لخّصلي

وإذا أضيف لهذه الوفرة الفنية تطورات حقول مجاورة لها وممتزجة بها
كالألعاب الافتراضية ومدن الألعاب الكبيرة وزيد عليها ما يندرج ضمن
قطاعات اللذة كالنوادي الليلية والمراقص الإباحية وكازينوهات القمار،
ونحوها؛ أمكن تفسير تزايد النزعات اللادينية في عالم اليوم، لا أعني اعتناق
الإلحاد، ولا معاداة التدين بل الإعراض التام عن كل ما هنالك، فحجم ما
نسميه باصطلاح «الشريعة الفتن من ألوان الفنون وتوابعها يمتد بتوسع فلكي،
وإن ضخامة الإغراء الاستهلاكي للمتع تخرج سؤال المعنى من دائرة الاهتمام.
كما أن الانغماس في استهلاك الفنون وإنتاجها قد يوهم الفرد المعاصر
بالشعور بالامتداد الزمني والامتلاء الروحاني، وينسيه محدودية الحياة القصيرة،
ويصرفه عن التعامل الجدّي مع وجود حياة أخرى أبدية، بل إن تعملق التقانة
وأوهام التقدم العلمي قد تداعب خيال البعض بإمكان الخلود والأبدية في هذا
العالم .
وأخيرا، فإن مضامين الفنون المعاصرة نفسها ترسخ الإجابة الدنيوية
المحضة لسؤال المعنى، فالرواية والسينما الغربية المعاصرة تقدمان تصوّرًا عدميًا
للكون؛ لا مجال للحديث فيه عن المصير الأخروي، فهو كون بارد لا روح فيه
ولا قانون سوى القوة القاهرة والانتقام العشوائي كون عبثي لا معنى فيه سوى
في الحب الجارف، وليس له غاية معقولة إلا في البحث الحثيث عن «الشغف»،
ومطاردة الأحلام والنجاحات الكبرى، والانتصار على الشر الغامض.
ففي الفن المعاصر لا وجود للرحمة الإلهية ولا للطف الرباني،
بل المصائب شرور فوضوية مفاجئة تداهم الناس من حيث لا يستطيعون المقاومة،
والناس في هذا الفن يؤمنون بأنفسهم لا بالله، ويبحثون دوما عن
غد «دنيوي»
أفضل، وعن تحقيق متكرر ولاهث للذات؛ بالاستمرار بالركض في هذا العالم.
ولا تكت هذه الفنون عن محاولاتها اليائسة لاختراع المعنى من الوجود من داخل التفاصيل اليومية الصغيرة لشخوصها وأبطالها، بعيدًا عن السرديات الكبرى
للوجود الربّ والآخرة والواجب وانتظار الثواب .
إذن تنبع فرادة الفن وجاذبيته وتأثيره الملحوظ من كونه يثير الأشواق إلى
نماذج كاملة في الوجود العلوي (الفلسفات القديمة أو لأنه يثير الأشواق
إلى الله تعالى الجنيد) ،والغزالي)، أو لأنه يعبّر عن الحس بالحقيقة المطلقة
والواقع النهائي (كلايف بيل)، أو لكونه يمنح الفرد صلة ما بالخلود، ويحرره
نسبيًا من وطأة الزمن وحدوده القسرية (أونامونو وغادامير)، ويمنحه نوعا من
التعالي على الواقع المباشر، ويجدّد إحساسه بالوجود (زيمل). وهذه التفسيرات
كلها -وغيرها كثير - لا تعدو أن تكون محاولات لتحديد سرّ الفرادة الفنية
الانفعالية التي تثير وتحيّر .
لقد قدّم الفن في الفن المعاصر - في سياق أزمة المعنى- بديلًا عن
غيبيات الدين وكهنوت الكنيسة وتقاليد التدين فالفن حسّ جمالي بمعاني ما
ورائية بلا مضمون ولا التزام عقائدي، وهو أيضًا - منبع أصيل يكشف الحقيقة
الجوانية للفرد، التي تمنحه بوصلة يمخر بدلالتها عباب الوجود، كما يعد أفضل
تقنيات النسيان، وأنجع أساليب التشتيت فائقة التأثير، أي أن الفن إما أن
المعنى، أو يحجب شرور العدمية قدر الإمكان.
يمنح