لأنني بتُّ أسمعُ في الدار اللاصقة لبيتي أنينَ امرأةٍ متوجِّعة تعالِجُ همًّا ثقيلاً، وكان يُخيَّلُ إليَّ أني لا أسمع بجانبها معلِّلاً يعلِّلُها، تكاد لا تشتمل على أكثرَ من سرير بالٍ، يتراءى فوقَه شبحٌ ماثل من أشباح الموتى، فحرَّكَت شفتيها تطلب جرعةَ ماء، فأنشأَتْ تقصُّ عليَّ قصتها بصوت خافت متقطِّع، ولو كان لفتاةٍ أن تستبدَّ بأمرها من دون أوليائها لأحسنتُ الاختيارَ لنفسي، فاستقبَلَني بأحسنِ ما يَستقبل به الزوج الكريم أحظى نسائه عنده وأكرمَهن عليه، وكنت أنتظر يومَ الفراق كما ينتظر القاتلُ يومَ القِصاص، فما أفقتُ من صرعة النِّفاس حتى علمتُ أنه خطبَ، فعلمت أن الدهر قد سجَّل عليَّ في جريدة الشقاء أيامًا طوالاً، فظللت أستكتِبُ الناس الكتبَ إلى ذلك الرجلِ أسألُه القوتَ؛ فلم أرَ لي سبيلاً غيرَ سبيل العمل، فلبِثْتُ بضعَ سنين ساهرة الليل قائمة النهار، فلا أكادُ أبلغُ منه الكَفاف حتى بلغ مني الجَهْد، فدهيت بمعضلة من الأدواء خرَجتُ لها عن كل ما أملك من حِلية، وأصبحت لا أملك درهمًا أبتاع به قارورةَ الدواء، ولا أجدُ مُزقةً أُمسك بها قوائم هذا السرير المضطرب. وما قنع الدهر مني بذلك حتى رماني بالداهية الدهياء التي يَصغُر في جانبها كلُّ عظيم من خُطُوبِه ونَكَباته؛ نُمسِكُ به تلك الصُّبابة التي أبقَتْها خطوبُ الأيام ورَزاياها من أعظُمِنا وجلودنا، ولبثتُ أترقَّبُ رجْعَ الكتاب كما يترقب الغريقُ سوادَ السفينة، كما يتطلع الملاح في ظلماته إلى نجمة القطب - إذ هجَم عليَّ ذلك الظالم الجبَّار، فشعرتُ كأن أسهم الدهر التي كانت تروغ هاهنا وهاهنا قد أصابَتْ في هذه المرة المَقْتلَ، حتى إذا اختلَستُ من يد الظلام نعسةً تراءت لي الفتاة كأنها في فراشها مريضة تهتف باسمي، وها أنذا أشعر أن سحابة الموت السوداء تغشِّي على بصري، وأنني مفارقة هذا العالم قبل أن أنظر إلى فتاتي نظرة أتزوَّدُها في سفري إلى تلك الدار. إذ رأيتُ في خلال الدموع التي كانت تزدحم في عيني شبحًا منتصبًا عند باب الغرفة، فرأيته خاشعًا مستكينًا ينظر إلى تلك التي يحملها نظَرات الوَجْد والرحمة، قلت: لعلك جئتَ تستغفرُ هذه البائسة المسكينة من ذنبك إليها في التفريق بينها وبين ابنتها؟! قال: يا سيدي، وتهتف باسمها في يقظتها ونومها حتى سقطت مريضةً لا ينفعها طبٌّ، فلما رأيت أنها وصلت إلى الحالة التي تراها جئت بها إلى أمِّها؛ وجلستُ لكتابة هذه السطور أشعر أني لا أكاد أُمسك قلمي من الاضطراب، بل حزنًا على جميع البائسات من النساء اللواتي يَقتُلهن الرجال كلَّ يوم صبرًا،