ثبت مما تقدم أن المعارف العلمية والاختبارية والخاصة لازمة للإنسان كل اللزوم؛ بقي أن نلمع إلى بعض المعارف الكمالية التي يُزَيِّنُ بها الإنسان مساعيه، ويحلي بها جيد سلوكه، ويزخرف بها ثوب معاملته للناس، فعلى الإنسان أن يحرز منها ما استطاع وما يراه لازمًا له، وأهم هذه المعارف معرفة فن المجاملة الذي يدعى عند الإفرنج: «إتيكيت» Etiquette، وهو علم تعرف به أصول العشرة والمعاملة في التحيات والزيارات والمحاضرات والمراسلات … إلخ، وقد أصبح لازمًا لكل امرئ في هذا العصر الذي سادت فيه دولة اللطف والإنسانية، ولا يخفى أن المرء بأدبه وحسن سلوكه، فهذا الفن يقوِّم الأدب والسلوك. إن الذوق العقلي ينطبق على كليات هذا الفن بحيث يعرفه المرء من طبعه، ولكن اختلاف الناس بالعوائد والأخلاق اقتضى أن تكون قواعده الجزئية اصطلاحية تختلف حسب الزمان والمكان، تبعًا لعوائد القوم وأخلاقهم؛ ولهذا اقتضى أن يقف الإنسان على آداب قومه، وآداب أقرب الأقوام إليه، ولا سيما إذا لم يكن من بدٍّ لمخالطتهم. فهذه الفنون تدل على سلامة ذوق متقنها، ودماثة أخلاقه، فإذا علمها كلها أو بعضها كان في عيون معارفه وأصدقائه أكبر قيمة منه لو كان يجهلها، ولا يخفى ما ليقينهم هذا من التأثير في سعيه، ثم إن الموسرين وسليمي الذوق والظرفاء يقتبسونها وهم في غنًى عنها؛ ويشغلوا بعض أوقات الفراغ من العمل في ممارستها؛ فالموسيقى أفضل ما يشغل به المرء أوقات الفراغ؛ وأجمل ما يُسرُّ به الأصدقاء في مجالسهم؛ لأن الغناء والعزف يحركان العواطف، كالفلوت والناي ونحوهما فتعل الصدر على الغالب! والإنسان موسيقي بالطبع، فإذا أتيح له أن يزاول الضرب على آلة موسيقية منذ حداثته أتقنها لا محالة، وإلا صعب عليه وهو رجل منهمك في السعي والعمل أن يحسن هذا الفن، فلينتبه الآباء إلى هذه الحقيقة الراهنة، ويوفروا لأولادهم وسائل مزاولة هذه الصناعة؛ لأنها تدمث الخلق، والشعر يلذ للنفس ويطربها، ولكن غير متيسر لكل فرد من الناس؛ فهو مزية الخاصة الذين أولعوا به، وأتيح لهم أن يحكموا صناعته، ولا سيما إذا برعت في هذه الصناعة حتى يتمثل الناس بأبياتك، ويردد أصحابك قصائدك، وإلا فلا مندوحة لك عن فهم المنظوم؛ لكيلا تفوتك اللذة من تلاوة أشعار الشعراء المجيدين، فإنه في الشرق بضاعة كاسدة، ومتعبة بلا فائدة. والنقش والتصوير لا يقلَّان لَذَّةً لذويهما عن الموسيقى والشعر، وما قيل في ذينك يقال فيهما، فإذا توفر لك الوقت وشعرت بأقل ميل إلى أحد هذين الفنين — وهما أخوان — فطاوع هذا الميل وزاولهما، حتى إذا أحكمت صناعتهما شعرت بلذة عظيمة. وثم يتسنى لك أن تزين منزلك ببعض الرسوم والتماثيل، وفي كل ذلك لذة لك، وشهرة بين القوم. وهناك معارف كمالية أخرى يتمنى الإنسان في بعض الاجتماعات والمجالس أن يكون ملمًّا بها؛ والألعاب التي يتسلى بها الأصدقاء في اجتماعاتهم الليلية، والألعاب الرياضية، ولكن لا تغرم بكل ذلك، ولا تعلق عليه كل الأهمية، ولتكن ممارستك له عند اللزوم فقط؛ لئلا يعتقد القوم أن هذه فقط كل مزاياك ومعارفك. وكليات الفقه، وعلم الاجتماع، لكي يكون لك ضلع في مطارحاتهم. هذا، ولو خلا مجلسهم من الأجنبي، أو لو كان بعضهم لا يعرف إلَّاها، فتعلَّمْ من اللغات الشائعة ما استطعت؛ لئلا تكون محتقرًا من محترمي «الموده المقدسة»، وحاصل القول: تعلم، واختبر، واعرف كل ما يمكنك أن تتعلمه وتختبره وتعرفه؛