التطور في الأدب الحديث عن نظرية الأنواع الأدبية يفضي إلى الحديث عن التطور الأدبي ، وإذا كانت نظرية الأنواع الأدبية تهتم بالبحث عن أسباب تنوع التعبير الأدبي وأسس تصنيف هذه الأنواع ، فإن البحث في تطور الأدب يحاول أن يجيب عن السؤالين التاليين : هل يتطور الأدب؟ وكيف يتطور؟ أي هل يتطور الأدب كغيره من ظواهر العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية أم أن له مساراً متميزاً؟ والبحث في تطور الأدب وغيره من الظواهر الطبيعية والإنسانية بدأ في القرن التاسع عشر ، بل إن مفهوم «التطور بشكل عام يعد من أهم المفاهيم التي ظهرت في القرن الماضي ، فقد حظي باهتمام العلماء والمفكرين والفلاسفة والنقاد ، وطبق في كل علم ودراسة حول المجتمع أو الكون أو الثقافة أو الطبيعة أو الفن . وقد أحدث إدخال مفهوم التطور على هذه العلوم ثورة عارمة ، فقد تغيرت المناهج والفروض وطرائق التفكير ، ومفهوم التطور يختلف عن مفاهيم التقدم أو التحول ، فالتقدم يعني التغير نحو الأفضل أما التطور فإنه يعني التغير ، لهذا فالتقدم فيه حكم قيمي على التحسن ، ويتغير مفهوم التطور بتغير المناهج الفلسفية ، فهناك من يرى أن التطور يحمل معنى النمو كما يحمل معنى التحدر ، وهناك من يرى أن التطور أساسه الصراع والتناقض والحركة الدائبة وإدخال مفهوم التطور إلى الدراسات الأدبية أحدث خلافات واسعة بين النقاد والمفكرين ، تعود أساساً إلى التباينات الشديدة حول مفهوم التطور من جهة وحول التطور الأدبي من جهة ثانية وإذا أخذنا التطور بمعنى التغير ، فإننا يمكن أن نلمس مظاهر التطور في الأدب، وفي فن المسرحية مثلاً نجد أن هناك تغيراً أصاب صورة البطل أم بفعل المبدعين الكبار ، أم بفعل قوانين ذاتية داخلية خاصة به؟ وأخيراً هل يتطور كما تتطور بقية الظواهر الثقافية أو كما يتطور العلم ، خاصة وأن مبدأ التطور في الأدب قد استلهم من مبدأ التطور في العلوم الطبيعية ؟ يتضح مما تقدم التباين في وجهات النظر الذي يتصل بطرفي العلاقة التطور والأدب. ولعل استلهام مبدأ التطور في الأدب من مبدأ التطور في العلوم الطبيعية هو ما جعل أولى المحاولات التي تبحث في التطور الأدبي ، تتعامل مع العمل الأدبي ككائن وتطبق على الأدب القوانين التي أكد صحتها علم الطبيعة والحياة ككائن حي . وفي هذا المجال يعد بحث هربرت سبنسر» «التقدم : قانونه وسببه» عام 1857 أول محاولة للتوفيق بين تاريخ الفن ونظرية للتطور، وأعقبت محاولة سبنسر محاولات أخرى في تطور الفن مثل محاولة هيبوليت تين في فرنسا و «جروس» في ألمانيا وهادون» في إنجلترا . إلخ واحتفظ لفظ التطور بدلالاته الأصلية على تزايد التعقيد أو النمو أو الارتقاء ، وفهمت العملية كما هو الحال في علم الحياة على أنها عملية مستمرة عن طريق التحدر السلالي أو الانتقال من جيل إلى جيل . وقد أضاف «سبنسر» رأيين لم يلقيا قبولاً عاماً ؛ الأول أن التطور يتوافق مع التقدم والثاني أن التطور «قانون عام من قوانين الطبيعة ) . إيمان الفنان بذكاء جنسه وبلده ، لأن للألوان «زمناً واحداً قط» والفنان الذي يولد قبل الأوان أو بعد الأوان لا يستطيع أن يبلغ الذروة ، وهذه النظرية مثل نظرية «تين» - وقد كان برونتيير أحد أتباعه – تعالج دورات مزعومة لحياة أنماط معينة أكثر مما تعالج تطور الأدب في مجموعه ، وأساء برونتيير إلى دراسة الأنماط حين بالغ في استمرار تحدرها وتحولها إلى أنماط أخرى (2) ولكن هل يصح تطبيق قوانين التطور العلمي على التطور الأدبي؟ إن مادة العلم تختلف عن مادة الأدب ، أما مادة الأدب فهي لينة رخوة زئبقية إن صحت التسمية ، ويمكن القول بأن التطور العلمي يعتمد على حقيقتين : الأولى : أن الحقيقة العلمية الجديدة تعتمد على الحقائق القديمة ، أي أن التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي أو كيفي. والحقيقة الثانية تتمثل في أن الحقيقة العلمية الجديدة تنسخ الحقائق القديمة ، وهاتان الحقيقتان اللتان تتحكمان في تطور العلم لا نجدهما في تطور الأدب . ذلك أن العمل الأدبي الجيد والجديد أي) الذي يضيف جديداً إلى مسار الأدب قد لا يأتي نتيجة اعتماده على الأعمال الأدبية القديمة. فالشاعر عند أفلاطون يحاكي المظاهر بشكل مراوي عن طريق الإلهام! أما أرسطو فقد أغفل أثر العلاقات الاجتماعية في الأدب، أي أن أرسطو وضع قواعد وقوانين لا بد للشاعر من اتباعها حتى ينتج أو يصنع شعراً مقبولاً ، ومفاجأة مذهلة ، وأنه لا يتأثر فى الأساسيات ، ولكن الأمل يقتضي أن تمنحها الطبيعة مباشرة إلى كل فرد ، وأن تنقضي بانقضائه ، في انتظار أن تجود بها الطبيعة مرة أخرى على فرد آخر بنفس الطريقة » (1) . ويكرر ألدوس هكسلي في القرن العشرين كلام كانت حين يقول إن كل فنان يبدأ من البداية في حين أن رجل العلم من ناحية أخرى يبدأ حيث انتهى سلفه» (2) . ولاشك أن هذه الآراء تقف ضد التطور في الأدب حين تنفي التأثر والتأثير بين أديب وآخر ، كما أن كلام كانت يوحي بأن هناك قوى غامضة تمنح الموهبة الفنية وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى إلهام أفلاطون . وتلك الحساسية العجيبة لكل ما هو نبيل ورقيق وجميل ، فهو غير مقيد بأي تقليد وأي تعليم، بل إنه ينزل بمثابة وحي أو إلهام على نفوس منتقاة ، يهبط إليها عذاباً رطباً من الينبوع الخارجي للضوء ولا يمكن أن يكون بلوغه أيسر منالاً لأهل اليوم مما كان عليه لأولئك الذين عاشوا في أقدم العصور» (3) . إن هذه الآراء تسلم بأن العلم يتطور ويتقدم لكنه يختلف اخـتـلافـاً جوهرياً عن الفن ، وطبقاً لهذه الآراء فإن الفن والأدب يسير في مسارات خاصة به ، إن مفهوم التطور والإيمان به له نتائج مهمة على صعيد الإبداع الأدبي من جهة والنقد الأدبي من جهة ثانية ، فإذا كان الأدب ظاهرة متطورة فهو يؤثر من ويتأثر بالماضي والقوى الاجتماعية والأفكار السائدة والأعمال الأدبية المعاصرة والقديمة كذلك ، وهي أكثر المظاهر تفرداً وتمايزاً ، لا بد لها أن تتناغم أو تنسجم مع العصر الذي توجد فيه ؛ بل لعل سر العبقرية هو في درجة تناغم (الذاتي) واستجابته لذلك الشرط التاريخي ، وإضافة إلى هؤلاء الذين يعارضون فكرة التطور ، استناداً إلى الفصل بين العلم والأدب ، فإن هناك مفكرين غيرهم يرفضون فكرة التطور استناداً إلى حجج أخرى لا تبتعد كثيراً عن حجج السابقين ، س . إليوت يرفض حقيقة التطور الأدبي وينبذه نبذاً تاماً من وجهة نظر فلسفته الفوطبيعية، ولا يبتعد كروتشيه عنهما حين يقرر «بأن كل عمل فني إنما هو عمل فريد (2) . فالعمل الفني نتيجة فريدة لمزاج فريد ، وينبع جمال هذا العمل من حقيقة أن مبدعه يصدر بنفسه عن نفسه (3) ولكن هل كل عمل أدبي عمل فريد؟ إن هذا القول أيضاً فيه جانب من الصحة ، فكل قصيدة وكل أديب بل كل إنسان فريد من بعض الجوانب . لكنه ـه في الوقت ذاته ليس فريداً تماماً . لأن كل إنسان وكل أديب وكل عمل أدبي وفني يشترك مع غيره بخصائص كثيرة ، سواء من حيث الموضوع أو المضمون أو الشكل أو مر حيث النوع . إن قصائد امرئ القيس بينها بسمات تجعلنا نطلق عليها جميعاً لفظة الشعر» . لكنها تشترك فيما فيما بينها قد أوجد علماً حديثا يختص بالبحث عن مواطن التأثير والتأثر هو الأدب المقارن . والمفروض أن يعنى الناقد المنهجي بإبراز الملامح المشتركة العامة والملامح الخاصة المميزة ، وفردية العمل الأدبي مرة أخرى ؛ فإن نظرية الانعكاس تقف مرة أخرى موقفاً مغايراً لكل هؤلاء في هذه القضية المهمة . بمعنى آخر أن التطور نتاج لحركة الصراع والتناقضات ، ولكن للأدب خصائص نوعية متباينة عن خصائص أشكال المعرفة والثقافة الأخرى . فهل للأدب قوانين تطور خاصة به تبعاً لذلك؟ يجيب أعلام هذه النظرية بأن للأدب قوانين خاصة ترتبط بخصائصه النوعية ، كما أنه يخضع في الوقت نفسه للقوانين العامة التي تحكم الظواهر الثقافية العامة ، وقوانينه الخاصة ترتبط بالتراث الأدبي والحاجات الجمالية المستجدة وقوانين اللغة ومفرداتها ، باعتبار أن اللغة مادة الأدب ، فالتطور الأدبي يخضع لقوانين ذاتية أدبية وقوانين عامة ، وهذا يعني أن الأدب الحديث أكثر تطورا من الأدب القديم ، لكنه ليس أكثر تقدماً منه أي ليس أفضل جمالياً وفنياً من الأدب القديم إن الحجة القوية التي يقدمها معارضو التطورية في الأدب والفن تتمثل في قولهم بأن الأدب ليس تراكميا ، هناك أعمالاً أدبية كثيرة استمرت بفنيتها حتى يومنا هذا ، وفي المقابل فإن هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي اعتبرت رائعة في وقتها «تضيع روعتها وتبلى (جدتها بالفعل فيما بعد من حيث اهتمام الجمهور بها ، ونشوء أنماط جديدة للشكل ، أو أنه يحددها عامل سببي واحد معين ،