لخّصلي

المقاربة الثالثة : البناء الاجتماعي للمخاطر وعلم اجتماع شرح المخاطر
إذا كانت المقاربتان السابقتان قد تناولت علاقة المخاطر بالطبيعة بشكل مباشر، بحيث تكون مهمة
عالم الاجتماع هي شرح المتغيرات التي تكمن وراء هذه الأخطاء، وعلاقة المخاطر الطبيعية بطريقة
ماع
بنائها اجتماعيا بحيث تقوم المحطات الاجتماعية بتغيير مستوى الإشارة الكفيلة بالإخبار عن المخاطر
إما بتضخيمها أو تهوينها للمتلقي الأخير، فإن هذه المقاربة ستتناول البناء الاجتماعي للمخاطر بشكل
مستقل تماما عن الأساس الطبيعي، على اعتبار أن العلم قد وصل إلى درجة متطورة جدا أمكنها أن
تشتغل على مجموعة من الموضوعات التي لا علاقة لها بالطبيعة أصلا، مما يكون من شأنه طرح
السؤال حول مدى نفعية هذه البحوث، خاصة فى ظل تعقد العلاقات الاقتصادية العالمية من جهة، ثم
هذه البحوث، خاصة.
RE
مدى تحلي القائمين عليها بمستوى أخلاقي معين يضمن استمرارهم في الاشتغال في الدائرة الكفيلة
العصف بجميع المكتسبات البشرية لحد الآن، وذلك في ظل السباق الذي تشهده الدول على
مجموعة من الأصعدة وخاصة الصعيدين السياسي والعسكري.
بعدم
15
على المستوى الاقتصادي، كان التاريخ شاهدا على التطورات الكبيرة التي حققتها البشرية من
خلال التغلب الكبير على الطبيعة وتسخير عدد من الموارد لمصلحة البشر ، ولمصلحة راحتهم، ولكن
ظهور مبادئ اجتماعية جديدو على خلفية هذا التطور أدت إلى إحداث قفزة نوعية لا على صعيد
الإنتاج فقط، الذي تكلفت به الشركات المتعددة الجنسيات، ولكن على صعيد الاستهلاك أيضا، وهي
القفزة التي أسست لها الملكية الفردية، والسعادة القصوى في التمتع بالسلع والخدمات.
1 ففيما يتعلق بالإنتاج، كان حق الملكية الفردية من الحقوق التي نادت بها المجتمعات الحديثة في
إطار نمط الحياة الرأسمالي الذي حقق تغلبا سياسيا واقتصاديا، وتم فرضه على أغلبية بلدان العالم،
بغض النظر عن الأنماط الاجتماعية الأصلية لهذه البلدان، مما كان من شأنه ظهور الشركات المتعددة
الجنسيات، أو ما يطلق عليه الشركات عبر وطنية، التي فرضت هيمنتها على المستوى العالمي،
وتكلفت بإنتاج مجموعة من السلع التي كان الإنسان في حاجة ماسة إليها في أول الأمر، من قبيل
المواد الغذائية، لتظهر بعد ذلك سلع يمكن أن تحسب أنها من الكماليات، إلا أن سيادة هذا النموذج
جعلتها من الضروريات.
لقد كانت حاجة العالم للتغذية حاجة ماسة، دفعت في أول الأمر بهذه الشركات إلى تعميم هذه
السلع، بجلبها من الأماكن التي تنتج فيها بكثرة إلى الأماكن التي تقل فيها، وعند عدم قدرتها على تلبية
هذه الحاجات التجأت إلى الإنتاج المكثف لهذه السلع، خاصة أمام الطلب المتزايد عليها، لدرجة أنها
خصصت بلدانا بأكملها لإنتاج سلع غذائية معينة ( مزارع الموز في كوسطريكا)، ولزيادة الإنتاج تم
تعميم المبيدات والمواد الحافظة، مما كان من شأنه إحداث مخاطر جمة على المستوى القريب في
البلدان والمناطق المنتجة، وعلى
المنتجة،
المستوى البعيد في البلدان المستهلكة.
وأمام الطلب المتزايد على التغذية والرغبة الكبيرة في تحقيق الأرباح التجأت هذه الشركات إلى
استغلال العلم في الأبحاث الجينية، التي كان من شأنها تغيير الخصائص الوراثية لمجموعة من المواد
الطبيعية، بما في ذلك الكائنات الحية من قبيل تغيير الشفرة الوراثية للحبوب والقطاني، والكائنات
الحية من قبيل الدجاج والأبقار وغيرها، وهو الأمر الذي نتجت عنه مخاطر مباشرة كبيرة على صحة المستهلكين، خاصة أولئك الذين يعيشون في الهامش، والذين يفضلون هذا النوع من السلع لانخفاض
ثمنه، بل لقد ظهرت سلع صنعت من مواد كيماوية بشكل كلي، وذلك بعد التطور الكبير الذي شهدته
البحوث الكيماوية في مجال التغذية، وهي سلع رغم التشابه الكبير بينها وبين المواد الطبيعية، إلا أنها
مصنوعة بشكل كلي من مواد وتفاعلات كيماوية، وأن جل الناس يعرفون ذلك، إلا أن التطور
الإعلامي من ناحية ثانية جعلها تبدو سلعا حقيقية، بل إنه أقنع جزء كبير من المستهلكين على أنها سلعا
كمالية تعبر عن المستوى الراقي لمستهلكها، وذلك من قبيل أنواع كثيرة من الحلويات، والألبان
والبسكويتات الصناعية والعصائر والمثلجات والمشروبات الغازية وغيرها، ولابد من القول أن
جزء كبيرا من هذه المواد تم توجيهه للاستهلاك بشكل كبير من طرف فئة معينة من المجتمع من قبيل
الأطفال، والرياضيين، والمراهقين وغيرهم، وهي الفئات التي تستقبل من أيامها أكثر مما تستدبر،
بحيث ستتحقق مجموعة من المخاطر المستقبلية بشكل يكاد يكون عاما.
2- أما فيما يتعلق بالاستهلاك فقد كانت هناك مبادئ اجتماعية أسست للنظام الرأسمالي، من قبيل
التيار النفعي الذي يرى أن سعادة الفرد أهم من أي أمر آخر، وأن الغاية تبرر الوسيلة، مما كان من
شأنه خلق ثقافة الاستهلاك، التي ترى أن سعادة الفرد تكمن في قدرته على الاستهلاك، وذلك بغض
ق ثقافة ال
النظر عما سيستلكه، وإذا كان هذا الأمر مفهوما في المجتمعات الغربية على أنه تشجيع للمقاولة لكي
تستمر في خلق الثروة وفي خلق الشغل، فإنه يبقى غير ذي دلالة في المجتمعات الفقيرة التي تعاني من
مؤشرات كبيرة على مستوى التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة مع تعميم وسائل الاتصال
الاجتماعية و
بدور التنشئة الاجتماعية على مدى واسع، خاصة فيما يتعلق بالإشهار المباشر وغير
وقيام الإعلام من.
المباشر لمجموعة من السلع،
السلع، والقيم، والأنماط الجديدة للعيش، التي لا يسندها الأساس الاقتصادي
المادي، مما أدى إلى ظهور قيم جديدة لدى الشباب أساسها حياة المتعة والرفاهية بدون بذل المجهود
اللازم لذلك، و السعي إلى تحقيق مجموعة من الأحلام والنماذج التي يسوقها الإعلام.
17
ولابد في هذا الصدد من التطرق لموضوع الهجرة، تلك الموجة التي اجتاحت المجتمعات
الفقيرة، والتي سعى الكثير من شبابها إلى النزوح الجماعي، في محاولة للحاق بتحقيق الحلم في التنمية
والتطور الاقتصادي بدول الشمال ومن ذلك ما عاشته وتعيشه الدول الإفريقية في محاولة شبابها
للوصول إلى الدول الأوربية، ولو اقتضى ذلك منهم جل سنين حياتهم، بل إن من الشباب من يلقي
بنفسه في البحر في ظروف أقل ما يقال عنها أنها جد خطيرة، وقد أدى ذلك مرارا وتكرارا إلى
تعرضهم للموت في عرض البحر، بل لقد سميت تلك القوارب التي تنقلهم إلى الضفة الأوربية
"بقوارب الموت" ، وحتى من نجا منهم فإنه يضطر للاختفاء عن الأنظار والاشتغال في الضيعات
الفلاحية الأوربية لسنوات عديدة قبل أن يتمكن من الحصول على أوراقه الرسمية، وهي أيضا ظروف
تتميز بدرجة عالية من المخاطر الصحية على المدى القريب، ومخاطر تفويت الفرص على المدى
البعيد.
في هذا السياق أصبح الخروج "للتبضع " بالعبارة الانجليزية الشهيرة "go shopping"،
من بين المهام اليومية للفرد، ودليل على رقيه الاجتماعي والطبقي هذا بالإضافة إلى أن تقنيات
الإعلام، والبحوث التي تنتجها الشركات المتعددة الجنسيات في هذا الباب قد توصلت إلى أن تميز في
المستهلكين بين أولئك الذين يشترون حاجات ومواد عادية، وأولئك الذين لا يستهلكون إلا مواد تعود
لشركات ولأنواع بعينها، بناء على علامات تجارية تم إشهارها على مستوى عالمي، كل هذا في
ظروف تتميز بالتفاوت الشديد بين الفئات الاجتماعية، مما أدى بشكل مباشر إلى ظهور مجموعة من
الآفات الاجتماعية من قبيل السرقة والاتجار بالمخدرات وغيرها من أجل الاغتناء السريع، والقدرة
على تحقيق أهداف ربحية قريبة المدى، والاستهلاك المفرط الذي يتلاءم مع نمط العيش الحديث.