لخّصلي

ينبغي عليها أن تجذب القارئ أو المشاهد وأن توضح الجو العام للقصة وتوحي بهدفها وأخيراً تقدم العديد من المعلومات دون إبطاء الإيقاع. لنتخيل أننا قبيلة تعيش على الصيد وجني الثمار كما كان يفعل أجدادنا منذ مئة ألف عام أو كما يفعل ذلك بعض الناس الذين ما زالوا يعيشون في مناطق نائية. إنكم ترون جيداً أن الناس يتدبرون أمورهم بشق النفس. ولكن عدداً صغيراً من بيننا يتمتع بطاقة لا تتزعزع. أنت أيضاً تشعر بالضيق إذ أنك ما عدت تنتمي إلى هذه الأرض الرمادية المنهوكة. البداية تعطي الجو العام وتخلق انطباعاً عاماً. تقوم المقاربة الميثولوجية على استخدام استعارات أو تشبيهات من أجل نقل مشاعركم حول الحياة. كان المخرج الألماني الكبير ماكس رينهارت يعتقد أن من الممكن خلق جو على المسرح حتى قبل جلوس المشاهدين في أماكنهم ورفع الستار. يمكن لعنوانٍ مختار بعناية أن يوّلد صورة مجازية في الذهن (استعارة) تحرض تفكير الجمهور وتوّلفه من أجل تقبل ما سيحصل؛ اختاروا موسيقا وأنوار مناسبة للحظة دخول الجمهور إلى الصالة. هكذا يكون المشاهدون في حالة نفسية مثالية من أجل التماهي بشكل أفضل مع العرض، من أجل توليد انطباعات حتى قبل أن يشرى الكتاب أو البطاقة. أم دمية في يد قوة عليا؟ هل نحن جميعاً دمى القوى العليا أم أن لدينا حرية الخيار. إنها أداة قوية من أجل التعبير عن جو الكتابة والإيحاء بمعناها. يكرر المخرج المشهد نفسه في نهاية الفيلم من أجل الإيحاء بأن كل شيء قد تم. حينها يبتعد الرجل عن القبر ويدخل إلى المنزل. تبدأ بعض النصوص بتمهيد حتى قبل عرض الشخصيات الرئيسة
ويبدأ ديزني فيلم "الحسناء والوحش" بتمهيد على شكل لوحات زجاجية تحكي ماضي الوحش. يقدم شكسبير والمؤلفون الإغريق لمسرحياتهم بتمهيد يلقيه راوٍ أو جوقة من أجل إعطاء الجو العام والتعريف بسياق القصة. يمكن أن يعرّفنا بجزء هام من ماضي القصة أو يحدد للجمهور نوع القصة أو الفيلم الذي سيشاهده، أو أن يجعل القصة تبدأ على شكل صدمة تجعل المشاهدين يجلسون في أماكنهم. هذا المشهد الذي يسبق الظهور الأول للبطل يستثير استغراب الجمهور ويأسر انتباهه. إنه يشير إلى أننا سنشاهد فيلم حركة شائقاً يتعلق بحياة أو موت الشخصيات. في الجمعيات السرية هناك قاعدة تأهيلية قديمة تقول بأن الإنسان المشوش يغدو أكثر قابلية للتأثر. لهذا السبب يعصب الأعضاء عيون المنتسبين الجدد ويقودونهم في الظلام هكذا سيكونون أكثر تقبلاً للايحاء بالاحتفال الشعائري الذي تمثله المجموعة. إن القصة التي تُفقد الجمهور توازنه وتضغط على مفاهيمه تضعه في وضع تقبلي أسهل. مثل هذه التمهيدات تشير للجمهور بأن توازن المجتمع قد تزعزع. بوصف عالم البطل الاعتيادي لكي يستخدم فيما بعد كعنصر مقارنة. نمر بسلسلة من العوالم الفائقة تصبح اعتيادية الواحد إثر الآخر بقدر ما نتعود عليها. يفضل أن يصف الكّتاب العالم الاعتيادي مختلفاً عن العالم الفائق إلى أبعد درجة ممكنة لكي يدرك البطل والجمهور التغير الجذري عند اجتياز العتبة. صور العالم الاعتيادي بالأسود والأبيض، وعالم أوز الفائق بألوان تكنيكولور. استُخدِم هذا الأسلوب أيضاً في فيلم التشويق "الموت ثانية" حيث هذه المرة العالم الاعتيادي بالألوان بينما اللقطات الخلفية (فلاش باك) للعالم الفائق الكابوسي لعالم الأربعينيات بالأسود والأبيض. إذا ما قورن العالم الاعتيادي ب العالم الفائق، هل ستعود دوروتي من أوز؟ هل سيعود رجل الفضاء الخارجي إلى كوكبه؟ هل سيحصل البطل على الذهب؟ هل سيكسب اللعبة؟ هل سينتصر على الأشرار؟

نلاحظ غالباً أن الكّتاب يعرفون كيف يضعون الأبطال في مجابهة مع مشاكل خارجية مختارة جيداً: هل ستتمكن الأميرة من تحطيم السحر الذي حول والدها حجراً؟ هل سيصل البطل إلى قمة الجبل الزجاجي وهل سيتزوج الأميرة؟ هل ستتمكن غريتيل من إنقاذ هانسيل من بين براثن الساحر؟ ولكنهم كانوا يهملون أحياناً تقديم مشكلة داخلية لأبطالهم ليحلوها. يعشق الجمهور رؤية شخصيات تتطور وتجابه صراعات داخلية مثلما تصارع مشاكل الحياة. في اللحظة التي يدخل فيها؟ كيف يجلس؟ هل هو وحده أم ضمن مجموعة؟ بأي نوع من الناس هو محاط وكيف يتصرفون معه؟ ما هو موقفه وحالته الانفعالية؟ وهدفه في تلك اللحظة بالذات؟ هل سيدخل إلى مسرح الأحداث في لحظة من القصة أم سيكون موجوداً منذ الصور الأولى؟ هل سيروي القصة بنفسه؟ هل سترويها لنا شخصية أخرى؟ أم سنشاهدها عبر النظرة الموضوعية لراوٍ تقليدي؟
إنها لحظة أساسية تنتظم فيها العلاقة مع الجمهور. وحتى حين يقرر النص أن على الشخصية أن تكون موجودة على المسرح عند رفع الستارة، ماذا يفعل؟ ماذا يقول؟ بم يشعر؟ في أي سياق نراه للمرة الأولى ؟ هل هو هادئ أم مضطرب؟ هل يعبر بالكامل عن انفعالاته أم يكبتها ليجعلها تنفجر بشكل أفضل فيما بعد؟

ينبغي أن يكشف السلوك الأولي للبطل طباعه إلا إذا كنتم قد اخترتم عن عمد إرباك المشاهدين وإخفاء طبيعة بطلكم الحقيقية. تتكشف لنا شخصية توم عبر كل عمل من أعماله. الكّتاب الذين يظهرون للمرة الأولى شخصية ما، يسعون لإدخال الجمهور في اللعبة أو إحداث حالة تماهٍ شبيهة بالوجد. إن سحر الكتابة يدفع الجمهور إلى إسقاط جزء من أناه على شخصية القصة. يمكنكم خلق جو من التكهنات الاستباقية بجعل شخصيات أخرى تتكلم عن البطل قبل دخوله إلى المشهد. فإن الانطباع الأول هو الأساسي إذ أن الجمهور سوف يتذكر دائماً أول عمل للبطل. من بين العديد من الوظائف الهامة، يوثِّق التقديم العلاقات بين الناس ويجعل بعض الاهتمامات المشتركة تطفو على السطح. ينبغي علينا الاعتراف بشكل من الأشكال بأن البطل يشبهنا. وينبغي على القصة أن تدعونا بشكل حقيقي إلى لبس لبوسه، وإلى رؤية العالم بعينيه. ولكي يعمل هذا السحر ينبغي علينا إقامة تيار قوي من التعاطف أو مصلحة مشتركة بين البطل والجمهور، ولكن ينبغي أن "يوّلد الموالاة" وهذا التعبير يستخدمه مخرجو الأفلام لوصف مقدار التفهم والتعاطف الذي ينبغي على المشاهدين الشعور به تجاه البطل. يمكننا جميعاً أن نُسقط أنفسنا على دوافع مثل الحاجة إلى الاعتراف والتعاطف والقبول والفهم. في معرض كلامه عن حوار نص "كاوبوي منتصف الليل" إن بطله جو بوك كانت تقوده الرغبة الإنسانية في أن يلمس، إن التماهي مع حاجات مألوفة تُنشئ صلة بين المشاهدين والبطل. لدى أبطال حكايات الجنيات قاسم مشترك، غير مكتملين إذ ينقصهما رفيق أو رفيقة مثاليان من أجل توازن حياتهما. تمثل شخصية فاي راي في "كينغ كونغ" فتاة يتيمة لا تعلم سوى "أن لها عماً في مكان ما". هذه العناصر المفقودة تساعد على تحريض التعاطف تجاه البطل وتقود المشاهدين إلى تمني وصوله إلى الاكتمال، مطلقاً بهذا الشكل مغامرة كلاسيكية تهدف إلى البحث والانقاذ. أحياناً تكون عائلة البطل مكتملة إلا أن شيئاً ما ينقص شخصية البطل. ويمكن أن يكون إظهار البطل غير قادر على إنجاز بعض المهام البسيطة في بداية القصة من الأمور الفعالة جداً. ولم يصبح قادراً أخيراً على تلّقي الحب إلا بعد أن قام برحلة البطل الانفعالية، تصف النظرية الإغريقية للتراجيديا التي كتبها أريسطو منذ ٢٤ قرناً نقيصة متكررة عند الأبطال التراجيديين. هامارتيا خطأ يرتكبه البطل يؤدي إلى قلب السعادة إلى تعاسة والعكس صحيح. الهوبريس هو التعدي والوقاحة والغلو وبالتالي الكبرياء والصلف والعجرفة. متمتعة بمواهب فائقة ولكنهم يميلون إلى رؤية أنفسهم مساوين للقوى العليا أو أفضل منها. وواقعياً. وفي مستوى أعلى، ويمكن أيضاً للبطل أن يكون قد عزز بعض سمات شخصيته كوسيلة دفاعية في مواجهة آلامه. في فيلم رعاة البقر الكلاسيكي النهر الأحمر يجسد جون واين شخصية توم دنسون وهو بطل جريح شبه مأساوي. يهدر الناس طاقة كبيرة في إخفاء نقاطهم الحساسة والهشة، إدراك قيمة الرهان
إن قصةً يتعرض فيها البطل لمجرد المضايقة أو الإرباك في حال الفشل تنتهي غالباً بإثارة رد فعل بارد لدى القراء والمشاهدين وعبارة: "ماذا يهمني". تجمع القصة السابقة كل المعلومات الصحيحة والمناسبة عن قصة شخصية وماضيها، يعتبر التمكن من استخدام القصة السابقة والعرض من أصعب المهارات الكتابية. فما ستكون هذه الجملة؟ أية فكرة أو اية صفة هي في صميم القصة؟ الحب؟ الثقة؟ الخيانة؟ الغرور؟ الأفكار المسبقة؟ البخل ؟ الجنون؟ الطموح؟ الصداقة؟ ما الذي تنوون التعبير عنه؟ هل موضوعكم هو "الحب ينتصر على كل شيء"؟ أو "لا يمكن خداع إنسان مستقيم"؟ أو "ينبغي علينا أن نتحد لننتصر"؟ أو "المال أصل كل الشرور"؟

إنني أرتكز غالباً إلى كتاب "ساحر أوز" من حيث أنه حول الى فيلم كلاسيكي شاهده الكثير من الناس. إنه رحلة نموذجية جداً للبطل ذات مراحل محددة بشكل واضح. ولكنه يقرأ أيضاً كاستعارة عن شخصية تحاول تحقيق ذاتها. ولكنها ستنطلق بعد قليل في بحث من أجل تحقيق ذاتها، تمر دوروتي بمغامرة تافهة هي نموذج مصّغر عن المغامرة التي ستعيشها في العالم الفائق: تحاول التأرجح
ينقذها من الخطر ثلاثة
مزارعين لطفاء يمثّلون بشكل مسبق الأدوار التي سيمثلها نفس الممثلين في العالم الفائق. وآجلاً أو عاجلاً سوف تحتاج لكل مساعدة يمكنها الحصول عليها، ولكل طاقتها لتنجو من الدخول الحتمي في الصراع. يمكن أن لا يعاني الأبطال من أمور ناقصة أو معايب أو جروح بادية للعيان. وربما لا تعدو حالتهم الشعور بالاضطراب والانزعاج وأنهم غير متلائمين مع بيئتهم أو ثقافتهم. النداء
«في الأزمنة القديمة عندما كان التمني لايزال قادراً على تقديم العون، عاش ملك كان له بنات عدة، وكن جميلات بما فيه الكفاية، وحالما كانت تشعر بالملل، وقد حدث ذات مرة أن الكرة الذهبية لابنة الملك لم تسقط في اليد الصغيرة التي بقيت معلقة في الهواء، وفيما كانت تبكي وتشتكي نادى أحد ما: «ماذا يجري عندك يا ابنة الملك؟ أنت تصرخين حتى إن الحجر يمكن أن يرثي لحالك». التفتت الفتاة من حولها لتعرف من أين جاء الصوت. أنا أبكي كرتي الذهبية التي سقطت مني في هذه البئر». وأن أكون رفيقك وشريكاً في لعبك؛ وأشرب من كأسك الصغير وأنام في سريرك الصغير: إذا كنت تعدينني بذلك فسأهبط البئر وأحضر لك كرتك الذهبية». «أنا أعدك بهذا كله، ولا يمكن له أن يكون صديقاً لكائن إنساني». بعد أن اطمأن إلى موافقة الفتاة على شروطه غيَّب الضفدع رأسه في الماء، ابنة الملك غمرتها السعادة عندما وقع نظرها ثانية على لعبتها الجميلة، وهو يصرخ خلفها بنقيقه كواك، هكذا يمكن أن تبدأ المغامرة، وتزج بالإنسان لِيَتِيه في لعبة قِوى، لقد دلل فرويد (2) بأن الإخفاقات لا تنتج من محض المصادفة، مثلما تموّج التيارات الخفية سطح مساحة مائية ما، كذلك يمكن لدوافع الإخفاقات أن تغور بعيداً في الأعماق، أما الأزمة التي برزت من خلال ظهوره فيمكن دعوتها بالنداء. يمكن أن يكون هذا النداء رامزاً إلى إشراقة استنارة روحانية. بالنسبة إلى حكاية ابنة الملك يُفترض أنها تعبر عن نهاية مرحلة الطفولة. مثل هذه العتبة علينا أن نجتازها عندما يصبح الأفق المسكون والمألوف ضيقاً أكثر من اللازم. والملابس البائسة المقرفة للوسيط القوي للقدر. عن طريق هذه الأشياء كلها يمكن التعرف من جديد على رموز سرة العالم. الضفدع يظهر مع كرة الشمس الذهبية، أو ربما يماثل الضفدع الذي يركب صهوة رأسه فتياً ومهيباً، وبالمقابل فإن أي انفصال، أم كانت تدور حول مخلوقة الله حواء، عندما يستعد لتركيزه الأعلى لكي ينسف الآفاق الأخيرة للعالم المخلوق: دائماً تأتي صور النماذج البدئية ذاتها إلى الساحة، الانتقال وأسرار الولادة في قدسيتها الغريبة. الضفدع الكريه والمرفوض أو تنين الحكاية، كل منهما يدفع بالشمس إلى الأعلى عن طريق فمه. كما يحفظ كذلك قوانين ومبادئ الوجود. كما هي مشتركة مع بذور النار في محيط الأبدية، والعالم يرى فيه نذير سوء. سينفتح له الطريق عبر جدران النهار إلى جواهر الليل المتلألئة. قال الملك آرثر: سوف أصطاد هذا الغزال، ولما طارد الملكُ الغزالَ طويلاً دون جدوى، وكان أن جلس إلى القرب من نبع ماء حيث غرق في أفكاره. ولما بقي طويلاً على هذه الحال، خيِّل إليه أنه يسمع نباح الكلاب. والصوف كان في بطن الحيوان مثل نباح عصبة من الكلاب يبلغ تعدادها الثلاثين. ولكن مادام الحيوان آخذاً في الشرب، لكي نسمح للجزء الآخر من العالم أن يقول كلمته، يمكن أن نروي القصة التالية عن فتاة الأراباهو، فقد اكتشفت هذه الفتاة قنفذاً إلى القرب من شجرة حور، وعندما حاولت أن تردي هذا الحيوان، قالت الفتاة: «سوف أتسلق لكي أحصل على هذا القنفذ، لأنني أريد أن أستحوذ على أشواكه، القنفذ وصل إلى القمة، ولكن عندما وصلت الفتاة إلى مبتغاها، ومدت يدها لتقبض على القنفذ، ثمة حلمان كافيان لتبيان كيفية ظهور شخصية الوسيط بصورة تلقائية، وكانت الشمس قد غربت لتوها بألوان حمراء مثل الدم. رنَّته كانت مخيفة وهو يقول: «هل تريدين الذهاب معي؟ ودون أن ينتظر مني جواباً، وفيها يتم التعرف على ما يجب أن يُدرك في العين، وعلى الرغم من أن المسألة يمكن أن تكون مجهولة بالنسبة إلى الشخصية المُوَعاة، بالغياب المفاجئ لكرتها الذهبية. والده أبعده بحرص شديد، أحاط ابنه بثلاثة قصور، لكي يشده إلى العالم. أي عندما يستنفد الفتى الملذات المادية ويلتفت إلى غيرها، وبالتالي يصبح ناضجاً للتجربة المختلفة تماماً. وحالما أصبح جاهزاً ظهرت له الرسالات من تلقاء ذاتها. «أراد ذات يوم مَنْ سوف يصبح بوذا أن يقصد الحديقة، وأصدر الأمر إلى سائق عربته أن يكون على أتم استعداد للرحلة. وبعد أن زينها بأجمل الحلي، بعد ذلك أخبر مَنْ سوف يصبح بوذا، بأن كل شيء قد أعد على أحسن حال. ولذلك حولوا واحداً منهم إلى عجوز متهالك، وهو لم يكن مرئياً إلا من قِبَلِ الأمير والحوذي. وعندما سمع الجواب قال: «ملعونة هي الولادة لأن الشيخوخة لابد أن تحل بكل مولود». سأل الملك: «لماذا عاد ولدي هكذا سريعاً؟». سيعرض عن أي تفكير من شأنه أن يؤدي إلى انسحابه من العالم». ومرة ثانية شاهد من سوف يصبح بوذا، عندما ذهب ذات يوم إلى الحديقة رجلاً عاجزاً، وبعد أن استقصى كالعادة رجع وقد تفطر فؤاده وقصد قصره من جديد. طرح الملك السؤال ذاته وأعطى الأوامر ذاتها، ومرة ثانية دفع بالحراس أبعد فأبعد إلى درجة أن القصر صار محروساً على بعد ميل كامل. ومرة أخرى شاهد من سوف يصبح بوذا، عندما ذهب إلى الحديقة ذات يوم، طرح الملك السؤال ذاته وأعطى الأوامر ذاتها، ومرة ثانية دفع بالحراس أبعد فأبعد إلى درجة أن القصر صار محروساً على بعد أبعدَ من ميل كامل. ومرة أخرى شاهد من سوف يصبح بوذا، عندما ذهب إلى الحديقة ذات يوم، ومن هنا فقد لاقت فكرة الانسحاب من العالم هوىً في نفس من سوف يصبح بوذا» (9) . كما سميناها تمَّ تعيين البطل ونقل مركز ثقله الروحي من دائرة مجتمعه إلى أقليم مجهول. هذا الإقليم المصيري الذي هو جذاب بقدر ما هو خطر، في مثل هذه المنطقة تسكن على الدوام كائنات ساحرة متعددة الأشكال، مثلما فعل تيسيوس عندما علم بالنبأ الشنيع عن الميناتور فور وصوله إلى أثينا مدينة آبائه وأجداده، أو ربما يمكن أن يُختطف إلى بلاد مجهولة من قِبَلِ قوة خيرة أو شريرة مثل أوديسيوس الذي دفعت به رياح بوسيدون الغاضب عبر البحر المتوسط. والأمثلة على ذلك يمكن تكديسها إلى مالانهاية، ولكن غير مستقر. يسميها جوزيف كامبِل نداء المغامرة. هناك حقيقة جلية تفرض نفسها. يمكن أن يتخذ هذا النداء شكل رسالة أو رسول. يمكن أن يأتي النداء من البطل شخصياً، في "لقاءات قريبة من النوع الثالث" يتلقّى روي نيري النداء على شكل صور هوسية لبرج الشيطان مستقاة من خافيته. وفي أعماق نفسه نجد في داخله تلك الحاجة الكونية التي سوف تدفعه، قد تشكل أحياناً سلسلةٌ من الأحداث أو من المصادفات الإشارَة التي ستدفع البطل في المغامرة. يشير مفهوم قوَة التزامن إلى تزامن حالة نفسية مع حدث أو عدة أحداث موازية. كل الحوادث النفسية تتصل مع بعضها بعضاً اتصالاً سببياً وثيقا. وإن وصف أي مفهوم بشكل منفصل سوف يؤدي إلى إعطاء نظرة جزئية عنه إذ أنه لا يأخذ بعين الاعتبار لا العلاقات الديناميكية ولا مجمل المنظومة النفسية. يمكن أن يكون للتكرار العرضي لبعض الكلمات، معنى خاص وأن يلفت الانتباه إلى ضرورة التصرف أو إحداث تغيير. لم يسبق لبرسيفال أن رأى مثل هؤلاء الناس ولم يتمكن من المقاومة، حينها ينبغي على الأبطال البرهان عن كل مهاراتهم لتفسير صحيح للعروض الملتبسة التي تقدمها شخصيات غير محددة المعالم. لا يدرك الأبطال أن الأمور تسير بشكل خاطئ في

عالمهم الاعتيادي ولا يشعرون بأية حاجة للتغيير. يميز فلاديمير بروب مرحلة أولى مشتركة في كل القصص وهي مرحلة التعرف. إنه ينذر الجمهور والبطل أن شيئاً ما سيحدث وأن المعركة على وشك أن تبدأ. أحياناً يتخفى الرسل من أجل التجسس على البطل ما يكفي من الزمن لاكتساب ثقته ثم يغيرون شكلهم لتبليغ النداء. امرأة طائشة حكم على والدها لكونه جاسوساً نازياً. يحاول غرانت إقناعها بمساعدتهم بتسللها ضمن مجموعة أو نادٍ للجواسيس النازيين. يلبس قناع الرسول ويقدم لها نداء المغامرة الذي يشكل تحدياً حقيقياً. استيقظت وفمها جاف إلى حد رهيب. يرمز هذا إلى القوة الجديدة التي تولدها المغامرة. ولكن سوف يتضح أنها علاج ممتاز. يتكئ كاري غرانت على إطار الباب ويرتسم ظله في فتحة الباب كشبح ملاك أسود. وهو يعبر بهذا الشكل عن حالة إنغريد برغمان الغثيانية. خلال هذا المقطع استخدم هتشكوك كل العناصر الرمزية التي كانت لديه للإيحاء بأن تغييراً عظيماً على وشك الحدوث. يمكن أيضاً أن يسمع البطل نداء المغامرة بسبب فقدانٍ أو شعورٍ بالنقص حصل في حياته الاعتيادية. في "البحث عن النار" تبدأ المغامرة عندما تَرى قبيلةٌ من العصر الحجري آخر جذوة من نار تنطفئ بعد أن كانت محفوظة حتى ذلك الوقت في قفص خاص. انعدام الخيار
لم تعد آليات التكيف تعمل وقد نفد صبر مجتمع البطل، هناك أبطال ليس لديهم حتى هذه الفرصة. نداءات متسلسلة
ولكن نداء آخر حصل بالتوازي على مستوى أعمق خلال المشهد نفسه. هذه المعارك هي من عمل البطل المتردد. «ما يشتهيه الحمقى يقضي عليهم بالموت. لأنه عندما يصبح المرء القوة العليا لذاته، والحكاية تتابع: «كان يمكن أن يتحدث أكثر فأكثر، حتى إن الرمز الشاب لم يعد يطيق صبراً. في جوهرها يكمن العجز عن تجاوز أنا الطفولة وارتباطاتها العاطفية ومثلها. غوستاف يونغ يتحدث عن حلم تقترب صُوَرَهُ بشكل مدهش من صُوَر أسطورة دافني. إن ذلك رمز للدائرة السحرية التي سُجِنَ فيها الشخص من خلال القوة الهائلة للوالدين وتثبَّتَ فيها (18) . نعم، وأصبح كل عام أعلى فأعلى، حتى العالم ذاته فوق السطح كان محجوباً عن الرؤية» (19) . أما أنت فستبقى هنا منتظراً إلى أن أعود» (22) . برونهيلد يُحافظ عليها من خلال سحر البطل الذي حُدّد لها، وبريار روز حُرِّرت من قِبَلِ أمير. وأيضاً ذلك الشاب الذي رأى نفسه متحولاً إلى شجرة، إذ النفس تحمل في طياتها في الغالب أسراراً معينة لا تكشف عن نفسها إلا عند الضرورة القصوى. ومن هنا فإن الضرورة التي تنتج من الرفض العنيد للنداء، يتبين أنها هي المناسَبَة التي تجعل العناية العلوية تكشف بعضاً من إمكانية تحرير غير مُدركة. في الحقيقة كثيراً ما انتمى انطواء طوعي على النفس إلى عبقرية خلاقة، والنماذج البدئية من لاوعيها. عندما تبرهن الشخصية على أنها ناضجة بقدر القوى التي تواجهها، على هذا المبدأ يقوم الانضباط الذي يخضع له ممارسو اليوغا الهنود. وحتى في الغرب اتخذت كثير من العقول الخلاقة هذا السبيل (24) . ولن يكون من الصحيح بشكل كامل، في سبيل نوع من الإضراب الكلي، الولد الوحيد لملك فارس شهرمان يرفض بعناد الاقتراحات المتكررة، التمنيات والطلبات وأخيراً الأوامر التي يصدرها والده لكي يقوم بما هو طبيعي ويتخذ له زوجة. في المرة الأولى أجاب الشاب: اعلم يا أبي أنني ليس لي في الزواج أرب، إذا شاب شعر المرء أو قلّ ماله
فليس له في ودّهن نصيب
فلما سمع السلطان من ولده هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتم غماً شديداً. ولكن من محبته لم يكرر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب. بعد عام كرر الملكُ الطلبَ غير أن الفتى أصر على موقفه الرافض وقوّاه بتلاوة أبيات من الشعر. والملك استشار وزيره الذي قال: «اصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها في أمر الزواج فلا تكلمه سراً، ولكن حدثه في يوم حكومة ويكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطِبْه في أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء والنواب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحي منهم ولايقدر أن يخالفك بحضرتهم». إن الملك لحقته شهامة فصرخ على ولده فأرعبه وصرخ على المماليك وأمرهم بإمساكه فأمسكوه وأمرهم أن يكتفوه فكتفوه وقدموه بين يدي الملك وهو مطرق في رأسه من الخوف والوجل وتكلل وجهه وجبينه بالعرق واشتد من الحياء والخجل، عند ذلك شتمه أبوه وسبّه وقال له: «ويلك يا ولد الزنا وتربية الخنا كيف يكون هذا جوابك لي بين عساكري وجيوشي، أما تعلم أن هذا الأمر لو صدر من عامي من العوام لكان ذلك قبيحاً منه». ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلوا كتافه ويحبسوه في برج من أبراج القلعة. ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة وجعلوا على بابها خادما. عند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد وندم على ما جرى منه في حق أبيه. فلما سمع منها أبوها هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واحترق قلبه عليها غاية الاحتراق وخشي أن تقتل نفسها وتحيَّر في أمرها وأمر الملوك الذين خطبوها منه فقال لها: إن كان لابد من عدم زواجك فامتنعي عن الدخول والخروج. ثم إن أباها أدخلها البيت وحجبها فيه واستحفظ عليها عشر عجائز قهرمانات ومنعها من أن تذهب إلى السبع قصور وأظهر أنه غضبان عليها وأرسل يكاتب الملوك جميعهم وأعلمهم أنها أصيبت بجنون في عقلها (25) . لأن بطل وبطلة التاريخ كليهما يعرضان عن النداء وبينهما تقع القارة الآسيوية تقريباً بكاملها فإن المسألة تحتاج إلى معجزة من أجل توحيد هذا الزوج المقرر من الأبدية أن يكون كل منهما للآخر.