لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

ليس بمقدور أحد - في ضوء معطيات الفصل السابق - أن ينكر كون الأمة الإسلامية في العصر الراهن تعاني من حالة انهيار حضاري يعبّر ليس أقلها خطراً ما يلحظه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في دراسته لتاريخ - فيما أشرنا إليه في المدخل - بخصوص الحضارات الست المتبقية في العصر الراهن، بعد غياب ما يزيد عن أنفاسها وتدور في فلك الحضارة الغربية الغالبة، ونحن نلحظ كيف أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ - منذ أخريات القرن الثامن عشر - صيغة الانبهار الذي دفع الكثير من أو ما سماه (مالك بن نبي) التكديس الذي ومكمن الخطورة في هذا الأخذ أنه لم يميز بين الأشياء والأفكار فإذا كان في الحالة الأولى يمارس عملاً مشروعاً، بجملة من المفردات التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من تابعاً يدور في فلك الآخر. بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وغياب التعددية القطبية التي تحكم العالم، وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بالقيادة السياسية والعسكرية والحضارية، فيما أطلق عليه النظام العالمي الجديد أو الموحد، هذا النظام وعالم الإسلام، هنتنغتون، وصولاً إلى "العولمة" التي تجعل العالم كله قرية صغيرة تتحكم ما تشاء من أجل تحقيق أهداف نفعية (براغماتية) صرفة لصالح مراكز وبخاصة تلك التي قدّر بن نبي، أو أو الأقوياء والضعفاء - جاء هذا كله لكي يضع الأمة على بقايا وجودها الحضاري المنهار، وتهدد بإلغاء شخصيتها وإلحاقها - في بجامعة هارفارد، بعد سقوط بحاجة ماسة إلى عدو جديد يوحّد دوله وشعوبه وأن حتى لو سكت السلاح وأبرمت المعاهدات، ذلك أن إذا كانت هذه النظرية واضحة فإننا سنقف بعض الوقت عند الأوجه الأخرى للتحديات وصولاً إلى "العولمة"، بالمسألة التاريخية التي هي موضوع هذا "المدخل"، خاصة إذا تذكّرنا عبارة والجماعات كافة، قبالة الصنمية الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية وجبروتا، وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستعباداً. والمطالب الأساسية للإنسان. واليهودية والاستعمارية والرأسمالية. إن إلغاء الذاكرة التاريخية، قوى العلم والتكنولوجيا والتفوق العسكري وحتى السياسي للغرب، وكل ينسلخون عن تاريخهم ويفقدون تميزّهم، ويزدادون التصاقاً بالقوى المتحكمة في آليات الاقتصاد العالمي. إنه قديم قدم الإنسان نفسه، رغم أن تغيراً كبيراً لحق هذا الصنم فانفلت - وهو يتضخم - لكي يتحكم بكل شيء في هذا العالم، لكنه مع ذلك ليس حالة جديدة في تاريخ الإنسان. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ( (التوبة: 34 التنظير، التاريخ". والنبض الديني الذي يتعبّد الاقتصاد ويتخذه إلهاً، ( كما يقول جيوروجيو في "الساعة الخامسة والعشرون" ( 1 ولقد سقطت التجربة الأولى بعد قرن ونصف من محاولات التجربة والخطأ، من عمر الشعوب قبل أن ينكشف زيفها وضلالها. إن تجريد العالم من بطانته الروحية، والوجود من تجذّره في الغيب، ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، الخمسين في تاريخ الإنسان الذي سيكون الخاسر الوحيد. ولقد أدرك هذا العديد من مفكري الغرب وفلاسفته وباحثيه. يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، الحياة الدنيا حقها. إيمان يبيّن لنا كيف نقيم توازنا بين حاجاتنا الروحية ( والجسدية وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهور" ( 2 جورج سارتون الذي غرق في دراسة تاريخ العلوم عشرات السنين يحكم على "التقدم المادي الخالص" بأنه أمر "مدمّر" وأنه "ليس تقدّماً على الإطلاق بل تأخّر أساسي" ذلك "أن التقدّم الصحيح - ومعناه تحسين صحيح على محبة الله" ( 3) . النمو. صنم التقنية العلموي. صنم قوة الأسلحة ( والجيوش، بشكل من الأشكال، اللعبة نفسها، ويحوّل المنتمين للحركة إلى أدوات صماء تنفذ ولا تناقش حتى وهي تمارس ومن خلال إلحاحها على التسوية صعد الانتهازيون عشرات الأمم والشعوب والجماعات. المرة متمثلاً بأميركا، بحكمها بالإعدام الماسونية والشيوعية وتضيف إليها قيماً وأبعاداً أخرى. ومن خلال سيزداد القوي الحلقات تعاسةً وضلالاً. إن "نهاية التاريخ" بما تنطوي عليه من إلغاء للتاريخ، إنما هي رؤية ( (البقرة: 251 ) ) . ( (هود: 118 ( (الحجرات: 13 مطالب المال والاقتصاد، تؤمن عواقبها. وكل محاولات فك الارتباط بين الإنسان وتاريخه باءت بالفشل، ينطوي على الخصائص والمقومات، أما بخصوص النظام العالمي الموحّد أو الجديد، للدخول في التفاصيل، التاريخية، بالمصير. والحق أن التوحد الغربي قبالة الشرق ليس بالضرورة الوجه الأوحد للصورة، فهنالك - لحسن الحظ - الوجه الآخر: إنها الثنائية التي تخترق وعبر التاريخ الغربي كانت دائماً هناك روما بمواجهة أثينا، والرومانية المقدسة بمواجهة البابا، وبريطانيا بمواجهة القارة، وأميركا بمواجهة بريطانيا، والاتحاد السوفياتي وأوروبا وإن الثغرة التي قد ينفذ منها ستتشكل، ( (هود: 118 عمران: 140 )، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا. النفسية إزاء التفرد الأميركي إلى المدى، التي تفتحها في جدار الغالب. كل المستويات النفسية والفكرية والستراتيجية والاقتصادية، نهاية الأمر. وأمانٍ تزجى، اعتماد الصيغ المدروسة والمحسوب حسابها، على أن تحمي الوجود الإسلامي من التفكك والذوبان. بل أن تمضي ثانية باتجاه مواقع أكثر تقدماً على خرائط العالم المعاصر لكي تشارك في اتخاذ القرار وصياغة المصير. ولكن في أي من هاتين الألفين قدر الغرب على أن يطمس نهائياً على إن عالم الإسلام يقف اليوم قبالة حالة تاريخية ليست جديدة بالكلية، بما أنه حصيلة قرون واشنطن). ولم يصل النظام الجمهوريات الأوروبية للاتحاد السوفياتي المنحل تتكتل، وقد اليابان تواصل قفزاتها التقنية والاقتصادية بحساب متواليات هندسية قد تحد من قدرات التفرد الأميركي في المستقبل الجديد لعالم تهيمن على مقدراته إرادة واحدة، فتتحرك لتفعل شيئاً، ثم عالم الإسلام الذي طالما دفعته التحديات و"العولمة" هي الإفراز الطبيعي للتقدم التقني المدهش، وللنظام الجديد الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو في انتشار المعلومات والأفكار. أما في حقيقة الأمر فإن معناه تفكيك الأمم والدول والجيوش والمجتمع والأسرة، ورفع الحواجز والحدود أمام المؤسسات والشركات متعددة الجنسية. على المستوى الثقافي تسعى العولمة التي تقودها أميركا إلى صبغ العالم والانتشار الفاعل في حياة البشر، بصبغتها الثقافية القائمة على إعلاء القيم المادية والمتمحورة حول الفرد والمصالح الخاصة، والتحرر من كل المبادئ ويلعب الإعلام بوسائله وتقنياته المتطورة الدور الرئيس في تعميم أنماط الثقافة الأميركية وكذلك مؤسسات التعليم العالي. ومن بين أسباب النفوذ الذي تتمتع به الثقافة الأميركية: هيمنة شركات الإعلام الأميركية على التسويق العالمي، وسيطرة l الاقتصاد الأميركي واعتماد اقتصاديات دول أخرى كثيرة عليه. التفوق الأميركي في صناعة الأفلام والموسيقى، ضخمة في ظل انتشار التلفزيون والأقمار الصناعية وقنوات الفضاء التي القابلية التسويقية التي تتمتع بها المنتجات الثقافية الأميركية l هوية ذات جذور محددة. قيام أميركا بتطوير صناعة ثقافية موجّهة لشريحة الشباب داخل l وهم الشريحة الأوسع على مستوى العالم، وهم رجال المستقبل الذين سيشغلون في مجتمعاتهم مواقع التأثير والنفوذ. فتح أميركا معاهدها وجامعاتها أمام الطلاب من أنحاء العالم، l الأنماط الثقافية وطرق التفكير المقتبسة من أميركا. وهناك عامل سياسي عزّز نفوذ الثقافة الأميركية يتمثل في تفرّد أميركا وهو ما دفع دولاً كبرى وصغرى في وكذا القادة والزعماء والمفكرين فيها إلى الاقتناع بشكل أو بآخر بأن الديمقراطية والتعددية والليبرالية واقتصاد السوق تحت رعاية الدولة، هي وهو ما جعل أميركا مؤخرا الأنموذج السياسي الذي يجب على كل الشعوب والدول أن أما على المستوى الاقتصادي فإن العولمة تهدف في الظاهر إلى حرية السوق وتدفق السلع والخصخصة، ولكنها في جوهرها تقود إلى هيمنة العالم كله في ميادين الاستيراد والتصدير والإنتاج، والزراعة والطاقة، وتوفير الحماية الأمنية لها في كل مكان تمارس فيه أنشطتها الاستثمارية. إن ما يتم في إطار الخصخصة التي أشاعتها أميركا في العالم، سوى نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص من كبار التجار والبيوتات المالية والشركات العملاقة في الداخل والخارج. بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر، إلا أن الواقع هو إفساد وتفكيك الأفراد واختراق وعيهم، وإفساد المرأة والمتاجرة بها واستغلالها في وبالمقابل تعميم المؤتمرات ذات العلاقة (مؤتمر حقوق الطفل) (مؤتمر المرأة في بكين) (مؤتمر إلا أنها في الحقيقة تصبح سارية المفعول بشكل أو بآخر. ذلك أن تبدو واضحة للعيان في الواقع الاجتماعي استسلاماً وسلبية فردية، وإحباطات عامة وشلل تام لدور المجتمع الذي تحوّل إلى قطيع مسيّر ومنقاد لشهواته وغرائزه لا يعرف معروفاً ولا ينكر متحللاً من أي التزامات أسرية واجتماعية إلا في إطار ما يلبي رغباته وشهواته وغرائزه. إن أوضاع العالم الاجتماعية اليوم قد أصبحت محكومة بطغيان يجسد قوانين كل من (دارون) و(فرويد) حيث تتلازم (القوة) و(اللذة) تلازم الغاية على المستوى السياسي يتضح أكثر فاكثر كيف أن أميركا راعية النظام إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وتفرض عليها سياسات عديدة تمس سيادة واستقلال تلك الدول مثل تخفيض الجيوش وتسريحها، وعدم صناعة السلاح، وبالأخص السلاح المتطور المصنف ضمن أسلحة الدمار وفرض العقوبات والمقاطعة والحصار على الدول المناوئة لسياسة أميركا والتي عبّر عنها (ريتشارد كاردز) مستشار الخارجية الأميركية بقوله: "إن تجاوز السيادة الوطنية للدول قطعة قطعة ( يوصلنا إلى النظام العالمي بصورة أسرع من الهجوم التقليدي" ( 6 ومع ذلك فإن العولمة الشاملة لم تصل - بعد - إلى مداها، كما أن إمكانية التصدي لأهدافها غير مستحيلة إذا توفرت النية وأحكم التخطيط، لا سيما إذا تذكرنا أن الأمة الإسلامية هي أولى الأمم المستهدفة من النظام التحديات إذا عرفت كيف تلم الشمل وتحشد الإمكانات وتقيم منظومة أمنية وتفيد من الوسائل المبتكرة والمتطورة بكل أشكالها وتوظيفها في مجال مضادة) لأن الإسلام رسالة سماوية وتبليغها للعالمين واجب يقوم على أساس حرية الاختيار والانتقال والمرور والوصول إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، مهما يكن من أمر، فإن الوضع الذي بلغته الأمة الإسلامية في العصر الراهن لا تحسدها عليه أمة أخرى في العالم. بمعنى أن عوامل السلب مكث وراحت تتنامى في الكم والنوع عبر قرون متطاولة من الزمن لكي بسبب من ارتباطه بالغزو الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، تكنولوجيا القوة، قد ازدادت هوته اتساعاً بيننا وبين الغرب، والحركات الجهادية التي صفّيت الواحدة تلو الأخرى. لم يكن يعوزها الفكر لقد قامت حركات المقاومة - كالسنوسية والمهدية - كرد فعل ضد الاستعمار، وكان عليها أن تنوء بعبء الفارق الكبير في التسليح فضلاً عن الصليبي - في احتواء العالم الإسلامي وعدم إتاحة أية فرصة لاستعادته أيما الذي تأكد للغرب كم أنه الجدار الأشد صلابة في مواجهة الخصم. موضوعية وإنما تجيء كرد فعل على حالة تاريخية، عناصر الخلل ونقاط الضعف، التي ستكون بمثابة المقتل الذي تغوص فيه أما الدعوات الإصلاحية غير المسلحة فقد كانت مشكلتها أنها - في وظلت منعزلة عن الأمة الإسلامية أنشطة شبه أكاديمية، أو مشاريع فكرية مطروحة على الساحة (دعوة الكواكبي مثلا) قبالة تحديات التمزيق الغربي. وأحياناً اللادينية، ضد حركة الجامعة الإسلامية التي تبنتها الدولة العثمانية قبل سقوطها الأول والحاسم على يد الاتحاديين وبالتالي فإن هذه الدعوات لم تجد لها سندا بل حدث خطأين قاتلين أكدا إلى الشارع والمؤسسة والبيت والشبهات. فأما الخطأ الأول فهو إقامة جسور بشكل ما مع الخصم الغالب، إن الخطأ الثاني فهو أنها عزلت نفسها عن حركة الجهاد المسلح، بل - ربما - وبغض النظر


النص الأصلي

ليس بمقدور أحد - في ضوء معطيات الفصل السابق - أن ينكر
كون الأمة الإسلامية في العصر الراهن تعاني من حالة انهيار حضاري يعبّر
عن نفسه بصيغ شتى، ليس أقلها خطراً ما يلحظه المؤرخ البريطاني أرنولد
توينبي في دراسته لتاريخ - فيما أشرنا إليه في المدخل - بخصوص
الحضارات الست المتبقية في العصر الراهن، بعد غياب ما يزيد عن
العشرين، وأن هذه الحضارات المتبقية، بما فيها الحضارة الإسلامية، تلفظ
أنفاسها وتدور في فلك الحضارة الغربية الغالبة، وهي معرّضة في أية لحظة
للتفكك والتلاشي في مدارات هذه الحضارة.
ونحن نلحظ كيف أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ -
منذ أخريات القرن الثامن عشر - صيغة الانبهار الذي دفع الكثير من
قيادات الأمة الإسلامية ونخبها وعلمائها، وأبنائها عموماً، إلى الأخذ غير
المتبصر عن هذه الحضارة، أو ما سماه (مالك بن نبي) التكديس الذي
يستورد ويركم الخبرات والأشياء، ولكنه لا يصنع حضارة، أو يعيد نهوضها
من جديد.
ومكمن الخطورة في هذا الأخذ أنه لم يميز بين الأشياء والأفكار فإذا
كان في الحالة الأولى يمارس عملاً مشروعاً، فإنه في الثانية يقتحم عقل
الأمة، وعقيدتها، وثوابتها التصوّرية، وخصائصها الأساسية، بجملة من المفردات
التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من
ساحة الاحتكاك الحضاري وقد فقدت ذاتها وأصبحت - في نهاية الأمر -
تابعاً يدور في فلك الآخر.
ولقد جاءت معطيات العقدين الأخيرين من القرن العشرين - وبخاصة
بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وغياب التعددية القطبية التي تحكم العالم،
وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بالقيادة السياسية والعسكرية والحضارية،
فيما أطلق عليه النظام العالمي الجديد أو الموحد، وانكشاف المواجهة بين
هذا النظام وعالم الإسلام، وظهور العديد من النظريات والآراء التي تمنح
الخلفيات الفلسفية للوضع الجديد، وتعطيه مبررات التنامي والاستمرار،
وبخاصة نظرية"نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما و"صراع الحضارات" لصموئيل
هنتنغتون، وصولاً إلى "العولمة" التي تجعل العالم كله قرية صغيرة تتحكم
فيها الزعامة الأميركية وبطانتها اليهودية بمصائر الأمم والدول والشعوب،
وتضع مقدراتها المالية والاقتصادية في نهاية الأمر، تحت قبضتها، تفعل بها
ما تشاء من أجل تحقيق أهداف نفعية (براغماتية) صرفة لصالح مراكز
الهيمنة الغربية على حساب الأمم والدول والشعوب، وبخاصة تلك التي قدّر
لها أن تمتد جنوبي خط طنجة - جاكرتا الذي سبق وأن تحدث عنه مالك
بن نبي، والذي قسّم العالم إلى شمال وجنوب، أو عالم الكبار والصغار، أو
الأغنياء والفقراء، أو الأقوياء والضعفاء - جاء هذا كله لكي يضع الأمة
الإسلامية قبالة شبكة جديدة من التحديات التي تزيد في تضييق الخناق
على بقايا وجودها الحضاري المنهار، وتهدد بإلغاء شخصيتها وإلحاقها - في
نهاية الأمر - بكيان الحضارة الغربية الغالبة.
وإذا كانت نظرية "صراع الحضارات" التي قال بها صموئيل هنتنغتون،
أستاذ العلوم السياسية ومدير مؤسسة (جون أولين) للدراسات الاستراتيجية
بجامعة هارفارد، في محاضرته عن "صدام الحضارات" والتي تضمنتها دراسته
الموسومة ب "المصالح الأميركية ومتغيرات الأمن" التي نشرت في "مجلة
الشؤون الخارجية" في حزيران 1993 م وملخصها أن الغرب، بعد سقوط
الاتحاد السوفياتي، بحاجة ماسة إلى عدو جديد يوحّد دوله وشعوبه وأن
الحرب لن تتوقف، حتى لو سكت السلاح وأبرمت المعاهدات، ذلك أن
حرباً حضارية قادمة ستستمر بين المعسكر الغربي الذي تتزعمه أميركا وبين
طرف آخر قد يكون عالم الإسلام أو الصين، إذا كانت هذه النظرية واضحة
الملامح تماماً، فإننا سنقف بعض الوقت عند الأوجه الأخرى للتحديات
المعاصرة متمثلة بنظرية"نهاية التاريخ"، و"بالنظام العالمي الموحد أو الجديد"
وصولاً إلى "العولمة"، باعتبارها جميعاً ترتبط هي الأخرى أشد الارتباط
بالمسألة التاريخية التي هي موضوع هذا "المدخل"، خاصة إذا تذكّرنا عبارة
"كروتشه" فيلسوف التاريخ الإيطالي المعروفة "إن التاريخ كله تاريخ معاصر".
تسعى نظرية "نهاية التاريخ" إلى إلغاء البعد التاريخي، ووضع الأمم
والجماعات كافة، عراة، قبالة الصنمية الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية
الجميع إزاء مطالبها، لكنها من وراء هذا تزيد أغنياء العالم وطواغيته غنى
وجبروتا، وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستعباداً.
إنها - بشكل من الأشكال - مناورة فكرية تمنح خلفيات تنظيرية
لممارسات تتجاوز - ابتداء - منظومة القيم الخلقية وثوابت العقائد والأديان،
والمطالب الأساسية للإنسان. ومن وراء هذه المناورة تكمن الخبرة الصليبية
واليهودية والاستعمارية والرأسمالية.
إن إلغاء الذاكرة التاريخية، وتحكيم الصنمية الاقتصادية المتسلحة بكل
قوى العلم والتكنولوجيا والتفوق العسكري وحتى السياسي للغرب، لن يجعل
الفقير غنياً وينزل بالأغنياء لكي يقاربوا الفقراء. بل ستجعلنا، وكل
المستضعفين في الأرض، ينسلخون عن تاريخهم ويفقدون تميزّهم، ويزدادون
التصاقاً بالقوى المتحكمة في آليات الاقتصاد العالمي.
والحق أن الصنمية الاقتصادية ليست إلهاً جديداً تفرزه معطيات عصر
الشيئية والتكاثر والنمو الأسطوري في تقنيات الإنتاج. إنه قديم قدم الإنسان
نفسه، رغم أن تغيراً كبيراً لحق هذا الصنم فانفلت - وهو يتضخم - لكي
يتحكم بكل شيء في هذا العالم، وأصبحت محاولة السيطرة عليه مستحيلة،
لكنه مع ذلك ليس حالة جديدة في تاريخ الإنسان.
لقد غزت هذه الصنمية حتى رجال الدين والرهبان وأتباع الديانات
السماوية من اليهود الذين ) ... وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ... ( (البقرة: 93
) والنصارى ) ... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
.( اللَّهِ... ( (التوبة: 34
والذي يحدث الآن محاولة جديدة لتغطية الصنمية برداء جميل من
التنظير، تجيء على يد مفكر أميركي يدعى (فرنسيس فوكوياما) باسم "نهاية
التاريخ". وقبلها بأكثر من قرن وضعت المحاولة على يد مؤسسي الماركسية
الأوائل: ماركس وانغلز وبزاوية مضادة تماماً تبلغ مائة وثمانين درجة.
من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، والنبض الديني الذي يتعبّد
الاقتصاد ويتخذه إلهاً، هو نفسه هنا وهناك: فرعان لحضارة مادية واحدة
. ( كما يقول جيوروجيو في "الساعة الخامسة والعشرون" ( 1
ولقد سقطت التجربة الأولى بعد قرن ونصف من محاولات التجربة
والخطأ، أما نظرية (نهاية التاريخ) فسوف تفترس - بالتأكيد - زمنا آخر
من عمر الشعوب قبل أن ينكشف زيفها وضلالها.
إن تجريد العالم من بطانته الروحية، والوجود من تجذّره في الغيب،
ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، سوف يميل بالميزان للمرة العشرين أو
الخمسين في تاريخ الإنسان الذي سيكون الخاسر الوحيد.
ولقد أدرك هذا العديد من مفكري الغرب وفلاسفته وباحثيه. ليوبولد
فايس (محمد أسد) - مثلاً - يؤكد على أن عصرنا هذا "بحاجة إلى إيمان
يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، ومع ذلك يعطي
الحياة الدنيا حقها. إيمان يبيّن لنا كيف نقيم توازنا بين حاجاتنا الروحية
. ( والجسدية وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهور" ( 2
جورج سارتون الذي غرق في دراسة تاريخ العلوم عشرات السنين يحكم
على "التقدم المادي الخالص" بأنه أمر "مدمّر" وأنه "ليس تقدّماً على
الإطلاق بل تأخّر أساسي" ذلك "أن التقدّم الصحيح - ومعناه تحسين صحيح
لأحوال الحياة - لا يمكن أن يبنى على وثنية الآلات ولا على العتلات..
ولكن يجب أن يقوم على الدين.. على محبة الله" ( 3) . لقد سيطر على
العالم، كما يقول روجيه غارودي في "وعود الإسلام" ( 4) . "نموذج جنوني من
النمو.. لا يمكن أن يعاش" وها هي ذي "الصنمية"، كما يسميها: "تفرخ
وتتكاثر في مجتمعاتنا: صنم النمو.. صنم التقنية العلموي.. صنم قوة الأسلحة
. ( والجيوش، بمحذوراتها جميعاً ومحرماتها، وبرموزها المقدسة وبطقوسها" ( 5
ومن وراء هذه الأصنام جميعاً يتربع إله المال والاقتصاد على جبل
النظام العالمي الجديد، محاولاً أن يهيمن على كل شيء.
لقد مارست الماسونية، بشكل من الأشكال، اللعبة نفسها، ومن خلال
الإلحاح على التسوية نفذ العقل اليهودي لكي يتمركز في المفاصل الحساسة
ويحوّل المنتمين للحركة إلى أدوات صماء تنفذ ولا تناقش حتى وهي تمارس
الانتحار.
ومارستها الشيوعية.. ومن خلال إلحاحها على التسوية صعد الانتهازيون
والأفاقون، وضاع العمال.. ازداد الروس غنى وجبروتاً وجاهاً، واستعبدت
عشرات الأمم والشعوب والجماعات.
وها هي نظرية "نهاية التاريخ" تضع "الرسن" بيد العقل الغربي هذه
المرة متمثلاً بأميركا، وهي بتنظيراتها للنظام العالمي الجديد.. بحكمها بالإعدام
على كل ما يربط الإنسان بالعقيدة والأرض والتاريخ، توظّف خبرات
الماسونية والشيوعية وتضيف إليها قيماً وأبعاداً أخرى. وأيضاً، ومن خلال
التسوية المطلقة للأمم والشعوب قبالة المطالب الاقتصادية، سيزداد القوي
قوةً والضعيف ضعفاً وستشهد البشرية حلقة محزنة أخرى من أشد
الحلقات تعاسةً وضلالاً..
إن "نهاية التاريخ" بما تنطوي عليه من إلغاء للتاريخ، إنما هي رؤية
خاطئة تتشكل على النقيض من قوانين التاريخ.
إن التغاير والاختلاف والتدافع والتنوع هي في صميم النشاط البشري
عبر مسيرته التاريخية الطويلة: ) ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الأَرْضُ... ( (البقرة: 251 ) ) ... وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ
119 ) ) ... إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ - رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ... ( (هود: 118
.( وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ( (الحجرات: 13
إزاء هذا فإن أية محاولة لإلغاء الذاكرة التاريخية بحجة التسوية قبالة
مطالب المال والاقتصاد، ومقولات التكنولوجيا إنما هي قفزة في الفضاء لا
تؤمن عواقبها.
لقد جبلت النفس البشرية على الانتماء للتاريخ، وكل محاولات فك
الارتباط بين الإنسان وتاريخه باءت بالفشل، وبقي العمق الزمني الذي
ينطوي على الخصائص والمقومات، ماضياً لكي يعمل عمله في صميم
الممارسات والخبرات.
أما بخصوص النظام العالمي الموحّد أو الجديد، فلن يتسع المجال
للدخول في التفاصيل، إلا أن سؤالاً ملحاً يتبادر إلى الأذهان في ضوء الخبرة
التاريخية، عن احتمالات دوام نظام موحد تستقطبه قوة واحدة تنفرد
بالمصير.
والحق أن التوحد الغربي قبالة الشرق ليس بالضرورة الوجه الأوحد
للصورة، فهنالك - لحسن الحظ - الوجه الآخر: إنها الثنائية التي تخترق
القاسم المشترك الواحد بقوة المذهب أو الفكر أو المصلحة وتحيله إلى
تشرذمات ثنائية متصارعة داخل الساحة الغربية وفي مواجهة (الآخر).
وعبر التاريخ الغربي كانت دائماً هناك روما بمواجهة أثينا، والبابوية
بمواجهة القسطنطينية، والرومانية المقدسة بمواجهة البابا، وفرنسا بمواجهة
بريطانيا وألمانيا وروسيا، وبريطانيا بمواجهة القارة، والمحور بمواجهة
المستعمرين القدماء، وأميركا بمواجهة بريطانيا، والاتحاد السوفياتي وأوروبا
الغربية بمواجهة أميركا.
ومعنى هذا أن تفرد قوة غربية واحدة بالسلطان أمر يكاد يكون
مستحيلاً على الفترات الزمنية الطويلة نسبياً، وإن الثغرة التي قد ينفذ منها
الإسلام المحاصر، ستتشكل، أو هي قد تشكّلت فعلا بحكم قوانين الحركة
التاريخية وسننها التي طالما حدّثنا عنها كتاب الله: ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
119 )، ) ... وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ... ( (آل - خَلَقَهُمْ... ( (هود: 118
عمران: 140 )، ) ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( (البقرة: 251 )، ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي
.( الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... ( (الرعد: 41
ومعنى هذا أيضاً أن على عالم الإسلام اليوم ألا تذهب به الهزيمة
النفسية إزاء التفرد الأميركي إلى المدى، وأن يبذل جهده لكي يتماسك
وينهض، مستفيدا من حالة الثنائيات الغربية المتولدة باستمرار، من الثغرات
التي تفتحها في جدار الغالب. وقبل هذا، من قدرات الإسلام الذاتية على
كل المستويات النفسية والفكرية والستراتيجية والاقتصادية، والحضارية في
نهاية الأمر. وهي - بتميزها العقدي وعمقها التاريخي - ليست كلاماً يقال
وأمانٍ تزجى، ولكنها فاعلية في صميم الصيرورة التاريخية، قديرة في حالة
اعتماد الصيغ المدروسة والمحسوب حسابها، على أن تحمي الوجود الإسلامي
من التفكك والذوبان. بل أن تمضي ثانية باتجاه مواقع أكثر تقدماً على
خرائط العالم المعاصر لكي تشارك في اتخاذ القرار وصياغة المصير.
إن ألفين من السنين تنسجان اليوم حيثيات الصراع بين أميركا والإسلام.
ولكن في أي من هاتين الألفين قدر الغرب على أن يطمس نهائياً على
هوية الشرق؟ في أي منها ألقى الإسلام السلاح وارتمى - مغلوباً على أمره



  • في أحضان الغالبين؟
    إن عالم الإسلام يقف اليوم قبالة حالة تاريخية ليست جديدة بالكلية،
    قد تكون جدتها في الزخم الكبير الذي تنطوي عليه، بما أنه حصيلة قرون
    طويلة من التشكل التاريخي على مستويي الكم والنوع، ولكنها - في
    الأساس - حلقة في مسلسل طويل يبدأ في (أثينا) ولكنه لن ينتهي في
    (واشنطن). فها هي المتغيرات الأكثر حداثة تطل برأسها، ولم يصل النظام
    العالمي الجديد - بعد - إلى بر الأمان: أوروبا الغربية تتوحد - ربما -
    قبالة أميركا.. الجمهوريات الأوروبية للاتحاد السوفياتي المنحل تتكتل، وقد
    تنضاف إلى أوروبا الموحدة.. اليابان تواصل قفزاتها التقنية والاقتصادية
    بحساب متواليات هندسية قد تحد من قدرات التفرد الأميركي في المستقبل
    المنظور.. الصين ودول العالم الثالث قد تخز جملتها العصبية إبرة التحدي
    الجديد لعالم تهيمن على مقدراته إرادة واحدة، فتتحرك لتفعل شيئاً، على
    الأقل في سياق الرد السلبي.. ثم عالم الإسلام الذي طالما دفعته التحديات
    إلى استعادة حيويته وفاعليته.
    á á á
    و"العولمة" هي الإفراز الطبيعي للتقدم التقني المدهش، وللنظام الجديد
    وخلفياته التنظيرية سواء في "صراع الحضارات" أو "نهاية التاريخ".
    والمصطلح المذكور يعني - في ظاهره - ازدياد العلاقات المتبادلة بين
    الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو انتقال رؤوس الأموال، أو
    في انتشار المعلومات والأفكار.
    أما في حقيقة الأمر فإن معناه تفكيك الأمم والدول والجيوش
    والمجتمع والأسرة، وتجريد الفرد من القيم والأخلاق والمبادئ الدينية المقدسة،
    ورفع الحواجز والحدود أمام المؤسسات والشركات متعددة الجنسية.
    على المستوى الثقافي تسعى العولمة التي تقودها أميركا إلى صبغ العالم
    كله، وخاصة الدول والأمم التي تمتلك مقومات قادرة على التأثير والمنافسة
    والانتشار الفاعل في حياة البشر، بصبغتها الثقافية القائمة على إعلاء القيم
    المادية والمتمحورة حول الفرد والمصالح الخاصة، والتحرر من كل المبادئ
    والقيم السماوية. ويلعب الإعلام بوسائله وتقنياته المتطورة الدور الرئيس في
    تعميم أنماط الثقافة الأميركية وكذلك مؤسسات التعليم العالي.
    ومن بين أسباب النفوذ الذي تتمتع به الثقافة الأميركية:
    هيمنة شركات الإعلام الأميركية على التسويق العالمي، وسيطرة l
    الاقتصاد الأميركي واعتماد اقتصاديات دول أخرى كثيرة عليه.
    التفوق الأميركي في صناعة الأفلام والموسيقى، وتمتّعها بسوق خارجية l
    ضخمة في ظل انتشار التلفزيون والأقمار الصناعية وقنوات الفضاء التي
    أدخلت البث التلفزيوني إلى كل بيت في العالم.
    القابلية التسويقية التي تتمتع بها المنتجات الثقافية الأميركية l
    الهابطة والمكوّنة من مزيج ثقافات وافدة من أنحاء العالم وليست لها
    هوية ذات جذور محددة.
    قيام أميركا بتطوير صناعة ثقافية موجّهة لشريحة الشباب داخل l
    وخارج أميركا، وهم الشريحة الأوسع على مستوى العالم، وهم رجال
    المستقبل الذين سيشغلون في مجتمعاتهم مواقع التأثير والنفوذ.
    فتح أميركا معاهدها وجامعاتها أمام الطلاب من أنحاء العالم، l
    وهؤلاء يشكّلون النخب في بلدانهم بعد عودتهم إليها بما يحملون من
    الأنماط الثقافية وطرق التفكير المقتبسة من أميركا.
    وهناك عامل سياسي عزّز نفوذ الثقافة الأميركية يتمثل في تفرّد أميركا
    سياسياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما دفع دولاً كبرى وصغرى في
    العالم، وكذا القادة والزعماء والمفكرين فيها إلى الاقتناع بشكل أو بآخر بأن
    الديمقراطية والتعددية والليبرالية واقتصاد السوق تحت رعاية الدولة، هي
    النهج الأصوب والأسلم والصيغة المثلى للنظام الاجتماعي، وهو ما جعل
    أميركا مؤخرا الأنموذج السياسي الذي يجب على كل الشعوب والدول أن
    تحذو حذوه وتنسج على منواله.
    أما على المستوى الاقتصادي فإن العولمة تهدف في الظاهر إلى حرية
    السوق وتدفق السلع والخصخصة، ولكنها في جوهرها تقود إلى هيمنة
    الشركات العملاقة بإمكاناتها ونفوذها ورؤوس أموالها، وتمكينها من إزالة سائر
    المعوقات المادية والمعنوية من طريقها، من أجل أن تحكم سيطرتها على
    العالم كله في ميادين الاستيراد والتصدير والإنتاج، وفي مجالات الصناعة
    والزراعة والطاقة، وتوفير الحماية الأمنية لها في كل مكان تمارس فيه
    أنشطتها الاستثمارية.
    إن ما يتم في إطار الخصخصة التي أشاعتها أميركا في العالم، لا يعني
    سوى نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص من كبار التجار
    والبيوتات المالية والشركات العملاقة في الداخل والخارج.
    وفي الجانب الاجتماعي تسعى العولمة إلى تعميم السياسات المتعلقة
    بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر، إلا أن الواقع هو إفساد
    وتفكيك الأفراد واختراق وعيهم، وإفساد المرأة والمتاجرة بها واستغلالها في
    الإثارة والإشباع الجنسي، وبالتالي إشاعة الفاحشة في المجتمع. وبالمقابل تعميم
    فكرة تحديد النسل وتعقيم النساء وتأمين هذه السياسات وتقنيتها بواسطة
    المؤتمرات ذات العلاقة (مؤتمر حقوق الطفل) (مؤتمر المرأة في بكين) (مؤتمر
    السكان) وما تخرج به من قرارات وتوصيات واتفاقيات تأخذ صفة (الدولية)
    ومن ثم الإلزامية في التنفيذ والتطبيق وإن أظهر البعض معارضتها ورفضها،
    إلا أنها في الحقيقة تصبح سارية المفعول بشكل أو بآخر. وما تلبث آثار
    ذلك أن تبدو واضحة للعيان في الواقع الاجتماعي استسلاماً وسلبية فردية،
    وتفككاً أسرياً واجتماعياً، وإحباطات عامة وشلل تام لدور المجتمع الذي
    تحوّل إلى قطيع مسيّر ومنقاد لشهواته وغرائزه لا يعرف معروفاً ولا ينكر
    منكراً، متحللاً من أي التزامات أسرية واجتماعية إلا في إطار ما يلبي
    رغباته وشهواته وغرائزه.
    إن أوضاع العالم الاجتماعية اليوم قد أصبحت محكومة بطغيان يجسد
    قوانين كل من (دارون) و(فرويد) حيث تتلازم (القوة) و(اللذة) تلازم الغاية
    والوسيلة وفق المنظور الميكافيللي.
    على المستوى السياسي يتضح أكثر فاكثر كيف أن أميركا راعية النظام
    العالمي الجديد وصاحبة المصلحة فيه تسعى في إطار بلورتها للصورة النهائية
    له، إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وتفرض عليها سياسات
    عديدة تمس سيادة واستقلال تلك الدول مثل تخفيض الجيوش وتسريحها،
    وعدم صناعة السلاح، وبالأخص السلاح المتطور المصنف ضمن أسلحة الدمار
    الشامل، وإثارة قضايا حقوق الإنسان، وفرض العقوبات والمقاطعة والحصار
    على الدول المناوئة لسياسة أميركا والتي عبّر عنها (ريتشارد كاردز) مستشار
    الخارجية الأميركية بقوله: "إن تجاوز السيادة الوطنية للدول قطعة قطعة
    . ( يوصلنا إلى النظام العالمي بصورة أسرع من الهجوم التقليدي" ( 6
    ومع ذلك فإن العولمة الشاملة لم تصل - بعد - إلى مداها، كما أن
    إمكانية التصدي لأهدافها غير مستحيلة إذا توفرت النية وأحكم التخطيط،
    لا سيما إذا تذكرنا أن الأمة الإسلامية هي أولى الأمم المستهدفة من النظام
    الجديد والعولمة وأنها تملك - في المقابل - البديل القادر على مجابهة هذه
    التحديات إذا عرفت كيف تلم الشمل وتحشد الإمكانات وتقيم منظومة
    أمنية وتفيد من الوسائل المبتكرة والمتطورة بكل أشكالها وتوظيفها في مجال
    مقاومة العولمة ومنعها من المضي إلى نهاية الشوط.
    إن الإسلام رسالة عالمية وبها تستطيع الأمة الإسلامية القيام ب (عولمة
    مضادة) لأن الإسلام رسالة سماوية وتبليغها للعالمين واجب يقوم على أساس
    حرية الاختيار والانتقال والمرور والوصول إلى الناس كافة في مشارق الأرض
    ومغاربها، بهدف عرض هذه الرسالة وتبليغها لا فرضها على الآخرين،
    ( وإكراههم على التأقلم والتقولب وفقاً لمطالبها كما تفعل العولمة الأميركية ( 7
    .
    á á á
    مهما يكن من أمر، فإن الوضع الذي بلغته الأمة الإسلامية في العصر
    الراهن لا تحسدها عليه أمة أخرى في العالم. بمعنى أن عوامل السلب
    احتلت فيه مساحات ليست بالهيّنة، وهي عوامل لم تتشكل من الفراغ، أو
    تبرز على حين غفلة، وإنما تخلقت - كما رأينا في الفصل الثالث - على
    مكث وراحت تتنامى في الكم والنوع عبر قرون متطاولة من الزمن لكي
    تصل بالأمة عبر القرنين الأخيرين إلى وضعها الراهن.
    وعندما أطل ما يسمى خطأ بعصر النهضة، بسبب من ارتباطه بالغزو
    الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، كان الفارق في المدنية، وبخاصة
    تكنولوجيا القوة، قد ازدادت هوته اتساعاً بيننا وبين الغرب، الأمر الذي
    يفسّر، إلى جانب عوامل عديدة أخرى فشل معظم محاولات الإصلاح
    والحركات الجهادية التي صفّيت الواحدة تلو الأخرى. لم يكن يعوزها الفكر
    ولا الإيمان ولا الفدائية، ولكن وببساطة تامة كان يعوزها السلاح!
    لقد قامت حركات المقاومة - كالسنوسية والمهدية - كرد فعل ضد
    الاستعمار، وكان عليها أن تنوء بعبء الفارق الكبير في التسليح فضلاً عن
    زخم الاندفاع الستراتيجي للقوى الغالبة، ورغبتها الأكيدة - المبطّنة بالبعد
    الصليبي - في احتواء العالم الإسلامي وعدم إتاحة أية فرصة لاستعادته أيما
    قدر من الحيوية والنمو والاستقلال تحت مظلة الإسلام، الذي تأكد للغرب
    كم أنه الجدار الأشد صلابة في مواجهة الخصم.
    ثم أن أية حركة في التاريخ لا تتشكل - ابتداء - وفق شروط
    موضوعية وإنما تجيء كرد فعل على حالة تاريخية، ستعاني من كثير من
    عناصر الخلل ونقاط الضعف، التي ستكون بمثابة المقتل الذي تغوص فيه
    سكين الغالب.
    أما الدعوات الإصلاحية غير المسلحة فقد كانت مشكلتها أنها - في
    معظم الأحيان - لم تنتشر بين الجماهير، وظلت منعزلة عن الأمة الإسلامية
    ومطالبها الملحة في التحقق بالمقاومة والتحرر، وإعادة بناء الذات قبالة
    التفوق والاستعمار الغربي. لقد ظلت هذه الدعوات في معظم نسيجها
    أنشطة شبه أكاديمية، أو مشاريع فكرية مطروحة على الساحة (دعوة
    الكواكبي مثلا) قبالة تحديات التمزيق الغربي. وزاد الأمر سوء تبني بعض
    هذه الحركات، أو تعاطفها في الأقل، مع الأنشطة الإقليمية، وأحياناً اللادينية،
    ضد حركة الجامعة الإسلامية التي تبنتها الدولة العثمانية قبل سقوطها الأول
    والحاسم على يد الاتحاديين وبالتالي فإن هذه الدعوات لم تجد لها سندا
    في البيئة والجماهير الإسلامية لكي تتحول إلى فعل تاريخي مؤثر. بل حدث

  • أحياناً - أن مارست هذه الدعوات، بدرجة أو أخرى، خطأين قاتلين أكدا
    انفصالها عن الجماهير الإسلامية وعدم قدرتها - بالتالي - على التحقق
    التاريخي وتجاوز دفتي (المؤلف) الذي أسرها، إلى الشارع والمؤسسة والبيت
    والمدينة والميدان، بل أنه عزلها ووضعها في بعض الحالات في دائرة التساؤل
    والشبهات.
    فأما الخطأ الأول فهو إقامة جسور بشكل ما مع الخصم الغالب، إن
    على مستوى الفكر أو الممارسة السياسية، أو حتى العلاقات الشخصية، وأما
    الخطأ الثاني فهو أنها عزلت نفسها عن حركة الجهاد المسلح، بل - ربما -
    أفتت بعدم شرعيته، أو على الأقل بعدم جدواه.
    وقد يضاف إلى هذا كله موقف بعض تلك الدعوات من الخلافة
    العثمانية التي كانت تمثل في نظر جماهير المسلمين في العالم، وبغض النظر
    عن مصداقية هذا التوجّه، الشرعية الإسلامية ووحدة الأمة المسلمة.
    هذا إلى ما اتسمت به معظم تلك الدعوات من رؤية تجزيئية
    وغياب أو عدم وضوح في المنظور الحضاري الذي أولته الأجيال التالية من
    الحركات والدعوات الإسلامية اهتماماً ملحوظا.
    باختصار شديد، إننا محملون بوقر التاريخ.. تراكم أخطاء الآباء
    والأجداد التي تمحورت عند خطيئة عدم الاستماع جيداً لنداءات القرآن،
    وتعاليم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما تنطويان عليه من كشف


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

يعتبر فول الصوي...

يعتبر فول الصويا من المحاصيل الغذائية والصناعية الهامة على المستوى العالمي نظراً لاحتواء بذوره على ن...

Traffic Padding...

Traffic Padding: inserting some bogus data into the traffic to thwart the adversary’s attempt to use...

السلام عليكم ور...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اليوم ذهب إلى دورة القرآن وتعلمت القرآن ثم عدت إلى منزلي ومكتبي قلي...

يجمع نظام التكا...

يجمع نظام التكاليف بجوار المحاسبة على الفعليات،التوفيق في ظروف حدوثها وأسبابها ومدى الكفاءة في التنف...

نطاق البحث يركز...

نطاق البحث يركز هذا البحث على تحليل الأطر القانونية والمؤسساتية لعدالة الأحداث، مع دراسة النماذج الد...

نفيد بموجب هذا ...

نفيد بموجب هذا الملخص أنه بتاريخ 30/03/1433هـ، انتقل إلى رحمة الله تعالى المواطن/ صالح أحمد الفقيه، ...

العدل والمساواة...

العدل والمساواة بين الطفل واخواته : الشرح اكدت السنه النبويه المطهرة علي ضروره العدل والمساواة بين...

آملين تحقيق تطل...

آملين تحقيق تطلعاتهم التي يمكن تلخيصها بما يلي: -جإعادة مجدهم الغابر، وإحياء سلطانهم الفارسي المندثر...

Network archite...

Network architects and administrators must be able to show what their networks will look like. They ...

السيد وزير التر...

السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، يجيب عن أسئلة شفوية بمجلس النواب. قدم السيد مح...

حقق المعمل المر...

حقق المعمل المركزي للمناخ الزراعي إنجازات بارزة ومتنوعة. لقد طوّر المعمل نظامًا متكاملًا للتنبؤ بالظ...

رهف طفلة عمرها ...

رهف طفلة عمرها ١٢ سنة من حمص اصيبت بطلق بالرأس وطلقة في الفك وهي تلعب جانب باب البيت ، الاب عامل بسي...