 1972 سأله عن مدى تقدم الاتحاد الجديد «فأشار الشيخ راشد إلى أن الاتحاد يتقدم حسبما هو متوقع، معتبراً الاتحاد في مرحلة التأسيس، ووصف الشيخ زايد بأنه رجل شريف ونيته طيبة، وهو رجل فطن يحتكم لصوت العقل». " وكلمة " شريف " تشتمل على مناقب عديدة؛ منها الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والأصالة وشرف الكلمة والجدارة بالثقة. ومن المؤكد أن الشيخ زابد كان له الرأي نفسه في الشيخ راشد. غير أنه كما هو متوقع من شخصيتين قويتين على هذا المستوى لم يكونا متفقين تماماً في كل الأمور، إذ كان لكل منهما شخصيته القوية ورأيه، ولكن يمكن القول إنهما اتفقا بشأن كل القضايا المهمة. وكان الرجلان يؤمنان إيماناً عميقاً بأن التسوية المتفهمة للظروف المحيطة قادرة على حل المشكلات العالقة؛ لذا كان الاتفاق بين الإمارتين يستمد ثباته وقوته من الاتفاق في الرأي بين الزعيمين.كانت منهجية الشيخ زايد في إبرام اتفاقية الوحدة بين أبو ظبي ودبي أول مؤشر إلى الطريقة التي سيتبعها في المفاوضات المؤدية إلى الوحدة السياسية، فقد أظهر مرة تلو الأخرى استعداده لاتخاذ خطوات جريئة مادامت تحقق هدفاً سامياً. أما أهمية التطورين اللذين تحققا - تسوية قضية حدودية وإعلان الاتحاد الثنائي - فقد حظيت بالاعتراف من قبل الزعماء الآخرين في المنطقة. لقد أعطى الاتفاق أول مثال عملي في المنطقة على حل المشكلات الحدودية جزئياً، تلك المشكلات التي عاقت التعاون الفاعل بين الإمارات حتى تلك اللحظة. كما اعتبر الاتفاق أيضاً بادرة حسن نية مهدت الطريق أمام قيام اتحاد لا يقتصر على أبو ظبي ودبي فحسب، بل يمتد ليشمل الإمارات الأخرى أيضاً. " لقد كانت إرادة الشعب ورغبته في الوحدة عنصراً فاعلاً - وإن لم يكن أثره واضحاً بقوة – في بنية السلطة في المنطقة. " ولكن الشيخ زايد أدرك أن هذه " القوة الدافعة " ستكون ذات أهمية بالغة في نشأة الدولة الجديدة.إن الاتفاقية الرائدة بين أبو ظبي ودبي فتحت الآفاق أمام إقامة اتحاد أشمل، تمتد التزاماته ومنافعه إلى الإمارات الأخرى كلها. وقد دعا الشيخ زايد والشيخ راشد حكام الإمارات الخمس الأخرى في الساحل المتصالح إلى الانضمام إليهما، وأنه، حتى لو امتنعت الإمارات الأخرى عن الانضمام إلى الاتحاد الذي جمع أبو ظبي ودبي فإنه سيبقى راسخاً. كما دعيت البحرين وقطر لتكونا جزءاً من هذا الاتحاد ضمن توجه إلى إقامة وحدة أوسع وأشمل، وما إن أعلن اقتراح إقامة وحدة أشمل حتى لقي تأييداً واسعاً، ووقعت الإمارات التسع في دبي في 27 شباط / فبراير 1968 على اتفاقية تقضي بالتعاون على إقامة اتحاد يجمع بينها، وقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ ابتداء من 30 آذار / مارس 1968.عبرت اتفاقية دبي - كما أطلق عليها – عن تطلعات طموحة تبعث على التفاؤل أكثر من إنجازها برنامجاً عملياً للوحدة. " وفي غمرة سعيها الدؤوب للتوصل إلى اتفاق في أقرب فرصة ممكنة تغاضت الإمارات التسع المشاركة في الاتفاق عن التوترات التي كانت قائمة بين بعض الإمارات، والتي كانت واضحة بالفعل في 27 شباط/ فبراير 1968. وفي الحقيقة كان الاتفاق في أضيق الحدود الممكنة، ورغم غياب الإجماع الحقيقي فإن إمارات الساحل المتصالحة قد اتخذت قراراً صائباً حين قررت أن تتوصل إلى اتفاقية من حيث المبدأ، ففي ربيع عام 1968 كان أهل المنطقة والعديد من الشعوب الأخرى في انتظار أن يروا دليلاً مادياً ملموساً على أن حكام الخليج قد استجابوا بشكل إيجابي للمبادرة الخلاقة للشيخ زايد والشيخ راشد.المتباينة. ورحبت بريطانيا والولايات المتحدة بهذا التحرك، أما إيران فقد أبدت معارضة تامة للاتفاقية كما كان متوقعاً. وبعد أقل من شهرين من إعلان قرار الانسحاب البريطاني المرتقب بدا أن مشكلات المنطقة قد حُلَّت ظاهرياً على الأقل. وفي غضون ذلك كان الشيخ زايد واعياً تماماً للفرق بين اتفاقية موقعة وإقامة كيان سياسي يؤدي مهامه كما يجب، وقد علمته تجربته الطويلة في أبو ظبي ألا يثق بالحلول التي تُصاغ بسهولة، ولكن توقيعه اتفاقية جوهرية مع دبي جعله راضياً بأن يقوم الحكام الآخرون بمعالجة التفاصيل الدقيقة المرتبطة بتحقيق اتفاق عملي على اتحاد جديد في جنوبي الخليج العربي. لقد كانت فكرة الاتحاد التُّساعي فكرةً طموحة للغاية، وكان من أشد المؤيدين لها الحكومة البريطانية التي اعتبرت اتحاداً كهذا حلاً مثالياً لتلبية التزاماتها في المنطقة في مرحلة ما بعد زوال الإمبراطورية. غير أن اتحاداً كهذا كان منطوياً على توترات متأصلة كثيرة قد تمنعه من تحقيق نجاح فعلي، وقد عبر جون ديوك أنتوني John Duke Anthony عن هذه القضية بطريقة موجزة حين قال:بعد عام 1968 عندما بدأت المفاوضات بين إمارات جنوبي الخليج العربي التسع (بما فيها البحرين وقطر) . كانت هناك مشكلة مهمة وهي توزيع السلطات بين الحكام وحكومة الاتحاد وتمثلت المشكلة الأخرى في كيفية عمل الاتحاد . وعكس الانقسام بينالحكام حول هذه القضايا اختلافاً حقيقياً في الرأي إلى حد ما، غير أنه كان بصورة أخرى نتيجة لخلافات تقليدية قبلية وأسرية».من الناحية العملية يمكن رد المشكلات الأساسية آنذاك إلى البحرين وقطر، إذ كان لكل منهما برنامج سياسي يختلف في جوهرة عن أمثاله في الإمارات الأخرى، وقد كان من شأن طرح البحرين لفكرة التمثيل النسبي أن يؤدي إلى الهيمنة على الإمارات الأصغر منها. واقترحت هيكلاً اتحادياً جديداً، وقدمت بعد أسبوع من الاتفاقية المبدئية بين أبو ظبي ودبي خطة من طرف واحد؛ يتم بموجبها دمج إمارات الساحل المتصالحة الخمس الصغرى في إمارة واحدة يطلق عليها " إمارة الساحل العربية المتحدة"، بحيث يكون لها صوت واحد في الاتحاد. ولنا أن نتفهم سبب رفض حكام كل من الشارقة وعجمان ورأس الخيمة وأم القيوين والفجيرة لهذا المقترح الذي من شأنه تنصيب "حاكم" واحد من بينهم لحكم هذه الإمارة الجديدة، مما يجعل بقية الحكام أدنى مرتبة منه.ورغم الرفض الواضح لمقترحها فإن قطر تركته مطروحاً للبحث، وكان موقفها طوال المناقشات اللاحقة هو التقدم بخطى حثيثة نحو اتفاقية على أسس تراها مقبولة. وبعد اتفاقية دبي في شباط/ فبراير، وقبل الاجتماع الأول لاتحاد الإمارات التسع الذي عقد بأبوظبي في 25 أيار / مايو 1968، قدمت قطر عدداً من الاقتراحات لإدراجها في جدول أعمال الاجتماع. ومن بينها ما أعلن عنه القطريون: يجب ألا ننتظر إلى أن تتم صياغة ميثاق، حيث إن اتفاق دبي بوصفه ميثاقاً مؤقتاً كان كافياً من أجل اتخاذ الخطوات المبدئية الرئيسية».غير أن الانقسامات العميقة كانت واضحة حول الأهداف المشتركة، وسرعان ما ظهر نمط معين من التعامل أضحت فيه اقتراحات قطر تواجه بمعارضة موحدة تقودها البحرين في العادة. ** وكان موقف أبو ظبي هو القيام بدور الوسيط ما بين الأطراف المتشبثة بمواقفها.رغم أن الشيخ زايد كان على دراية بالتناقضات التي ينطوي عليها قيام اتحاد تُساعي، فإنه واصل جهوده حتى آخر الطريق لإيمانه بمنافعه. وفي إشارة إلى اجتماع أيار/ مايو لاحظ إدوارد هندرسون أن زايد هو الذي كان يرغب في التوصل إلى تسوية بغرض تحقيق الهدف الرئيسي، وأنه قد بذل جهداً أكبر في إصلاح ذات البين تجنباً لتوسيع شقة الخلاف. J. Treatwel الوكيل السياسي في أبو ظبي قائلاً:أظهر الشيخ زايد قوة شخصيته في إصراره على انتهاج المسار الذي كان يراه صحيحاً، كان في وسعه أن يضحي بانضمام البحرين ليصبح العضو الأبرز في اتحاد من ثمانية أطراف . ولكن بدلاً من ذلك اختار الشيخ زايد أن يقاوم التحركات التي جرت ضد انضمام البحرين، وأثناء ذلك كان عليه أن يتحمل انقطاع صلته بقطر، وأن يتراجع خطوة أخرى إلى الوراء عن تحقيق السلام مع دبي، وأن يرمي جانباً المكاسب التي تحققت من الاتفاقيات الحدودية مع كلتا الإمارتين، والتي تم التوصل إليها بفضل سياسته التوفيقية حصراً. ولكن ما الروح التي دفعت الشيخ زايد إلى مواجهة هذه التناقضات بهدف الإبقاء على الإمارات التسع معاً؟ يقال إنه بوصفه رئيساً للمجلس كان حريصاً على أن يتم الاتفاق على كل القضايا المدرجة على جدول الأعمال . أعتقد أن في وسعنا التأكد . من أن حاكم أبو ظبي بما يحظى به من ذكاء فطري وقدرة تفاوضية سيكون المبادر إلى إعادة إذكاء الحماسة بشأن إقامة اتحاد وثيق يضم جميع الإمارات». ولكن من الناحية الواقعية أضحت فكرة إقامة اتحاد واسع وشامل في المنطقة عقبة أمامإقامة كيان سياسي فاعل قبل الموعد الذي حددته السلطات البريطانية للانسحاب من المنطقة بحلول كانون الأول/ ديسمبر 1971. وقد ظلت القضايا الأمنية والدفاعية أكثر ما يشغل بال الأطراف التي دخلت المفاوضات من أجل إقامة اتحاد تُساعي، ومرد ذلك جزئياً إلى أن هذه القضايا هي الموضوع الوحيد الذي تشترك الإمارات كلها في الاهتمام به، ذلك أن بريطانيا ما إن تنسحب من المنطقة حتى تصبح هذه الإمارات مسؤولة عن اتخاذ إجراءات تعزز أمنها ومعالجة قضايا المطالبات الخاصة بالسيادة على الأراضي في المنطقة والمطالبات المضادة لها. وفي الفترة 1968 - 1971 ظلت القضايا الأمنية شاغلاً أساسياً، يضاف إلى ذلك أن البحرين قد سعت إلى أن يكون لها مكانة خاصة في الاتحاد بفضل قوتها وحجمها وتقدمها، رغم اتفاقها غالباً مع تطلعات إمارات الساحل المتصالحة وغاياتها. كما كانت البحرين واقعةً تحت ضغوط من إيران التي طالبت بضمها إليها، وادعت ملكيتها التاريخية للجزيرة كاملة وللجزر الأخرى التابعة للإمارات الشمالية. وكان قبول عضوية البحرين في الاتحاد في ظل استمرار هذا الخطر يعني أن يجد الاتحاد نفسه في حالة عداء مباشر مع دولة جارة قوية. وعلاوة على العامل الإيراني ظلت البحرين وقطر تختلفان بشأن معظم القضايا؛ فعلى امتداد فترة طويلة كانت هناك منافسة اقتصادية ونزاعات حدودية بين الإمارتين لا يمكن التغلب عليها بضم هاتين الإمارتين إلى اتحاد أوسع.وربما كان الشيخ زايد آنذاك هو الحاكم الوحيد الملتزم التزاماً ثابتاً ومطلقاً بتحقيق الاتحاد، ولكنه أراده اتحاداً فعالاً وعملياً، لا مجرد صيغة هشة قد تنهار عند مواجهة أول تحد خطير. وكان من الصعب أن يحدو المرء أمل كبير في نجاح الاتحاد التساعي، إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن البحرين بقوتها وثقلها تمثل مكسباً للاتحاد من الناحية النظرية، فإن كثافتها السكانية وخبرتها المتقدمة في مجالي التعليم والإدارة يمكن أن تخل بالتوازن في البنية الجديدة، إذ سرعان ما سيحتل البحرينيين المؤهلون تأهيلاً جيداً الوظائف المتاحة في الإدارة الجديدة والجهاز البيروقراطي، وهذا سيؤدي حتماً إلى خلق استياء محلي. وإذا تبين أن هيمنة البحرين ستطغى داخل الاتحاد بحكم عدد سكانها وخبراتها المتميزة فإنَّ مشروع الوحدة سينهار في نهاية المطاف.ومنذ البداية كانت أبوظبي والإمارات القريبة منها تؤمن بأن الخيار الأكثر واقعية في المرحلة الأولى هو إقامة اتحاد يقتصر في عضويته على إمارات الساحل المتصالحة المتلاصقة فقط، إذ عمل حكام هذه الإمارات معاً في مجلس الإمارات المتصالحة طوال عقدين من الزمن تقريباً ، وحققوا بالفعل بعضاً من المصالح المشتركة والتفاهم المشترك ؛ لذا فقد اتخذ الشيخ زايد انطلاقاً من هذه المبادئ الخطوة الحاسمة الأولى وهي توقيع اتفاقيته مع دبي، كما أنه بفضل إدراكه لأهمية بناء الثقة وتوطيد التعاون لخدمة المصالح المشتركة فقد حث وفد أبوظبي على مقاومة الضغوط الدافعة إلى التوصل إلى حلول متعجلة؛