لخّصلي

على أن هذا الواقع ، بطبيعة الحال ، لا يعني البتة كما جادلنا في دراستنا هذه ، أن نظرية نهاية التاريخ حصرت ، كطرح فلسفي وأيديولوجي ، في مخازن الفكر وميادين السجال الأكاديمي والثقافي الأمريكية ، وبالتالي لم تجد أي صدى لها لدى صناع السياسة في واشنطن ، بل إنما بعكس هذا وفوق ذال ساهمت في رسم وصياغة التوجهات السياسة والاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وتسويقها من خلال خطاب فلسفي مبهر ومتماسك ( كم يبدو لأول وهلة ) ، ومن ثم كان من المنطقي ، والحالة هذه ، ألا يضطر فوكوياما الذي يبدو أنه يدرك تماماً مفاعيل نظريتع في داخل بلاده كما في خارجها إلى نعي نظريته ، رافعاً راية التسليم بحقائق العالم وتعقيداته ( رغم أنه سلم ببعضها أخيراً في انتقاداته القاسية للمحافظين الجدد ) . والحال أنه لا يزال يصر حتى لحظه تدوين هذه السطور على مصداقية وثبات معظم أفكاره ومجمل أطروحاته ، راقداً إياها بأفكار وتحليلات جديدة تثريها ولا تنفيها ، وإن بدت للبعض كذلك .

وبغض النظر عن تقومينا لأفكار فوكوياما ، قبولاً أو رداً ، يحسن الاعتراف لهذا الأخير بنظرة تجريبية حية للغاية ومناسبة للتاريخ الذي يصنع ، فأن نلاحظ منذ عام ١٩٨٩ أن عالمية الديمقراطية الليبرالية تصبح إمكانية تستحق البحث هو في حد ذاته أداء جيد ، خصوصاً بعد أن أخذ المفكرون الغربيون ( الأوربيون أساساً ) الأقل حساسية لحركه التاريخ ، يركزون ملكات تحليلهم على موضوعة الشيوعية ، أي على الماضي ، في حين كان لفوكوياما مزية المضاربة على المستقبل ، وهذا أكثر صعوبه ،لكنه من دون شك أكثر جدوى .
وتتضح جدوى هذه المزية كما رصدتها الدراسه ، أو لنقل ماحاولت القيام برصده في البعد الوظيفي لنظرية نهاية التاريخ وموقعها المهم في الأيديوستراتيجيا الكونية للولايات المتحدة الأمريكية في عالم ما بعد الحرب الباردة وانهيار أسطورة البديل الشيوعي للديمقراطية الليبرالية ، والتي تمثل أمريكا ، كما يهتف قادتها ومثقفوها بإصرار ، نموذجها الأسمى والأكثر جاذبية على مستوى العالم كله . والملاحظ أن فوكوياما لا يخفي هذا الأمر ، أو لا ينفيه بتعبير أكثر دقة . والحاصل أن طرحه لنظريتة نهاية التاريخ ( التي فتحت الباب على مصراعيه لظهور نظريات أخرى ، أبرزها على الإطلاق نظرية صدام الحضارات لصاميول هنتنجتون ، جاء فس سياق محدد وواضح ، وهو البحث المنطوي على مفارقة تاريخية وعلى التوق إلى الماضي ، عن استراتيجية أمريكية كبرى . وبما أن إحدى فضائل الحرب الباردة لدى الولايات المتحدة تمثلت في تقديمها ذاك الإطار الشامل القائم على الاحتواء ، وهو الإطار الذي فرض معظم جوانب سياساتها الخارجية وبعض سياساتها الداخلية ، فإنه وعندما يتأمل العديد من المنتمين لمجتمع صنع السياسات اليوم الفوضى المطردة في السياسة الخارجية الأمريكة ، فإنهم يخلصون فإنهم يخلصون إلى ضرورة وجود إطار شامل جديد وإلى نظرية كبرى عظيمة ، وهو ما يسعى فوكوياما وغيره من المفكرين والأكادميين إلى تقديمه بل وفرضه من طريق الإلحاح عليه ، والإضافة إليه ، والتشبث بأهدابه مع ( ورغم ) تقادم السنين .

لقد ارتكز طرح فوكوياما ونظرته الجديدة للعالم وطبيعة التغير فيه على منطلقات فلسفية جلية المعالم يفتقر إليها الكثير من النصوص والنظريات الأمريكية في الديمقراطية والوضع الناشئ عقب تلاشي نظام الثنائية القطبية والتدافع الأيديولوجي الذي ساد الجزء الأعظم من النصف الثاني للقرن العشرين . وبانتهاء الحرب الباردة وغياب مركز قوى بديل عن الولايات المتحدة الأمريكية ، حققت نظرية نهاية التاريخ ، كما يقول هنري كيسنجر عميد خبراء السياسة الخارجية الأمريكية العصرية ، « قبولاً معتبراً » .

وبالتأكيد فإن النظرية ومنطلقاتها الفلسفية معاً ، قد أشبعت إلى حد كبير مطالبة جريجوري فوستر العتيدة بنظرية استراتيجية أمريكية جديدة تستند إلى حد كبير مطالبة جريجوري فوستر العتيدة بنظرية استراتيجة أمريكية جديدة تستند إلى المفاهيم الفلسفية ، والتي لاشك في مشروعيتها وجدواها التاريخية . يكتب هنري لوفيفر ، في تأييد ضمني لذلك قائلاً : « عبر التاريخ والنضالات التاريخية ، صارت الفلسفة عملية أي صارت سياسية ، فالنظام الفلسفي والنظام السياسي هما واحد ـك كليه ثنائية الجانب . في البدء يكون أحدهما منفصلاً عن الاخر ( مغترباً ) ، يرتقي الواقع إلى المعقول ، ويتجسد المعقول في الواقع . وتلتقي المعقولية ( الفلسفة ) بالواقع ( الدولة ) ، يتم تحقق الفلسفة في الواقع وينجز التاريخ .

على أن تركيزنا هنا على نظرية نهاية التاريخ لا يعني ، بالطبع ، التسليم بهبكنتها على مشهد التنظير السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية ، ونحن في الواقع لا ندعي هذا . فالمستقر لدينا ، كما هو لدى غالبية الدراسين ، « أنه لا توجد معالجة واحدة يمكنها الإحاطة بتعقيد السياسة العالمية المعاصرة » ، ومن ذلك السياسة الأمريكية ذاتها .

ومع هذا ، يحسب لفوكوياما ونظرية الفضل في أنهما تحملا عبء إنهاء حالة فقدان اليقين النظري التي اجتاحت الساحة الفكرية الأمريكية آنذاك ، ومن ثم قيادة العربة الأولى في قافلة طويلة من عربات عديدة ( “ القوة الناعمة “ ، صدام الحضارات ، الطريق الثالث ، قوس الأزمات ، رقعه الشطرنج الكبرى ….
إلخ ) تحاول بصورة حثيثة الوصول إلى قلب واشنطن دي سي ، وتفريغ حمولتها