لخّصلي

رحبة ينم عن مدى ثراء صاحبها وعلى فراش وثير رقد عليه جسداً وهيناً هزيلاً ينتفض كأنما انتابته القشعريرة، وعينان مغمضتان لا تقويان جفونهما على النهوض، وشفاه ذابلة تهمهم بكلمات غير مفهومة، فقد نال الشيخ طريح الفراش الزمن منه ما نال، ورويدا رويدا بدأت أعينه تتفتح على إستحياء لتطل شاخصة على سقف الغرفة لتلتهم من الدنيا نظرات تكاد تكون هي نهاية عهده بها، واشرأبت الوجوه المحيطة من أبنائه تنظر إليه فى الحين الذى كان أباهم يتطلع على طائر الموت المحلق فوقه إلى أن دوى في السكون صوت ابنه (صديق) ليقطع حدة الصمت ويبتدره:

• سلامتك يا حاج دسوقي.
  وكان هذا إيذانا لتتداخل أصوات أبنائه (طه) و(صديق) و(رقية) وأبناءهم المحاطين من حوله، حتى لم يعد يميز أصوات أحد منهم، فقد خلفوا من ورائهم صيحة مدوية بالغرفة أما بالدعاء أو التعجيل بالشفاء وطيلة العمر، وظلت نظرات الشيخ طريح الفراش تنظر إلى أبنائه الواحد يلوا الآخر دون أن يبتدر منه قول كأنما بتلك النظرات تحثهم على البقاء بجواره رغم الجلبة المخلفة من ورائهم، فكان رضي النفس لم يأب الموت على قدر فراقه عنهم، وظل يحدث نفسه بأنه قدم الكثير والكثير لهم ممتناً لنفسه معتزاً بما قدمه وهو ما زال على عهده الذي قطعه على نفسه ولم يخلف به، وها هو الآن وهو على فراش الموت ما زال عهده قائماً ووفى به، حينما كان أبناؤه أطفالاً وكرس حياته بأن يتولى تربيتهم منذ رحيل زوجته حتى باتوا رجالاً، فلم يرتض بأن يجلب لهم زوجة حتى لا تبطش بهم فظل لهم العائل الوحيد فأنشغل بهم وبتجارته حتى ذاع صيته وبات من التجار ذوي الشأن ذائع الصيت، فضلاً عن سمعته الحسنة التي تجاوزت الآفاق في الغورية كتاجر للأقمشة، فهو رجل عصامي بدأ من اللاشئ، منذ أن أقدم من بلدته بإحدى قرى الصعيد وهو صبي سعياً للرزق وبدأ نشاطه بعربة تجر باليد عليها أثواب الأقمشة، وتخلى عن العربة حينما نمت تجارته، إلا أنه ما زال محتفظاً بها داخل حانوته، وكان دوماً ما يملس عليها بأنامله ويردد لمن يصطحبه إليها بأنها أيقونة ثرائه وتميمة حظه، واتسع المتجر حتى لحق أبنائه بالعمل معه منذ صغرهم وزاد توسعه فابتاع الحوانيت المجاورة له إلى أن أصبحت وكالة ذات شأن درت عليه أموالاً طائلة، وحينما صار ابنه الأكبر (صديق) في مرحلة المراهقة بادر بزواجه من (درية) ابنة إحدي تجار جملة الأقمشة والمورد له والتى كانت تتمنى بأن زوجة لشقيقه (طه) حتى تفاجئت بأن اباها يزف لها نبأ اختيار (صديق) لها، وهو ايضاً ما ساهم بدوره في زيادة تجارته فتكدست أمواله وزاد ثراؤه، فما إن عاد بذكراه إلى واقعه راح يتطلع إلى أبنائه وأحفاده وأنفاسه تتردد في بطء كأنما يتنهد حتى بادره ابنه (طه):


• تحب نجيب دكتور.
  فهز (دسوقي) رأسه بتؤدة كعلامة للنفي وبصوت مبحوح تخرج الأحرف من ثغرة بالكاد وبادره بصوت أقرب إلى الهمس وإن كانت الكلمات تعلن عن استسلامه لقضائه حتى بادره:


• مالهوش داعي يا طه يا بني سهم الله ولازم ينفذ أنا مش طالب منكم غير أنكم تاخدوا بالكم من أختكم رقية هي ما لهاش غيركم من بعدي.
  ووقعت عيناه على ابنته وهي تمسح دموعها بوشاح رأسها ويرتج جسدها من أثر البكاء بنشيج مسموع، وأحست فجأة بشيء يتصدع بين ضلوعها وغمام كئيب كريه يغمر الدنيا بناظريها وأصابها دوار واستشعرت بأن الغرفة باتت رأساً على عقب، وبغصة تملأ حلقها فجلست على طرف فراشه وامسكها والدها من يدها بيد وهينة مرتعشة وهو يضمها إلى صدره ويربت عليها وهو فزع من مجهول غاشم ينقض عليها، وكأنما بإحاطته لها يحميها من ضربة مفاجئة ستنهال عليها يعرف هو أكثر من غيره مدى فظاعتها فكانت نظراته لها تستمحيها بأن تكف عن ذلك وهي تحتضنه والدموع تغشي وجهها الشاحب كالموتى وفمها يختلج وفي عينيها حيرة مضطربة ويأس عميق يضرب بأعماقها ودعاء ملهوف صامت بالسلامة، وهنا التاعت (درية) وهي تمصمص بشفاها فبدت مكتنزة الجسم ناصعة البياض لا يخلو وجهها من مسحة جمال فالتفت إليها زوجها (صديق) وبرقت عيناه في إشارة منه بأن تكف وعلى الإثر أشاح بوجهه ناقماً عليها ليس من جراء فعلتها وإنما حتى لا يراها أحد من المتواجدين، وخرجت من الغرفة وتبعتها ابنتها (فريدة) فبدت بأنها فتاة جذابة في الثامنة عشرة من عمرها دقيقة القسمات سوداء العين وردية الوجنتين يتدفق شعرها على كتفها كشلال رغم إحاطة رأسها بوشاح، ناهدة الصدر، دقيقة الخصر، وبخروجهم من الغرفة إلي المجاورة بدؤوا يتجاذبون أطراف الحديث، وما هي إلا لحظات من خروجهم حتى دوى في السكون صرخة أطلقت من الغرفة منبعها حنجرة (رقية) معلنة عن وفاة والدها، فانشرحت أسارير (درية) وراحت تغمز بعينيها إلى ابنتها، فنهضت من جلستها واقتحمت الغرفة وهي تحاول بأن ترسم على ملامحها علامات الحزن، وراحت تشارك (رقية) في صراخها وتضرب بيديها على صدرها وفخديها، بينما أبناءه (صديق) و(طه) راحوا ينزعون شقيقتهم الراقدة عليه وهي ما زالت تلطم على خديها ويلحفون جسده بعد أن أغلقوا عينيه والقوا عليه بغطاء من رأسه وحتى أخمص قدميه، معلنين عن إسدال الستار عن دنياه، وكأن الكون بنعيه فبرق البرق وزمجرت السماء وصوت المطر المتساقط على زجاج النافذة ينقر بدقات رتيبة منتظمة فبعث فى النفس اضطراب مغلف بحزن عميق، فنظر الأبناء صوب النافذة وعادوا بناظريهم إلى والدهم الممدد على الفراش واطرقوا برأسهم أرضاً وانسحبوا تباعاً خارج غرفته.