لخّصلي

القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الله.. حق الناس.. هكذا أخذ يردد شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء الكوفة!!
فى مدينة (بُخارى)، وُلِدَ شريك بن عبدالله النخعى سنة خمس وتسعين للهجرة، وفى مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم فى أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ فى مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدى دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التى يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له إنى أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفنى يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولى القضاء، وأخذ شريك ينظر فى المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى فى الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات
يوم فى مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندى بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبى وبنيت له حائطاً، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستانى من بساتينه؛ فكتب القاضى إلى الأمير: «أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتنى امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام».
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضى شريك، وقل له - بلسانى - : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفانى من هذه المهمة، فالقاضى كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد.
فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدرى كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشاً وطعاماً وما تدعو الحاجة إليه،

ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضى له: إننى طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التى لا تغنى عنه شيئًا فى مجلس القضاء!! ونادى على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه فى الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسنى فقدمت ما أحتاج إليه فى الحبس.
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه فى الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفى اليوم التالى، عرف القاضى شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعى والحقنى.
ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أى القضاء) من بنى العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحراراً.
فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضى شريك، وقال له: يا أبا عبدالله أتحبس إخوانى بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك فى أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتى أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضى فى مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك.
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضى شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبنى حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقى لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه