لخّصلي

لو سألَ ٌ نا سائل عن أعظم أ
ٍ ذلك لوجود شيءٍ غريب فيها، ولكن للحوادث العظيمة التي مثلت على أرضها. وفوق ذلك
َ فقد كانت م َ وطن نبيِّنا.
َّ وبعد فلسطني تأتي مرتبة مصر، وفيها تمت سلسلةُ القصص التي بدأت على أرض
ِخبر ِّ نا عن يوسف الصبي َّ الرقيق

فلسطني واملذكورة في العهد القديم؛ ذلك العهد الذي يُ
َ الذي صار نائب َمِل ِك ِّ مصر، وعن موسى الطفل الإسرائيليِّ الذي صار أمريًا في عائلة فرعون،
َّم َ كان بطل َّقصِة َ خروج بني إسرائيل ِ من م ً صر. وفضلا عن ذلك؛ فمصر لها تاريخها
ثُ

َمم الأرض القديمة
ُ
ُّ الخاص ُ بها، ترويه آثار ِ ها إلى اليوم َّثم ٍ إلى غد وبعد غد، فلم يَقُم لها بني أ

لاء والجنود الش ُ جعان، ولا يجد ٌ إنسان في

نظريٌ ِ له ما لها من امللوك الع ِّ ظام والر ُ جال العقَ ُّ

ٍ فات ُ لها نصف ِ ما للآثار امل َّ صرية من الروعة والجلال.

ٍ مملكة ِغري ً ها آثار ُ ا وم َخلَّ
َّ إن َ لنا بعض ِ املباني القديمة — وهي الحصون والكنائ ِ س — التي يرج ُع ُ وقت تشييدها
َّ ات السفَر ليُ ِشاهُدوها.
َ اس من مشقَّ
إلى خمسمائة أو ستِّمائة عام، وربَّما أكثر. وكم يتكبَّ ُد النَّ

د أمثال هذه املباني من الآثار الحديثة العهد، ولا يكاد يَ ِحف ُل برؤيتِها
َعُّ
في مصر، تُ
ُ إنسان، ويمكن َّ أن تتصو َ ر ذلك إذا علمت أن املعابد العظيمة واملقابر الهائلة املوجودة الآن

َّد ِّ س بمئات السنني.

ُ في مصر شيَِّد ِ ت قبل أن يبدأ الك ُ تاب املقَ

َشيَّ ِّ د قبل أي
ُّ عجوبة الدنيا، فهو لم يُ
ُ
ْ ولأضرب ً لك مثلا َ بالهرم العظيم الذي لا يزال أ

ا
ٍ ُ الآن في أوروبَّ ِّ ا بآلاف السنني فقط، وإنَّ ُ ما شيَِّد قبل أن يُ َ باع يوسف ويصريَ رقيقً
بناءٍ قائم
َ في منزل يوتيفار. وآلاف الأعوام قبل أن يسمع ٌ إنسان ُّ بالإغريق والرومان، كان يحكم مصر
ِ هم لتستكش َف
نَ
ٌ ملوك ِعظام، يُ ِرس َ لون بجيوشهم لتغزو ُّ سوريا والس ُ ودان، ويبعثون سفُ
َب التي نقرؤها الآن.

ُ البحار الجنوبية. وكان ح ِ كماء امل ُ صريني يضعون الكتُ

مصر القديمة

ِ وفي الوقت الذي كانت بريطانيا جزيرةً مجهولةً مسكونةً ُ بامل ِّ توح َ شني والهَمج — كأنهم
ُمتمدينةً كثريةَ ُ املُدن
َّمةً
ُ
ُّحِشِه َ م وهَمِجيَّ ُ تهم س َّك ُ ان ُجُز ِ ر البحار الجنوبية — كانت م ُصر أ
َو
لتَ

ِ ها من أعقل ِّ الر ِ جال وأعظمهم

ُ املعابد والهياكل والقصور، وكان س َّكانُ

العظيمة، عديدةَ

َّمة
تَفً ا من تاريخ هذه الأُ

ِع ًلم ُ ا. وقد قصدت َّ — في هذا الكتاب الص ِ غري — أن أرو َي لك نُ
ِّبني لك نوع الحياة التي كان يحياها الناس في تلك الأيام الغابرة، قبل أن تبدأ
ُ
العجيبة، وأ
ُمم َ الأخرى في الاستيقاظ، وقبل أن يكون ٌ لها تاريخ.
الأُ

ُ عن جغرافية الأرض.

ِّكون لك فكرةً
ُ
ِفي ق َّص ْ تي، دعني أ
َ
ولكن قبل أن أبدأ

ِ ت من أصغرها

ِلاح َظ َ أن أعظم املمالك خ َطًرا في التَّاريخ كانَ
ُ
ويَ ُجد ُر بي هنا أن أ

َر ًغم ِ ا عن تاريخ َ ها املجيد، وفلسطني التي أسدت

د مملكةً واسعةً
َعُّ
مساحةً؛ فبريطانيا لا تُ

ُخرى كان يُطلَ ُق َّ عليها الأرض الص َّ غرية، ثمتلا فلسطني في هذه
أ
ِسد َّ ها أمةٌ
َ م أيادي لم تُ
للعالَ

.
ُ في جنوب أوروبَّ ً ا، ومصر أيض ٌ ا أرض صغريةٌ

َّ املرتبة بلاد الإغريق، وما هي إلا زاويةٌ جبليةٌ

َّ املساحة، ولكن ينبغي أن تتذك َر

ُ ما خيِّ َل إليك وأنت تراها على الخريطة أنها كبريةُ
ُربَّ
ِ أن معظم الأرض التي تقرأ عليها «مصر» صحراء أو ت ٌلال ِ صخرية، حيث لا يقد ُر ُ الإنسان
ٌ يط ٌ رفيع ِ على جانبَي النِّيل، وفي بعض الأحيان

َّ على الحياة. أم َ ا مصر الحقيقية فهي شرِ
ُ يكون امتداده ًميلا ِ أو ميلَ َ ني داخل ِّ الر ِ مال التي يخترقُها النِّ َ يل، ولا يزيد على ثلاثني ِم ًيلا في
ُ منه، املَسَّم ِّ ى الدلتا). وقد شبََّه ُ بعضهم وادي

ِّ أي ٍجهة من النَّ َّ هر (إذا استثنينا الجزء الشماليَّ

ِو ِّ ية، والدلتا هي

َّ يل هو الس ُ اق امللتَ

ٍ يل بزنبق ٍ ذي ساق ُم َ لتوية، وقد صدق في تشبيهه؛ فالنِّ
النِّ

ٍ ؛ واد ٍ خصب هو الفيوم. وفي عهد َمضى

َوجُد بُ ُرعَمةٌ صغريةٌ
تُ
َّ الز َّ هرة، وتحت الزهرة مباشرةً

ُ تاريخ مصر نفسه — لم يكن للزنبق زهرة.
َ
َ — قبل أن يبدأ

ب في البحر بقُرب القاهرة —

فقد كان النِّ ُيل َ أوسع ٍ بكثري َّمما هو عليه الآن، وكان يَ ُص ُّ
ُ العاصمة الحديثة ملصر — ولم تكن الأرض َّإلا َّ ذلك الوادي الضيِّق املحدود من الجانبَني
بتِ َّ لال الصحراء.

َر النِّ ُيل ُ مجراه، فزاد عمقُه، وغارت املياه

َ ا بعد َ قرن، حفَ

ولكن على مرور الأيَّام قرنً

َّ لال، أم ُ ا الطني الذي

ً وانخفضت تبعا لذلك، تاركةً ً أرضا خصبةً بني املجرى الجديد والتِّ
َّ ى كوَن ِّ الدلتا كما هي الآن تقريبًا.

ُه ُ املياه، فقد كان يرسب َ عند امل َص ِّب حتَّ
حملتْ

ٍ عات؛
ُ التاريخ َّ ؛ فلم ُ ا ابتدأ التاريخ َ كانت الدلتا أرض ُمستنقَ
َ
كانت مصركذلك قبل أن يبدأ
َ لأنها كانت حديثة التكوين في مكان البحر، قبل ُ أن يطرَد النِّ ُيل ِب ِطينِِه َ مياهه.

8