نحن الشباب كالأجيال التي سبقتنا، نحمل إرثاً من الحكمة والقيم المشتركة التي تركها أجدادنا. أن نكافح من أجل أن نوفق بين ما ورثناه وبين الواقع الذي نعيشه اليوم، فعالمنا يقف اليوم على مفترق طرق مفصلي، نتيجة تلاقي كل من العولمة المتجذرة مع الابتكارات التكنولوجية التي تحدث تغييرا عميقاً. كما يقف العالم على أعتاب ثورة صناعية رابعة تعيد تعريف الكيفية التي تعمل بها مجتمعاتنا وطريقة تفاعلنا مع بعضنا البعض كبشر. ففي عالمنا الذي يشهد درجة عالية من الترابط بفضل التكنولوجيا يقترب الناس من بعضهم البعض، وتزداد الفرقة بينهم في آن واحد. يتساءل أبناء وبنات جيلي من الشباب: ما هي القيم التي ترسي المواطنة العالمية اليوم؟ وإلى أي اتجاه تشير بوصلتنا الأخلاقية؟ وهل سترشدنا إلى عدالة وازدهار وسلام يعم الجميع؟ كثيراً ما يُوصَف أبناء وبنات جيلي بأنهم حالمون، ولكننا نعلم جميعاً أن كل عمل عظيم يبدأ كحلم. وكثيراً ما يتم التقليل من أهمية جهودنا ووصفها بأنها تنشد المثالية، ولكن السعي للمثالية ليس ضرباً من السذاجة، بل هو الجرأة والشجاعة بعينها؛ فهو يشحذ هممنا حتى نسمو بواقعنا نحو مثلنا العليا، أن أتلمس شيئاً من الوضوح وسط ضبابية المشهد، وأن أطرح عدداً من الأسئلة الأساسية بعيداً عن الكياسة السياسية، سأتخذ من بلدي الأردن نموذجاً لمناقشة هذه الأفكار والأسئلة، فأنا أؤمن أن وضع الأردن يجسد كل ما يحدث في عالمنا اليوم من صواب ومن خطأ في ذات الوقت. لقد واجه الأردن عبر التاريخ الصدمات الخارجية الواحدة تلو الأخرى، إلا أن العقدين الأخيرين كانا في غاية الصعوبة؛ فالعديد من الصراعات تحيط بنا حاليا من عدة جهات، شهدنا حروباً في غزة والعراق وسوريا وليبيا واليمن، فضلا عن حالة الجمود في فرص تحقيق السلام في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما اضطر الأردن إلى تحمل تبعات الأزمة المالية العالمية، وقد تركت كل هذه الأحداث أثراً عميقاً وملموساً، إذ أوصِدت الطريق إلى العراق، الذي يشكل أكبر سوق لصادراتنا، مما أفقدنا أهم منافذنا التجارية إلى تركيا وأوروبا. كما تضرر قطاعا السياحة والاستثمار بسبب انعدام الاستقرار في المنطقة على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلناها لنحول دون ذلك. لست أدري إن كانت هناك دولة أخرى في التاريخ الحديث قد تعرضت لمثل هذا الكم الهائل من الأزمات المتتالية، ووجدت نفسها محاطة بعدد كبير من الصراعات التي لم يكن لها يد فيها. ولا تتوقف الأزمات عند هذا الحد؛ فبلدي الأردن الفقير بالموارد، وسط إقليم يعج بالأزمات، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين الفلسطينيين ومئات الآلاف من العراقيين، إن الأردن اليوم هو أحد أكثر دول العالم استضافة للاجئين. إن الكلفة المباشرة للأزمة السورية تستنزف أكثر من ربع موازنتنا، ويمتد أثرها إلى مجتمعاتنا المحلية، حيث يعيش تسعون بالمئة من اللاجئين السوريين. فهناك ضغوطات متزايدة على قطاعات الإسكان، لم نتراجع عن مبادئنا وقيمنا، ولم ندر ظهرنا لمن يحتاجون العون. ورغم حجم الدين الهائل الذي يثقل كاهلنا، إلا أننا نقف شامخين بكل اعتزاز وثقة بما بذلناه؛ فجنودنا يواجهون الرصاص وهم يساعدون اللاجئين للعبور بأمان إلى أرضنا، كما أننا لم نتردد في جهودنا الإصلاحية، على الرغم من الأثر الصعب لبعضها على شعبنا. فكلما ازداد الحمل ثقلاً، ازددنا إصرارا على التقدم بثبات أكبر. ونعي تماماً بأنه حتى نتمكن من تخفيض نسبة البطالة وتوفير فرص العمل للشباب ولأجيال المستقبل، علينا أن نحسّن البيئة الاستثمارية بشكل جذري، لقد درجت العادة في الظروف الطبيعية أن يتم ربط المساعدات بما نحرزه من تقدم، تشكل فيها المساعدات أرضية مهمة حتى نتمكن من مواصلة إصلاحاتنا السياسية والاقتصادية. إن الظروف الصعبة لم تمنع الأردن من أن يستمر في المساهمة الإيجابية لتحقيق الخير للعالم أجمع. فنحن متمسكون بالتزامنا بحل عادل وسلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يستند إلى حل الدولتين، كما أننا مستمرون بكل عزيمة بالنهوض بواجب الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف. فالحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى المبارك/الحرم القدسي الشريف أساس تحقيق السلام في إقليمنا وفي العالم، انطلاقاً من مكانة المدينة في الأديان السماوية. كما أن عزيمتنا لم تنثني في الحرب الدولية ضد الإرهاب وفي حرصنا على نشر القيم الحقيقية للإسلام الحنيف. لقد ساهمت قوات حفظ السلام الأردنية في حماية المدنيين الأبرياء في هاييتي، ووصولاً إلى تيمور الشرقية. كما يبرز صوت الأردن عالياً في الدعوة إلى الاعتدال والانفتاح على جميع المكونات الاجتماعية وإدماجها، في منطقة يشتد فيها صخب الفرقة والتطرف. إن الأردن لطالما قام بفعل الصواب، لأن هذا هو جوهر النزاهة والصدق والثقة، ولكن كيف كان رد العالم إزاء هذا؟ يحظى الأردن بالتقدير والمديح بشكل مستمر على مواقفه الإنسانية والأخلاقية، إلا أن الكلام الطيب لا يدعم الموازنة، وعليه، خاصة الشباب. فكيف لدولة صغيرة مثل الأردن، تكافح في وجه صعوبات قاهرة كهذه، ولكن وبنفس المقياس، فقلما تجد بلداً يتحمل على مستوى الفرد هذا الكم الهائل من الصدمات الخارجية أو يساهم في السلام والأمن العالميين مثل الأردن. وكيف لبلدٍ مثل الأردن أن يوفر ملجأ للملايين من اليائسين والمحتاجين، بينما يدور الجدل في دول أغنى بكثير حول قبول بضعة آلاف منهم؟ وماذا يعني لإنسانيتنا المشتركة أن العالم أنفق ما يقارب 1. 7 تريليون دولار على الأسلحة في العام الماضي فقط، ولكنه فشل في توفير أقل من 1. 7 مليار دولار استجابة لنداء الأمم المتحدة الإغاثي لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المستضيفة لهم في دول مثل الأردن؟ وما الذي يعنيه أن تُنفَق التريليونات على الحروب في منطقتنا، بينما القليل ينفق للوصول بها إلى بر الأمان؟ ليس لهذه الأسئلة من إجابات شافية. فالواقع المؤلم هو أن اقتصادات الحرب آخذة بالازدهار لمنفعة القلة، بينما تستمر الاقتصادات الحقيقية في المعاناة مما يجلب الضرر على الجميع. وبالتالي، ولكن الرغبة في مكافأة الفضيلة تكاد تكون غائبة. تغرق أصوات الذين يدافعون ويبنون في ضوضاء من يعتدون ويدمرون. لا يستوي هذا المنطق. إذن، هل نخبرهم أن القيم التي تحكم نهج حياتنا لا قيمة لها؟ أم نقول لهم إنه علينا أن نتجنب المخاطرة، لأن أحداً لن يسند ظهرنا؟ إن الأمم المتحدة تمثل ضميرنا العالمي. ولكن، بالنسبة للكثيرين في بلدي ولغيرهم حول العالم الذين يحاولون أن يفعلوا الصواب، يبدو أن الضمير العالمي في "وضعية الصامت". لقد حان الوقت لنكسر حاجز الصمت، وأن نبدأ البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، لنتمكن من إطلاق جهد دولي يحمل إنسانيتنا المشتركة إلى بر الأمان.