لخّصلي

البعد الاقتصادي في فكر ابن خلدون والمقريزي

إن الفكر الإنساني ما هو في الحقيقة سوى مجموعة أفكار متلاحقة وتراكمات معرفية
متتالية ساهمت في بنائه جل الحضارات المتعاقبة الإسلامية منها والغربية، بل وسبقتهم إليها
حضارات الأمم الغابرة. ومع اختلاف وتباين مستوى التحليل والقدرة على التظير والنضج في
المعرفة إلا أن ذلك لا يبخس حق المفكرين والعلماء مهما كانت مساهماتهم وآراؤهم بغض
النظر عن انتماءاتهم الفكرية وخلفياتهم العقدية. ولا شك أن للتراث الإسلامي أهميته في مختلف
المجالات العلمية وحقول المعرفة. فلأعلامه اجتهاداتهم وإضافاتهم، بل واكتشافات لم يسبقهم
إليها أحد، سواء في العلوم التجريبية الطبية منها والكيمياء، وغيرها. أو في العلوم الإنسانية
ومنها الاقتصادية.
فمؤرخو الفكر البشري والدارسون لتطور الحركة الثقافية الإنسانية يدركون ما لهذا
التراث الإسلامي من ثراء وقوة وعمق في الطرح، وقدرة على العطاء والريادة. وإن كان
الكثير من الباحثين وخاصة في الفكر الغربي لا ينسبون الأشياء إلى أصحابها في كثير من
الأحيان، بل ويقفزون على مراحل التاريخ، إذ ينتقلون من مرحلة الحضارة اليونانية وتحليل
نظريات أرسطو وسقراط وغيرهم إلى بداية النهضة في أوربا وظهور رواد الفكر التجاري
ويهملون دراسة مساهمات المفكرين المسلمين وخاصة في الاقتصاد خلال قرون عديدة.
فلأمثال الماوردي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون والمقريزي، وغيرهم من أعلام
الفكر الإسلامي مساهماتهم وإضافاتهم، بل إنهم كانوا السباقين إلى التأصيل والتأسيس للكثير من
النظريات الاقتصادية التي نسبت لاحقا للمفكرين الغربيين من أمثال آدم سميث وريكاردو
ومالتس وجريشام وكارل ماركس وكينز، وغيرهم.
وعليه فإن الباب الأول من هذا البحث يعتبر عمدته وزبدته لأنه خصص لدراسة البعد
الاقتصادي في فكر ابن خلدون والمقريزي، وذلك باستقراء كتابيهما: المقدمة، وإغاثة الأمة
بكشف الغمة؛ قصد تحليل آرائهما وبيان أهم النظريات الاقتصادية التي تناولوها بالشرح
والتحليل. وذلك ضمن فصلين؛

• الفصل الأول: البعد الاقتصادي في فكر ابن خلدون
  -الفصل الثاني: البعد الاقتصادي في فكر المقريزي.
  الفصل الأول: البعد الاقتصادي في فكر ابن خلدون
  لقد أصبح من المتفق عليه إلى حد كبير بين الباحثين صعوبة استنباط وتحليل آراء ابن
  خلدون في الاقتصاد والسكان باعتباره اهتم بعلم العمران وركز على كتابة تاريخ العالم العربي
  ومن ثم فإن آراءه حول الاقتصاد جاءت في كافة أجزاء مؤلفاته، كما جاءت فقط بالقدر والحجم
  الذي يخدم شرح الحادثة التاريخية أو الظاهرة الاجتماعية محل البحث ولم يفردها ببحث خاص
  أو فصل مستقل.
  وهذه النظريات الاقتصادية التي وضعها وحللها ابن خلدون مازالت مطروحة إلى
  اليوم وتعيد إنتاج نفسها في المجتمعات الحالية، ومعنى ذلك أن فكر ابن خلدون الاقتصادي ليس
  مجرد تراث بقدر ما هو عطاء معرفي قابل للبحث والبعث والحياة. وفي هذا الفصل ترد أهم
  القضايا الاقتصادية التي تناولها والتي ترقى في أغلبها إلى نظريات وذلك في ثلاثة مباحث.


• المبحث الأول: نظرية العمل والقيمة، والحرية الاقتصادية.


• المبحث الثاني: نظرية الإنتاج ، وأنواع النشاط الاقتصادي


• المبحث الثالث: نظريات السكان، والمالية العامة.
  المبحث الأول: نظريات العمل والقيمة، والحرية الاقتصادية.
  تعتبر نظريات العمل والقيمة، والحرية الاقتصادية من أهم النظريات التي اهتم بها
  علماء الاقتصاد باعتبارها أساس النشاط الاقتصادي القائم على العمل، هذا العمل الذي ينتج
  سلعة أو خدمة معينة يتم تداولها وتبادلها، الأمر الذي يفرض وجود مجال يتم ضمنه هذا التداول
  بين المنتج والمستهلك. وباعتبار السوق مكان التقاء الرغبات، والبيع والشراء فيه وسيلة لإشباع
  الحاجات المختلفة فإنه يتطلب توفر مجموعة من الشروط والضوابط ليسود السعر الطبيعي
  والثمن الحقيقي دون إضرار بأي من طرفي المعاملة الاقتصادية والتجارية. وعليه فسيادة
  الحرية الاقتصادية والمنافسة للسوق دون تدخل يجعل السعر يميل أكثر إلى العدل من خلال
  قانون العرض والطلب.
  المطلب الأول: نظرية العمل
  108
  يتضمن المطلب الأول ثلاثة فروع؛ حيث يتعين بداية تعريف مصطلح العمل، ثم دراسة
  نظرية العمل لدى ابن خلدون من خلال أهمية تقسيمه، ومعايير تحديد قيمة العمل.
  الفرع الأول: تعريف العمل
  أولا: لغة
  " العمل: المهنة والفعل، والجمع: أعمال. عمل عملا، وأعمله غيره واستعمله. واعتمل
  الرجل: عمل بنفسه، واستعمل فلان غيره إذا سأله أن يعمل له. وقيل: العمل لغيره والاعتمال
  لنفسه. وعمل فلان العمل يعمله عملا، فهو عامل." 1
  و" جاء في المعجم الوسيط :عمل عملا؛ فعل فعلا عن قصد، ومنه والي السلطان: أي
  عامله. ومنه العمالة وهي أجرة العامل. والعمالة حرفة العامل، ومنه العاملة التي تستعمل في
  . الحرث والسقي والدياسة من البقر والإبل. ومنه العامل وهو من يعمل في مهنة أو صنعة" 2
  فالعمل هو فعل شيء عن قصد من فاعله.
  ثانيا: اصطلاحا
  يعرف الاقتصاديون العمل بأنه: " كل نشاط يبذله الإنسان عن وعي وقصد، ويحس
  بالألم حين يبذله، وهدفه من بذله هو خلق الأموال؛ أي الأشياء التي تشبع الحاجات بطريق
  مباشر أو غير مباشر" 3. فالعمل مجهود يبذل عن وعي وإرادة، " ويميز الاقتصاديون بين
  نوعين من الألم الذي يصاحب العمل؛ الألم المادي الذي يسببه العمل الجسمي والذهني الذي
  . يقوم به العامل، والألم الأدبي ويقصد به كون العامل مضطرا للقيام بالعمل" 4
  أما في الاقتصاد الإسلامي فقد عرف العمل تعاريف متعددة، منها: العمل " هو كل جهد
  مشروع ومقصود ومنظم بدنيا وذهنيا أو خليط منهما، يبذله الإنسان لإيجاد منفعة اقتصادية