لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (100%)

رغم أني در�ست النحو العربي أثـناء تكويني الجامعي إال أنني
لهذا العلم، إذ إن تخ�ص�صي في التربية، إال أنني أ ؤمن بالتعاون
ذلك أنه »كلما
لنظرة غير المتخ�ص�صين، ربما لي�س في العلوم البحتة وإنما، العلوم الإن�سانية واالجتماعية التي تتطلب مقاربة منهجية إن�سانية
1(
وفي الوقت ذاته، وبحكم أن تكويني التربوي المتعلق بالإ�شراف
التربوي على تدري�س علوم اللغة العربية في التعليم العام، فإنني غير
إلينا، وت ّدر�س الآن
را�ض عن نماذجها العلمية المتأخرة التي و�صلت
وكــــــوني قـــــرأت مؤخـرا
2 )لذا ُّ أود أن أ�ستخدم في هذه
والفنومينولوجيا الترن�سندنتالية«
المقالة أفكار الكتاب بما يدعم أفكاري الخا�صة عن الكيفية التي
3 ، وفيما يخ�صني ال يمكن أن يكون الأمر إال
ً كهذا الكتاب. ً ومعقدا
في معنى الأزمة العلمية وت�أزم العلوم:
يمــثـل كــــتاب »أزمة العــــلـوم الأوروبـــــية والفنومينولوجـــــيا
الترن�س ّ ندنتالية« ثمرة قراءات معمقة، التركيز عليها وهو في الخام�سة وال�سبعين من عمره )بدأ يركز
من عام 1934 ، وتوج اهتمامه بتلك الأزمة بأن ن�شر الق�سمين
4(
فل�سفية
بقي من الكتاب الق�سم الأهم والأغنى، وهو الق�سم الثالث
الذي ا�ستبقاه لكي يراجعه وي�صححه. راجع هذا الق�سم المركزي
من الكتاب، وأعاد �صياغته، المترجم( لكي ي�ضمها إلى متن الكتاب، 5(
يعطي كتابه �صيغته النهائية
ترجم الكتاب إلى العربية الأ�ستاذ إ�سماعيل الم�صدق )2008 )
المتخ�ص�ص الذي نعرف ترجماته وتحريراته الممتازة لمارتن
هايدجر، ترجم وناق�ش وأقام مع أ�ساتذة متخ�ص�صين في
ي�
رل، هو�س ُ
الكتاب بذلك الم�ستوى الرفيع . ال يق�صد هو�سرل بـأوربا في عنوان الكتاب المعنى الجغرافي
المتحدة الأمريكية التي يلحقها بأوربا بالمعنى الثقافي، أوروبا الإ�سكيمو والهنود والغجر. ثقافية للحياة والعمل والإبداع« بما تت�ضمنه الوحدة الثقافية من
غايات واهتمامات وان�شغاالت وهموم ومؤ�س�سات ومنظمات . يذهب هو�سرل إلى أن العداء بين الأمم الأوربية - مهما
كان كبيرا
الفوارق الوطنية والعداء الذي يطفو بين حين وآخر. ولكي يو�ضح
ً هذه القرابة الداخلية يقارن بين أن ينتمي الأوربي إلى البيت
الأوربي حيث ت�سود القرابة الداخلية، وبين أن يكون الأوربي غريبا
في التاريخية الهندية ب�شعوبها، وت�شكيالتها الثقافية. لقد �شعرت أن عبارات كثيرة تهمني أنا القارئ العربي في هذا
الوقت التي يعي�ش فيه العرب أزمتهم العلمية والثقافية . يقول وهو
يتحدث عن أوربا بالمعنى الثقافي ال بالمعنى الجغرافي: »هناك
أوربا كونها وحدة فوق - وطنية«. مكان ميالد. ال أق�صد هنا بالمكان بلدا
إنها الأمة
ً �صحيح، بل مكانا روحيا
أن هذا هو أي�ضا
6 ، مثالية، ولم يتحدث عنها بو�صفها ق�ضية كبرى، ّسط من منظور فل�سفة التاريخ فكرة الب�شرية
العلوم الأوربية، و يب�
الأوربية؛ لكي
وال�ساد�س( في تلك المجموعة الب�شرية كلية لأوربا فوق وطنية؛ أي
الثقافة التي ت�ستند إلى النقد الحر، وتقع
ليوحدها؛ حيث التمعن النظري
الحر وال�شامل الذي ي�ضم كل المثل والمثل الكلي، فائدة للب�شرية جمعاء . َى للدخول إلى أزمة النحو
العربي كما و�صل إلينا في نموذجه العلمي المتأخر، وما يهمني أكثر
من جهة ظاهرها ، وال ّ من جهة ما ت�شعر به ذات معينة أثناء أزمتها، إنما يق�صر بحثه
على وجود الأزمة والأ�سباب التي أدت إليها. العلوم الأوروبية، بأن نرى أزمة النحو العربي ال من جهة أولئك
الذين وقعوا فيها، وال من جهة حاالتهم الذهنية، وال من جهة ما
ي�شعرون به، أي في وجودها ذاته، يترتب عليها. إن تقديم هذا الفيل�سوف في جزء من ا�شتغاالته الفل�سفية
الأخيرة؛ أعني عنايته بأزمة العلوم الأوروبية، الأوربيين، ما يعين القارئ العربي على أن يفهم أزمة النحو
العربي، الفيل�سوف، وإلى كتابه هذا، وإلى أ�سلوبه في تحليل الم�شكالت. وقد أثارت قراءتي
وجاءت في وقتها المنا�سب لكي
ب�شكل أعمق في أزمتهم العلمية. يكون على الدرجة ذاتها من عمق الم�شكلة، بالن�سبة لأدموند هو�سرل، ولي�س أولئك الذين يتحدثون الآن عن
بأي معنى يفهم إدموند هو�سرل أزمة العلم الأوربي؟ يلزم أن
نقول أوال: إن هو�سرل ال ي�شكك في �صرامة العلوم الأوروبية، في إنجازاتها النظرية، وال يطعن في
في الثقافة الأوربية، ومن الدور الذي تعزوه ال�شكوى إلى العلوم، وتحول �شعور الجيل الجديد بعد الحرب العالمية الأولى إلى �شعور
عدائي نحو العلم، وإلى يأ�س من أن العلم ال يوجد عنده ما يقوله عن
المحنة التي ألمت آنذاك بالحياة والثقافة الأوروبية. أما لماذا حدث هذا ؛ فرأي هو�سرل أن ذلك ب�سبب أن العلوم
الأوروبية آنذاك لم تكن تهتم إال بالوقائع، ولم تكن تدر�س إال
ولم يكن الحقيقي عندها إال ما يقبل المالحظة. وتحولت تحت �شعار »المو�ضوعية« إلى ت�س َ جيل لما هو عليه العالمان
حدث هذا في العلوم الطبيعية، ّ )علوم الروح( التي نح َ ى الباحثون مواقفهم القي ّمية، وت�شكيالته الثقافية. العلوم أن العلم إنجاز ب�شري لب�شر يجدون أنف�س َ هم في العالم، َ تجربة العالم العامة. وهو إنجاز ب�شري واحد من إنجازات ب�شرية
ّ متعددة من الإنجازات العملية. باخت�ص ِ ار لقد اختزل الع ُلم الأوربي
ً، وتحولت النعمة
َ فكرة ِ العلم إلى علم الوقائع، الملحة التي تعنى بالوجود الب�شري، أي أن العلوم أق�صت الأ�سئلة
التي تعنى بالإن�سان من حيث هو كائن حر في اتخاذ قراراته، ومن
حيث هو كائن حر في أن ي�شكل ذاته ومحيطه بكيفية عقلية. لقد
ا�ستبعدت العلوم الأوروبية الأ�سئلة المتعلقة بالخلود، وبالعقل في
في مواجهة هذه الأزمة يعود هو�سرل إلى الوراء ليك�شف عن
ولكي يفعل ذلك
أي التأ�سي�س الأ�صلي أو
الأول، ثم حلل تبني الب�شرية الأوربية في ع�صر النه�ض َ ة للمثل القديم
خ�ضع لها هذا المثل، وأدت إلى ف�شله وأزمته الحا�ضرة . ا�ستـنادا إلى هذا المنهج فما تقدمه الظاهراتية لمو�ضوعي هنا
افتر�ضنا جد ًال أن الأ�شياء ذاتها هي أو ًال وفي ّ أغلب الأوقات مموهة
7 . وهذا هو ما أريد أن أتح�س�سه
أو تم تحريف اتجاهها الأ�صلي«
أي تحريف النحاة المتأخرين اتجاه النحو الأ�صلي
الحديث عن ُ أزمة في النحو العربي رغم ما و�صف بأنه العلم
الأنجح بين العلوم العربية التي حفظت الل�سان العربي و�صانته
في حدود علمي لم ي�صدر في العربية درا�سة جامعة أو مخت�صرة
مهما كانت دقيقة, أو غير متطورة ت�شبه درا�سة الدكتور محمد ربيع
8 )التي ي�ستعيد فيها تاريخ
الغامدي »نحو �سيبويه ونحو المتأخرين«
لذلك فهي تحدث تغييرا
في إدراك وقائع تاريخ النحو العربي، ّ ما يعرفونه عن ذلك التاريخ لكي يتغير ما يرون؛ ذلك أنه »حين
�ستتغير«
يمكن أن أ�ستخل�ص من هذه الدرا�سة أن ّ أزمة هددت وما زالت
تهدد النحو العربي، وهي خال�صة �سأحتفظ بها لكي أ�سأل في �ضوئها:
ُ أزمة في النحو العربي رغم ما و�صف
ً هل يمكن الحديث فعال عن
العلم الذي قيل إن أ�سباب ن�شأته عربية على مقت�ضى الفطرة، وغير
مقتب�س من لغة أخرى ال في ن�شأته وال في تدرجه
كيف له أن يتحدث هكذا وبب�ساطة، وبكل جدية عن أزمة في
النحو العربي والعلماء أ�صدروا وي�صدرون الكتب، وينظمون القواعد، وي�شرحون ما نظموه، وينبهون على ما يجب أن يقال وما ال يجب أن
يقال؟ أال يكفي لدح�ض الأزمة أن أح�صى عبدال�سالم هارون في
مقدمته تحقيق كتاب �سيبويه )23 )كتابا في �شرحه و)11 )كتابا
و)4 )كتب في االعترا�ض عليه أو رد تلك االعترا�ضات، ال�سَّراج وأبي �سعيد ال�سيرافي وغيرهم ؟. هذا غي�ض من في�ض. أما الآن فكيف له أن يتحدث عن أزمة
النحو العربي وكل الجامعات العربية ت�ضم أق�ساما علمية للنحو
التعليم العام ؟ وكتب التب�سيط النحوي تكاد ال تنقطع عن ال�صدور؟
كيف له أن يتحدث عن أزمة والندوات والكرا�سي العلمية والمؤتمرات
تعقد دائما لمناق�شة الق�ضايا النحوية؟ . إنني ّ أعترف مقدما بأن
اعترا�ض هؤالء المعتر�ضين الواثقين من ت�صورهم للنحو العربي
بنوع من الم�شروعية. اختزال فكرة النحو العربي في نموذجه العلمي المتأخر إلى ما
غير ّ أن هناك زاوية مميزة للنظر تعر�ضها الدرا�سة ؛ وهي
ّ علمية النحو العربي؛ ذلك »إن أزمة علم ما ال تعني �سوى ّ أن علميته
أي الكيفية التي حدد بها مهمته، بإنجاز هذه المهمة، أ�صبحت مو�ضع �سؤال«
الدرا�سة، وما انتهت إليه . إن التحليل الذي أجراه الباحث دقيق، والت�شخي�ص و�صفي رائع
بالثقة. ، لكن رغم قيمة اال�ستنتاجات إالأنها تبقى غام�ضة من دون
وهو ما �سيحاول
هذا الهام�ش أن يقوم به لكي يو�سع فكرة الدرا�سة المده�شة. �سأكتفي بهذه البداية التقريبية لو�صف الدرا�سة لأنتقل إلى ما
أريد أن أتحدث عنه هنا وهو التأ�سي�س الأ�صلي الذي يدعوه الباحث
12 ، لمو�ضوع ما
نفهم التأ�سي�س الأ�ص ُ لي الذي عادة ما ين�سى فعله الخالق. 5 . غائية المهن والمعنى الأ�صلي لمفهوم النحو العربي:
الأعرابي الذي ح�ضر مجل�س الأخف�ش الذي يتحاور فيه مع بع�ض
أ�صحابه في النحو، تقدم لنا هذه الحكاية - ُ إذا ما عرفت كيف أقرأها -
عند النحويين القدامى، �سأورد هذا القول و�سيت�ضح فيما بعد �سبب إيراده . عليها، فيتكلمون في �شؤونهم دون تعمل فكر، أو رعاية إلى قانون
كالمي يخ�ضعون له، قانونهم ملكتهم التي خلقت فيهم، ومعلمهم
14(
البيئة المحيطة بهم«
ماذا يعني هذا بالن�سبة للأعرابي الذي ح�ضر مجل�س الأخف�ش؟
يعني أنه يقف خارج العلم، أ�شخا�ص نحويين يؤثرون فيه )معلمهم البيئة المحيطة بهم(. عالم غير علمي، وقبل علمي )قانونهم ملكتهم التي خلقت لهم(
ت�شترك في �صورته التقليدية، الذوات الفردية لجماعة النحن؛ أي نحن عائلتنا، نحن فخذنا، 15(
نحن العرب
في المقابل يقف الأخف�ش داخل العلم، وفي الحياة العلمية، أن يكون الأخف�ش
ً من علماء الطبقة الخام�سة في تاريخ النحاة فذلك يعني أنه
عالما
ينتمي إلى جماعة علمية تت�شكل من مجموع الفاعلين فيها، ُ أن يخ�ضع
ً إلى جماعة علمية فذلك يعني ُ أن ي ُ ختار ويدمج و
منت�سبا
16 . والخال�صة »أن االمتثال النتظارات
لمو�ضوع مراقبة اجتماعية
الزمرة وتوقعاتها لي�س ثمرة رغبة الأفراد وحدها: ٍ إنه نتاج مران
على دور اجتماعي ي�سبق دخولنا الحياة المهنية، ونتاج �ضبط
م�ستمر )دوزنة( لأبناء المؤ�س�سة العلمية بوا�سطة أنف�سهم«
ي�ستحق مفهوم »الحياة المهنية« أن أتوقف عنده لأ�سأل: لماذا ال
ُّسب ما
ُ إلى مهنة. يروى أن الجرمي والمازني ت�شاورا على أن يحيال
في المال؛ إذ كان الجرمي ثريا فقرأه عليه
ذلك أن لكل
التاريخية. وقد تكون فكرة آخرين تبناها واعتبرها فكرته. ً؛ لأن الهدف
أي فكرة أولية أو م�شروع أولي ال تعطي أهدافا
ي�ضعه )الأنا( في فعل )أنا أريد( في )على هذا الهدف أن يتحقق(، ً جديا
وبف�ضل الإرادة )أنا أريد( ت�صبح الفكرة ق�صدا
يمكن أن نفهم في �ضوء هذا الحكاية التي تروي »أن �سيبويه
جاء إلى حماد بن �سلمة لكتابة الحديث، فا�ستملى منه قوله �صلى
اهلل عليه و�سلم: لي�س من أ�صحابي أحد إال ولو �شئت لأخذت عليه
فقال �سيبويه: لي�س أبو الدرداء، ف�صاح حماد:
فقال �س ِ يبويه: واهلل لأطلبن عْلما
لقد و�ضع �سيبويه لنف�سه هدفا )أنا أريد( وأ�صبح أ�سير هدفه
ً كر�س له جهده ووقته ليتتلمذ على آخرين حتى
ً جديا
الفكرة ق�صدا
َّل َف أول كتاب في النحو العربي، وفي �ضوء هذا وبفكرة أ�شبه ما
تكون بفنتازيا يمكن أن نعلل ت�سمية )النحو( ألي�س الق�صد والإرادة
حينما ت�شير الحكاية إلى أن �سيبويه تتلمذ على الخليل وآخرين
فذلك يعني أن النحو العربي فكرة لمهمة واحدة متوارثة. يكفي أن
أ�ضع )النحو( محل )الفل�سفة( لكي يعبر هو�سرل عما أريد قوله
موحدة يتم توارثها با�ستمرار في مجرى التاريخ با�شتراك بين
الذوات، انبثقت في )التاريخ العربي( بف�ضل تد�شين قام به نحويون أوائل معنيون، الذي ي�سمى »النحو «، إذن نوع جديد من »المهن« التي يعتبرها الح�س الم�شترك بالطبع
دون فائدة عملية، لكنها ترتبط، �شكل اجتماعي ومن جيل إلى آخر. يتم تـناقل كل مهنة مع فكرتها
التي تطر ً أ عليها، مثال مهما تغيرت مو�ضات الأحذية تبقى مهمة
21(
الإ�سكافي هي إنتاج الأحذية
تبدو فائدة هذا االقتبا�س الطويل إذا عرفنا أن �سيبويه جعل
كل الفكر النحوي ال�سابق عليه مجرد نوع من الإ�سهام في كتابه. لقد جمع الح�صاد الكلي للنحو العربي الذي كان قبله، وتج�سم
في نموذجه العلمي أف�ضل ما عند العلماء الذين �سبقوه كالأخف�ش
الكبير والخليل ويون�س وأبي زيد وعي�سى بن عمر وأبي عمرو بن
العالء وغيرهم ممن مثلوا طبقات النحويين قبله . ً أ�ص ً يال نما نموذجه العلمي
ً لغويا
العك�س من ذلك كان �سيبويه مفكرا
وإذا كنت قد قارنت قبل قليل بين الفل�سفة عند الإغريق وبين
النحو عند العرب فإن �سيبويه ي�شبه أفالطون الذي ا�ستولى »على أفكار هيرقليط�س وبارمنيد�س و�سقراط لكنه لم يتركها كما وجدها، لقد اعتبرها بذور تطور جديد ولقد كانت هي الأ�س�س الدفينة في
الأر�ض التي �شيد عليها �صرح الفل�سفة، وعلى يديه أ�صبح الفكر
22(
ً تحت نور مبدأ جديد وأ�صيل«
ال�سابق مو�ضوعا
غاية مهنة النحوي مقارنة مع مهنة الأعرابي:
كيف أفهم أ�صل التقابل بين الأعرابي والأخف�ش في الحكاية
وغير العلمية والحياة العلمية في العالم؟ كيف أفهم دوافع تد�شين
المهمة النحوية الذي )التد�شين( كان من ال�ضروري أن تن�شأ مهمة
ت�ستدعي الإجابة أن أحلل مهمة الأعرابي من حيث هو ينتمي
وتحليل مهمة الأخف�ش من
حيث هو ينتمي إلى الحياة العلمية. قبل كل �شيء �سأتفح�ص ما هو عام من أجل أن أو�ضح ما هو
وال عن �سكان البراري ممن كان ي�سكن أطراف بالدهم ل�سائر
23 . وقد أ
الأمم«
القبائل التي ينت�سب إليها الأعراب الذين امتهنوا في ع�صر التدوين
نقل اللغة وبيعها إلى اللغويين الأوائل . إن مهنة الأعرابي هذه مثلها مثل أي مهنة أخرى في العالم، ُ ق، وقد حققت من قبل عندما حدث التحول
ُ لها مهام قابلة لأن ت َّحق
الأول الذي أنجزه ّ أعرابي مجهول خطرت على باله فكرة موفقة، ومنذ ذلك الحين أ�صبح ال�سبيل �سالكا لأعراب آخرين، ومثل كل
المحاوالت الأولى لم ت�صل إلينا ق�صة التحول في نمط تفكير ذلك
الأعرابي الذي أ
توارث الأعراب هذه المهمة، وتوارثوا معها الكيفية التي يحققون
بها مهمتهم؛ المهن المعتادة يعني في الحقيقة م�سبقا توارث ابتكار، تم القيام
به �سابقا وحالفه التوفيق، ً من جديد منتجات غائية يمكن
هكذا تن�شأ في كل مهنة دائما
في عالمنا المحيط. 25(
إلخ«
ٍ له وقته«. يعني هو�سرل بهذه العبارة أن أحدا
إن »كل اهتمام
ُّ
ً فإنه يعلق اهتماماته الأخرى
ّ ما حين يفعل اهتمامه، من غير ّ أن يغيبها تماما، إنما تكون موجودة؛ أي أن الأعرابي ومعه
الأخف�ش، ذلك الذي ينقل اللغة، وذلك الذي يتحدث بها وعنها
يعلقان اهتماماتهما الأخرى )أبوان، ويربيان
أطفا ًال. إلخ(، وهكذا يمكن القول إنه حان وقت الذي ينقل فيه
باللغة بما لي�س في اللغة. يتوفر كل �شيء من وجهة النظر هذه على وقته داخل الوقت
ُّ
،
ال�شخ�صي للأعرابي والوقت ال�شخ�صي للأخف�ش ويتوفر كل �شيء
وينتميان إلى مجتمع ما ولهما أدوارهما االجتماعية، غير أن هذا
كله ال يمنع بقاء مهنتيهما قائمتين؛ فالطبيعي هو أال يغير اهتمامهم
بأ�سرتيهما مثال من اهتمامهما بمهنتيهما التي ت�ستمر موجودة، إذا كان الأمر كذلك فمن المنا�سب أن أت�ساءل: أال ت�شبه اللغة
التي ينقلها الأعراب المو�ضوعات النافعة للمهن المختلفة؟ أي: أال
الإ�سكافي والخياط؟ ألي�س الأمر بالن�سبة لمهمة النحوي أو النحو
ً لمهمة الأعرابي بكيفية حا�سمة؟ أال يكمن هنا، في معنى
مخالفا
ً مطلقا
النحو، في »مفهومه« تفردا
ً إلى هذه الأ�سئلة أ�ستطيع أن أقول: إن مهمة النحو، أو
ا�ستنادا
مهنة النحوي تتميز عن مهنة نقل اللغة وروايتها أو مهنة الأعرابي، على ذلك الحديث المتداول الذي يقابل بين »النظرية والممار�سة«. وبالعودة إلى الأخف�ش يكمن المعنى التحليلي لمهمة النحو ومهنة
النحو العربي. غير أن »الو�ضع« المن�سوب لرجل واحد كأبي الأ�سود
الدؤلي ب�سبب ب�ضع �صفحات أ
لفهم عملية معقدة كن�شوء علم من العلوم ؛ ذلك أن ما يبرر القيمة
الخا�ص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما للعقل الجماعي للعلماء؛ لذلك فم�شكلة ن�شأة النحو العربي ُ أ�شد تعقيدا مما ذكر في تلك
الم�صادر. ومع ذلك، وكبداية للنقا�ش �سأنطلق من فكرة »و�ضع« أبي الأ�سود
الدؤلي ب�سبب ب�ضع �صفحات أثرت عنه تبدو بب�ساطة الكلمة »الخطأ« لفهم عملية معقدة كن�شوء علم من العلوم ؛ ذلك أن ما يبرر القيمة
الخا�ص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما للعقل الجماعي للعلماء؛ ومع ذلك، وكبداية للنقا�ش �سأنطلق من فكرة »و�ضع« أبي الأ�سود
الدؤلي النحو. وال�سؤال الذي يعقب هذه الفكرة هو: هل وجد النحو
العربي طريق العلم الآمنة في »و�ضع« أبي الأ�سود الدؤلي؟. إنني
أ�سأل لأنبه القارئ إلى أن الدرب العلمي الآمن للنحو العربي هو
أهم ما كان ي�شغل تفكير الدكتور محمد ربيع الغامدي في درا�سته
المذكورة أعاله. �سأبني حكمي على الربط الذي تورده الم�صادر ذاتها بين
»و�ضع« أبي الأ�سود الدؤلي النحو وبين �ضبطه الم�صحف بال�شكل؛ القرآن الكريم؛ وهو ما يعني أن القرآن الكريم كان في حاجة آنذاك


النص الأصلي

رغم أني در�ست النحو العربي أثـناء تكويني الجامعي إال أنني
ل�ست متخ�ص�صا بالمعنى الدقيق للتخ�ص�ص. في الواقع أنا هاو
لهذا العلم، إذ إن تخ�ص�صي في التربية، إال أنني أ ؤمن بالتعاون
بين المتخ�ص�صين والهواة في مجال الدرا�سات؛ ذلك أنه »كلما
تعزز االتجاه نحو التخ�ص�ص في الأبحاث العلمية، فإنني أعتقد أن
لنظرة غير المتخ�ص�صين، التي غالبا ما تكون أكثر مرونة، قيمة
ال ي�ستهان بها، ربما لي�س في العلوم البحتة وإنما، على الأقل، في
العلوم الإن�سانية واالجتماعية التي تتطلب مقاربة منهجية إن�سانية
.)1(
�شاملة«
وفي الوقت ذاته، وبحكم أن تكويني التربوي المتعلق بالإ�شراف
التربوي على تدري�س علوم اللغة العربية في التعليم العام، فإنني غير
إلينا، وت ّدر�س الآن
ُ
را�ض عن نماذجها العلمية المتأخرة التي و�صلت
في التعليم العام. أعرف أنه من غير المنا�سب أن أقحم تجاربي
ال�شخ�صية في مدخل هذه المقالة، لكنها منا�سبة لكي أبرر كتابتها،
وأو�ضح بع�ض أفكاري الخا�صة بأزمة علم النحو العربي.
ً كـــتاب »أزمــــــــة العلـــــوم الأوروبــــــية
وكــــــوني قـــــرأت مؤخـرا
)2 )لذا ُّ أود أن أ�ستخدم في هذه
والفنومينولوجيا الترن�سندنتالية«
المقالة أفكار الكتاب بما يدعم أفكاري الخا�صة عن الكيفية التي
نحلل بها أزمة النحو العربي كما و�صل إلينا في نموذجه العلمي
المتأخر ، ذلك ّ أن كل واحد منا ينقب في جينات الكتاب عن الأ�شياء
)3 ،)وفيما يخ�صني ال يمكن أن يكون الأمر إال
التي يراها نافعة له
ً كهذا الكتاب.
ً ومعقدا
كذلك، وقد قرأت كتابا غنيا
1 ّ .في معنى الأزمة العلمية وت�أزم العلوم:
يمــثـل كــــتاب »أزمة العــــلـوم الأوروبـــــية والفنومينولوجـــــيا
الترن�س ّ ندنتالية« ثمرة قراءات معمقة، وتدري�س وتفكير الفيل�سوف
الألماني إدموند هو�سرل في أزمة العلوم الأوروبية التي �شرع في
التركيز عليها وهو في الخام�سة وال�سبعين من عمره )بدأ يركز
من عام 1934 ،)وتوج اهتمامه بتلك الأزمة بأن ن�شر الق�سمين
الأولين من الكتاب وهو في ال�سابعة وال�سبعين )1936 )في مجلة
.)4(
فل�سفية
بقي من الكتاب الق�سم الأهم والأغنى، وهو الق�سم الثالث
الذي ا�ستبقاه لكي يراجعه وي�صححه. راجع هذا الق�سم المركزي
من الكتاب، وأعاد �صياغته، وهيأ مالحق )�ضمائم كما يقدمها
المترجم( لكي ي�ضمها إلى متن الكتاب، لكنه مات )1938 )قبل أن
.)5(
يعطي كتابه �صيغته النهائية
ترجم الكتاب إلى العربية الأ�ستاذ إ�سماعيل الم�صدق )2008 )
المتخ�ص�ص الذي نعرف ترجماته وتحريراته الممتازة لمارتن
هايدجر، وتهمي�شاته العميقة التي تو�ضح الأفكار الخطيرة والمثيرة.
ال �شك أن هايدجر �صعب، وكذلك هو�سرل، لكن دأب الم�صدق
ّسرت ال�صعب. ترجم وناق�ش وأقام مع أ�ساتذة متخ�ص�صين في
ي�
رل، ما ن ُ �شر له وما لم ين�شر )كتب هو�سرل بين عامي 1890
هو�س ُ
1938 -خم�سًة وأربعين ألف �صفحة( حتى خرجت لنا ترجمة
الكتاب بذلك الم�ستوى الرفيع .
ال يق�صد هو�سرل بـأوربا في عنوان الكتاب المعنى الجغرافي
)خارطة أوربا( إنما يدخل �ضمنها الم�ستعمرات الأوربية، والواليات
المتحدة الأمريكية التي يلحقها بأوربا بالمعنى الثقافي، ويخرج من
أوروبا الإ�سكيمو والهنود والغجر. وبالتالي فإن أوروبا تعني »وحدة
ثقافية للحياة والعمل والإبداع« بما تت�ضمنه الوحدة الثقافية من
غايات واهتمامات وان�شغاالت وهموم ومؤ�س�سات ومنظمات .
يذهب هو�سرل إلى أن العداء بين الأمم الأوربية - مهما
ً - يت�ضمن قرابة ثقافية داخلية خا�صة تخترق وتتجاوز
كان كبيرا
الفوارق الوطنية والعداء الذي يطفو بين حين وآخر. ولكي يو�ضح
ً هذه القرابة الداخلية يقارن بين أن ينتمي الأوربي إلى البيت
الأوربي حيث ت�سود القرابة الداخلية، وبين أن يكون الأوربي غريبا
في التاريخية الهندية ب�شعوبها، وت�شكيالتها الثقافية.
لقد �شعرت أن عبارات كثيرة تهمني أنا القارئ العربي في هذا
الوقت التي يعي�ش فيه العرب أزمتهم العلمية والثقافية . يقول وهو
يتحدث عن أوربا بالمعنى الثقافي ال بالمعنى الجغرافي: »هناك
ً بأننا في بلدنا«. »إن
�شيء مثل الأخوة يمنحنا هذا المحيط وعيا
ال�شعوب وحدات روحية )ثقافية( وهذا ينطبق ب�شكل خا�ص على
أوربا كونها وحدة فوق - وطنية«. »أوربا الروحية )الثقافية( لها
ً بالمعنى الجغرافي - رغم
مكان ميالد. ال أق�صد هنا بالمكان بلدا
ً للميالد في أمة. إنها الأمة
ً �صحيح، بل مكانا روحيا
أن هذا هو أي�ضا
اليونانية القديمة في القرنين ال�سابع وال�ساد�س قبل الميالد«.
أثارت هذه العبارات اهتمامي؟ لأن هو�سيرل لم يؤدلج مفهوم
)6 ،)ولم ي�ض ِف عليها �صفات
الأمة مثلما يفعل المفكرون العرب
مثالية، ولم يتحدث عنها بو�صفها ق�ضية كبرى، إنما حلل بهدوء
الفيل�سوف ال�شغوف بالمعرفة والنظر، المتفرج غير الم�شارك،
الذي ي�شاهد العالم من فوق . الفيل�سوف الذي يثير االهتمام بأزمة
ّسط من منظور فل�سفة التاريخ فكرة الب�شرية
العلوم الأوربية، و يب�
الأوربية؛ ليظهر الوظيفة التي يجب أن تنه�ض بها الفل�سفة؛ لكي
ت�ضيء تلك الأزمة .
وجد هو�سيرل في ذلك المكان والزمان )يونان القرنين ال�سابع
وال�ساد�س( في تلك المجموعة الب�شرية كلية لأوربا فوق وطنية؛ أي
ال�شكل الثقافي لأوربا، الثقافة التي ت�ستند إلى النقد الحر، وتقع
الفل�سفة في �صلب ال�شكل الثقافي الذي يعلو فوق الوطنية الأوربية
ليوحدها؛ لذلك �سماها )مملكة المعايير(، حيث التمعن النظري
الحر وال�شامل الذي ي�ضم كل المثل والمثل الكلي، الفل�سفة التي
مار�ست وظيفتها في الب�شرية الأوربية ، وكونها بالتالي وظيفة ذات
فائدة للب�شرية جمعاء .
َى للدخول إلى أزمة النحو
لقد مثل لي هو�س ُ رل طريقة مْثل
العربي كما و�صل إلينا في نموذجه العلمي المتأخر، وما يهمني أكثر
من �سواه عند هذا الفيل�سوف هو أنه ال يبحث أزمة العلوم الأوربية
من جهة ظاهرها ، وال يبحثها من جهة النا�س الذين يعانون منها،
وال ّ من جهة ما ت�شعر به ذات معينة أثناء أزمتها، إنما يق�صر بحثه
على وجود الأزمة والأ�سباب التي أدت إليها.
ي�ضعنا هذا الفيل�سوف في و�ضع ي�سمح لنا بف�ضل تحليله أزمة
العلوم الأوروبية، بأن نرى أزمة النحو العربي ال من جهة أولئك
الذين وقعوا فيها، وال من جهة حاالتهم الذهنية، وال من جهة ما
ي�شعرون به، إنما البحث في الأزمة ؛ أي في وجودها ذاته، ولي�س ما
يترتب عليها.
إن تقديم هذا الفيل�سوف في جزء من ا�شتغاالته الفل�سفية
الأخيرة؛ أعني عنايته بأزمة العلوم الأوروبية، ال بأزمة الب�شر
الأوربيين، ما يعين القارئ العربي على أن يفهم أزمة النحو
العربي، وبتلخي�ص أفكار كتابه المتعلقة بأ�س�س تلك الأزمة - ولو
ب�صورة إجمالية - �سأ�سلك أف�ضل الطرق لكي أثير االنتباه إلى هذا
الفيل�سوف، وإلى كتابه هذا، وإلى أ�سلوبه في تحليل الم�شكالت.
لقد أتت قراءتي في وقت منا�سب لكي أقارن بين ان�شغاالت
الكتاب الكبار بأزمة العلوم التي ي�شعرون بها بان�شغاالت عينة من العلماء العرب بأزمة علوم اللغة العربية . وقد أثارت قراءتي
الكتاب أفكارا عزيزة على قلبي، وجاءت في وقتها المنا�سب لكي
ّم العلماء العرب كيف يمكن أن يفكروا
ّ يتمكن هو�سرل من أن يعل
ب�شكل أعمق في أزمتهم العلمية. وأن العمق في التناول يجب أن
ً
يكون على الدرجة ذاتها من عمق الم�شكلة، وهو ما كان �صحيحا
بالن�سبة لأدموند هو�سرل، ولي�س أولئك الذين يتحدثون الآن عن
أزمة علوم اللغة العربية من غير أن يحركوا �ساكنا.
بأي معنى يفهم إدموند هو�سرل أزمة العلم الأوربي؟ يلزم أن
نقول أوال: إن هو�سرل ال ي�شكك في �صرامة العلوم الأوروبية، وال
في إنجازاتها النظرية، وال في نجاحاتها المقنعة. وال يطعن في
ّ علميتها، وال في م�شروعية إنجازاتها المنهجية. إنما ينظر إلى
تلك العلوم من زاوية أخرى هي ال�شكوى العامة آنذاك من أزمة
في الثقافة الأوربية، ومن الدور الذي تعزوه ال�شكوى إلى العلوم،
وتحول �شعور الجيل الجديد بعد الحرب العالمية الأولى إلى �شعور
عدائي نحو العلم، وإلى يأ�س من أن العلم ال يوجد عنده ما يقوله عن
المحنة التي ألمت آنذاك بالحياة والثقافة الأوروبية.
أما لماذا حدث هذا ؛ فرأي هو�سرل أن ذلك ب�سبب أن العلوم
الأوروبية آنذاك لم تكن تهتم إال بالوقائع، ولم تكن تدر�س إال
الأج�سام المح�ضة، ولم يكن الحقيقي عندها إال ما يقبل المالحظة.
وتحولت تحت �شعار »المو�ضوعية« إلى ت�س َ جيل لما هو عليه العالمان
الطبيعي والروحي )الثقافي(.
حدث هذا في العلوم الطبيعية، وكذلك في العلوم الإن�سانية
ّ )علوم الروح( التي نح َ ى الباحثون مواقفهم القي ّمية، وا�ستبعدوا
الأ�سئلة المتعلقة بعقل الإن�سان، وت�شكيالته الثقافية. لم تراع هذه
العلوم أن العلم إنجاز ب�شري لب�شر يجدون أنف�س َ هم في العالم، وفي
َ تجربة العالم العامة. وهو إنجاز ب�شري واحد من إنجازات ب�شرية
ّ متعددة من الإنجازات العملية. باخت�ص ِ ار لقد اختزل الع ُلم الأوربي
ً، وتحولت النعمة
َ فكرة ِ العلم إلى علم الوقائع، فأ�صبح العقل عبثا
إلى نقمة.
تكمن أزمة العلوم الأوروبية - إذن - في أنها ا�ستبعدت الأ�سئلة
الملحة التي تعنى بالوجود الب�شري، أي أن العلوم أق�صت الأ�سئلة
التي تعنى بالإن�سان من حيث هو كائن حر في اتخاذ قراراته، ومن
ُ
حيث هو كائن حر في أن ي�شكل ذاته ومحيطه بكيفية عقلية. لقد
ا�ستبعدت العلوم الأوروبية الأ�سئلة المتعلقة بالخلود، وبالعقل في
التاريخ. باخت�صار: تكمن أزمة العلوم الأوربية آنذاك في أنها فقدت
دالالتها بالن�سبة إلى الحياة.
2 .المنهج الظاهراتي في بحث أزمة العلوم:
في مواجهة هذه الأزمة يعود هو�سرل إلى الوراء ليك�شف عن
جذور هذا الفهم ال�ضّيق للعلم الأوربي الحديث. ولكي يفعل ذلك
عاد إلى التد�شين اليوناني للعلم والفل�سفة؛ أي التأ�سي�س الأ�صلي أو
الأول، ثم حلل تبني الب�شرية الأوربية في ع�صر النه�ض َ ة للمثل القديم
للفل�سفة والعلم اليونانيين، ثم أظهر االنحرافات والتحريفات التي
خ�ضع لها هذا المثل، وأدت إلى ف�شله وأزمته الحا�ضرة .


ا�ستـنادا إلى هذا المنهج فما تقدمه الظاهراتية لمو�ضوعي هنا


هو الأ�شياء ذاتها . لكن »ال معنى للعودة إلى الأ�شياء ذاتها إال إذا
افتر�ضنا جد ًال أن الأ�شياء ذاتها هي أو ًال وفي ّ أغلب الأوقات مموهة
)7 .)وهذا هو ما أريد أن أتح�س�سه
أو تم تحريف اتجاهها الأ�صلي«
في هذه المقالة؛ أي تحريف النحاة المتأخرين اتجاه النحو الأ�صلي
كما هو عند المتقدمين .
3 .الحديث عن ُ أزمة في النحو العربي رغم ما و�صف بأنه العلم
الأنجح بين العلوم العربية التي حفظت الل�سان العربي و�صانته
عن اللحن .
في حدود علمي لم ي�صدر في العربية درا�سة جامعة أو مخت�صرة
مهما كانت دقيقة, أو غير متطورة ت�شبه درا�سة الدكتور محمد ربيع
)8 )التي ي�ستعيد فيها تاريخ
الغامدي »نحو �سيبويه ونحو المتأخرين«
ً
النحو العربي من زاوية النماذج العلمية ؛ لذلك فهي تحدث تغييرا
ُ
في إدراك وقائع تاريخ النحو العربي، وتلح على ّ أن يغير الباحثون
ّ ما يعرفونه عن ذلك التاريخ لكي يتغير ما يرون؛ ذلك أنه »حين
ت�ستخدم تعريفات جديدة لتخطيط المنطقة نف�سها فإن النتائج
ُ
.)9(
�ستتغير«
يمكن أن أ�ستخل�ص من هذه الدرا�سة أن ّ أزمة هددت وما زالت
تهدد النحو العربي، وهي خال�صة �سأحتفظ بها لكي أ�سأل في �ضوئها:
ُ أزمة في النحو العربي رغم ما و�صف
ً هل يمكن الحديث فعال عن
بأنه الأنجح في العلوم العربية في حفظ الل�سان و�صونه من اللحن،
العلم الذي قيل إن أ�سباب ن�شأته عربية على مقت�ضى الفطرة، وغير
.)10(
مقتب�س من لغة أخرى ال في ن�شأته وال في تدرجه
كيف له أن يتحدث هكذا وبب�ساطة، وبكل جدية عن أزمة في
النحو العربي والعلماء أ�صدروا وي�صدرون الكتب، وينظمون القواعد،
وي�شرحون ما نظموه، وينبهون على ما يجب أن يقال وما ال يجب أن
يقال؟ أال يكفي لدح�ض الأزمة أن أح�صى عبدال�سالم هارون في
مقدمته تحقيق كتاب �سيبويه )23 )كتابا في �شرحه و)11 )كتابا
في �شرح �شواهده و)3 )كتب في اخت�صاره أو اخت�صار �شروحه
و)4 )كتب في االعترا�ض عليه أو رد تلك االعترا�ضات، ومجموع
هذا كله )55 )كتابا، �شارك فيها كبار علماء العربية كالمازني وابن
ال�سَّراج وأبي �سعيد ال�سيرافي وغيرهم ؟.
هذا غي�ض من في�ض. أما الآن فكيف له أن يتحدث عن أزمة
النحو العربي وكل الجامعات العربية ت�ضم أق�ساما علمية للنحو
وال�صرف؟ كيف له أن يتحدث عن ُ أزمة ومادة النحو تدر�س في
التعليم العام ؟ وكتب التب�سيط النحوي تكاد ال تنقطع عن ال�صدور؟
كيف له أن يتحدث عن أزمة والندوات والكرا�سي العلمية والمؤتمرات
تعقد دائما لمناق�شة الق�ضايا النحوية؟ . إنني ّ أعترف مقدما بأن
اعترا�ض هؤالء المعتر�ضين الواثقين من ت�صورهم للنحو العربي
بنوع من الم�شروعية.
4 .اختزال فكرة النحو العربي في نموذجه العلمي المتأخر إلى ما
جعله يفقد معنى تأ�سي�سه الأ�صلي كما هو في نموذجه العلمي المتقدم.
غير ّ أن هناك زاوية مميزة للنظر تعر�ضها الدرا�سة ؛ وهي
ّ علمية النحو العربي؛ ذلك »إن أزمة علم ما ال تعني �سوى ّ أن علميته
الحقة؛ أي الكيفية التي حدد بها مهمته، وأن�ش ّ أ بها منهجيته الكفيلة
)11 .)وهذا ما ق�صدته
بإنجاز هذه المهمة، أ�صبحت مو�ضع �سؤال«
الدرا�سة، وما انتهت إليه .
إن التحليل الذي أجراه الباحث دقيق، والت�شخي�ص و�صفي رائع
حتى ليجد المرء �صعوبة لكي ي�ضيف ّ إليه. وقد رتب على الو�صف
والتحليل ا�س ّ تنتاجات مبررة حتى ّإنها بدت لي مثمرة وجديرة
بالثقة. ، لكن رغم قيمة اال�ستنتاجات إالأنها تبقى غام�ضة من دون
تو�ضيح االنعطاف الحا�سم الذي أنجزه �سيبويه، وهو ما �سيحاول
هذا الهام�ش أن يقوم به لكي يو�سع فكرة الدرا�سة المده�شة.
�سأكتفي بهذه البداية التقريبية لو�صف الدرا�سة لأنتقل إلى ما
أريد أن أتحدث عنه هنا وهو التأ�سي�س الأ�صلي الذي يدعوه الباحث
النموذج العلمي عند النحويين المتقدمين . إن هدفي هنا هو أن
أوظف ما ي�سميه هو�سرل التد�شين؛ أي التأ�سي�س الأ�صلي أو الأول
)12 ،)فمن الممكن فهم معنى النماذج الأخرى حينما
لمو�ضوع ما
نفهم التأ�سي�س الأ�ص ُ لي الذي عادة ما ين�سى فعله الخالق.
5 .غائية المهن والمعنى الأ�صلي لمفهوم النحو العربي:
من الممكن أن أو�ضح ما يدور في ذهني بالرجوع إلى حكاية
الأعرابي الذي ح�ضر مجل�س الأخف�ش الذي يتحاور فيه مع بع�ض
أ�صحابه في النحو، فالتفت الأخف�شإلى الأعرابي وقال له: ما ت�سمع
يا أخا العرب. فقال الأعرابي: أراكم تتكلمون بكالمنا عن كالمنا
.)13(
بما لي�س من كالمنا
تقدم لنا هذه الحكاية - ُ إذا ما عرفت كيف أقرأها -
تو�ضيحات وإر�شادات في غاية الأهمية عن تأ�سي�س النموذج العلمي
عند النحويين القدامى، وعن ا�ستعاداته البعدية، وما إذا كانت
تلك اال�ستعادات قد ا�ستعادت التأ�سي�س الأ�صلي، أو أفرغت بع�ض
الم�ضامين أو أيقظتها وأعادت ت�شكيلها.
�سأورد هذا القول و�سيت�ضح فيما بعد �سبب إيراده . »لم يك
قبل الإ�سالم ما يحمل العرب على النظر إليه ) النحو ( فإنهم في
جاهليتهم غنيون عن تعرفه لأنهم كانوا ينطقون عن �سليقة جبلوا
عليها، فيتكلمون في �شؤونهم دون تعمل فكر، أو رعاية إلى قانون
كالمي يخ�ضعون له، قانونهم ملكتهم التي خلقت فيهم، ومعلمهم
.)14(
البيئة المحيطة بهم«
ماذا يعني هذا بالن�سبة للأعرابي الذي ح�ضر مجل�س الأخف�ش؟
يعني أنه يقف خارج العلم، وفي الحياة قبل العلمية )دون تعمل فكر
أو رعاية قانون كالمي(، ال يوجد في محيطه أ�شخا�ص يمتهنون
ّ النحو )غنيون عن تعرفه(، وال وجود لتقاليد نحوية منحدرة من
أ�شخا�ص نحويين يؤثرون فيه )معلمهم البيئة المحيطة بهم(.
ينتمي الأعرابي إلى مجتمع يأكل وي�شرب ويتنا�سل ويتكلم في
عالم غير علمي، وقبل علمي )قانونهم ملكتهم التي خلقت لهم(
ت�شترك في �صورته التقليدية، وفي نمطية و�ضعياته المألوفة كل
الذوات الفردية لجماعة النحن؛ أي نحن عائلتنا، نحن فخذنا،
.)15(
نحن قبيلتنا، نحن العرب
في المقابل يقف الأخف�ش داخل العلم، وفي الحياة العلمية،
ٍ وفي تقاليد علمية منحدرة من علماء أثروا فيه. أن يكون الأخف�ش
ً من علماء الطبقة الخام�سة في تاريخ النحاة فذلك يعني أنه
عالما
ينتمي إلى جماعة علمية تت�شكل من مجموع الفاعلين فيها، وأن يكون
ُ أن يخ�ضع
ً إلى جماعة علمية فذلك يعني ُ أن ي ُ ختار ويدمج و
منت�سبا
)16 .)والخال�صة »أن االمتثال النتظارات
لمو�ضوع مراقبة اجتماعية
الزمرة وتوقعاتها لي�س ثمرة رغبة الأفراد وحدها: ٍ إنه نتاج مران
على دور اجتماعي ي�سبق دخولنا الحياة المهنية، ونتاج �ضبط
.)17(
م�ستمر )دوزنة( لأبناء المؤ�س�سة العلمية بوا�سطة أنف�سهم«
ي�ستحق مفهوم »الحياة المهنية« أن أتوقف عنده لأ�سأل: لماذا ال
نعتبر النحو مهنة من المهن الجديدة التي تن�شأ بين مرحلة تاريخية
ُّسب ما
وأخرى؟. إن كون كتاب �سيبويه خرج إلى النا�س ب�سبب التك�
ُ إلى مهنة. يروى أن الجرمي والمازني ت�شاورا على أن يحيال
ي�شير
بين أ�ستاذهما الأخف�ش وبين كتاب �سيبويه الذي �ض ّن به بترغيبه
.)18(
في المال؛ إذ كان الجرمي ثريا فقرأه عليه
هناك أفكار مغرية في أن أتوقف عند المهنة؛ ذلك أن لكل
مهنة مهمة تخ�صها. ال يتعلق الأمر بمهمة يؤديها أفراد، إنما بمهمة
مترابطة في حياة اجتماعية، وعبر �سل�سلة من الأجيال والأزمنة
التاريخية. في البداية يعي �شخ�ص ما فكرة في �شكل تخمين لم
يتأكد بعد، ُ أو في �شعور لم ي َ�صغ بعد. قد تكون فكرته هو، وقد تكون فكرة آخرين تبناها واعتبرها فكرته. إن مجرد كونها فكرة إلى
ً؛ لأن الهدف
الآن؛ أي فكرة أولية أو م�شروع أولي ال تعطي أهدافا
ي�ضعه )الأنا( في فعل )أنا أريد( في )على هذا الهدف أن يتحقق(،
.)19(ً
ً جديا
وبف�ضل الإرادة )أنا أريد( ت�صبح الفكرة ق�صدا
يمكن أن نفهم في �ضوء هذا الحكاية التي تروي »أن �سيبويه
جاء إلى حماد بن �سلمة لكتابة الحديث، فا�ستملى منه قوله �صلى
اهلل عليه و�سلم: لي�س من أ�صحابي أحد إال ولو �شئت لأخذت عليه
ً لي�س أبا الدرداء. فقال �سيبويه: لي�س أبو الدرداء، ف�صاح حماد:
لحنت يا �سيبويه إنما هذا ا�ستثناء، فقال �س ِ يبويه: واهلل لأطلبن عْلما
.)20(
ال يلحنني معه أحد ثم م�ضى ولزم الخليل وغيره«
لقد و�ضع �سيبويه لنف�سه هدفا )أنا أريد( وأ�صبح أ�سير هدفه
)على هذا الهدف أن يتحقق( وبف�ضل إرادته )أنا أريد( أ�صبحت
ً كر�س له جهده ووقته ليتتلمذ على آخرين حتى
ً جديا
الفكرة ق�صدا
َّل َف أول كتاب في النحو العربي، وفي �ضوء هذا وبفكرة أ�شبه ما
َ
أ
تكون بفنتازيا يمكن أن نعلل ت�سمية )النحو( ألي�س الق�صد والإرادة
والهدف من الحقول الداللية لنحا ينحو ؟.
حينما ت�شير الحكاية إلى أن �سيبويه تتلمذ على الخليل وآخرين
فذلك يعني أن النحو العربي فكرة لمهمة واحدة متوارثة. يكفي أن
أ�ضع )النحو( محل )الفل�سفة( لكي يعبر هو�سرل عما أريد قوله
هنا. كتب »من �ضمن هذه الأفكار االعتقاد بأن النحو فكرة لمهمة
موحدة يتم توارثها با�ستمرار في مجرى التاريخ با�شتراك بين
الذوات، انبثقت في )التاريخ العربي( بف�ضل تد�شين قام به نحويون أوائل معنيون، رجال ر�سموا لأول مرة هذا الم�شروع الجديد تماما
الذي ي�سمى »النحو «، وجعلوا من تحقيقه مهنة لحياتهم، بذلك ن�شأ
إذن نوع جديد من »المهن« التي يعتبرها الح�س الم�شترك بالطبع
دون فائدة عملية، لكنها ترتبط، مثل المهن الأخرى، المهن اليدوية
مثال، بأن�شطة تمار�س في وقت المهنة، ويتم أي�ضا تناقلها في
�شكل اجتماعي ومن جيل إلى آخر. يتم تـناقل كل مهنة مع فكرتها
الغائية التي تحتفظ في مجرى التاريخ بوحدتها رغم كل التعديالت
التي تطر ً أ عليها، مثال مهما تغيرت مو�ضات الأحذية تبقى مهمة
.)21(
الإ�سكافي هي إنتاج الأحذية
تبدو فائدة هذا االقتبا�س الطويل إذا عرفنا أن �سيبويه جعل
كل الفكر النحوي ال�سابق عليه مجرد نوع من الإ�سهام في كتابه.
لقد جمع الح�صاد الكلي للنحو العربي الذي كان قبله، وتج�سم
في نموذجه العلمي أف�ضل ما عند العلماء الذين �سبقوه كالأخف�ش
الكبير والخليل ويون�س وأبي زيد وعي�سى بن عمر وأبي عمرو بن
العالء وغيرهم ممن مثلوا طبقات النحويين قبله .
لكن ونحن نذكر هؤالء ال يجب أن نظن أن �سيبويه كان مجرد
�شخ�ص انتـقى أف�ضل ما عند الآخرين، وح�شرها في كتابه. فعلى
ً أ�ص ً يال نما نموذجه العلمي
ً لغويا
العك�س من ذلك كان �سيبويه مفكرا
في فكر اللغويين ال�سابقين عليه �شأنه في ذلك �شأن النماذج العلمية
الكبرى .
وإذا كنت قد قارنت قبل قليل بين الفل�سفة عند الإغريق وبين
النحو عند العرب فإن �سيبويه ي�شبه أفالطون الذي ا�ستولى »على أفكار هيرقليط�س وبارمنيد�س و�سقراط لكنه لم يتركها كما وجدها،
لقد اعتبرها بذور تطور جديد ولقد كانت هي الأ�س�س الدفينة في
الأر�ض التي �شيد عليها �صرح الفل�سفة، وعلى يديه أ�صبح الفكر
.)22(
ً تحت نور مبدأ جديد وأ�صيل«
ال�سابق مو�ضوعا
6 .غاية مهنة النحوي مقارنة مع مهنة الأعرابي:
كيف أفهم أ�صل التقابل بين الأعرابي والأخف�ش في الحكاية
التي أوردتها أعاله؟ كيف أفهم التقابل بين الحياة قبل العلمية
وغير العلمية والحياة العلمية في العالم؟ كيف أفهم دوافع تد�شين
المهمة النحوية الذي )التد�شين( كان من ال�ضروري أن تن�شأ مهمة
النحوي من هذا التقابل؟.
ت�ستدعي الإجابة أن أحلل مهمة الأعرابي من حيث هو ينتمي
إلى الحياة قبل العلمية وغير العلمية، وتحليل مهمة الأخف�ش من
حيث هو ينتمي إلى الحياة العلمية.
قبل كل �شيء �سأتفح�ص ما هو عام من أجل أن أو�ضح ما هو
خا�ص؛ فمن المعروف أن اللغة العربية »لم تؤخذ عن ح�ضري قط،
وال عن �سكان البراري ممن كان ي�سكن أطراف بالدهم ل�سائر
خرج ب�سبب هذا قبائل كثيرة وبقي القليل من
ُ
)23 .)وقد أ
الأمم«
القبائل التي ينت�سب إليها الأعراب الذين امتهنوا في ع�صر التدوين
نقل اللغة وبيعها إلى اللغويين الأوائل .
إن مهنة الأعرابي هذه مثلها مثل أي مهنة أخرى في العالم،
ُ ق، وقد حققت من قبل عندما حدث التحول
ُ لها مهام قابلة لأن ت َّحق
الأول الذي أنجزه ّ أعرابي مجهول خطرت على باله فكرة موفقة،ومنذ ذلك الحين أ�صبح ال�سبيل �سالكا لأعراب آخرين، ومثل كل
المحاوالت الأولى لم ت�صل إلينا ق�صة التحول في نمط تفكير ذلك
.)24(
عتبر فيما بعد »طريق العلم الآمن«
ُ
الأعرابي الذي أ
توارث الأعراب هذه المهمة، وتوارثوا معها الكيفية التي يحققون
بها مهمتهم؛ أي الممار�سة المنهجية للتنفيذ. ذلك أن »تد�شين
المهن المعتادة يعني في الحقيقة م�سبقا توارث ابتكار، تم القيام
به �سابقا وحالفه التوفيق، عبر الأزمان في منهج يمكن تكراره كما
ً من جديد منتجات غائية يمكن
ن�شاء. هكذا تن�شأ في كل مهنة دائما
التعرف عليها با�شتراك بين الذوات، وبذلك تندرج دائما من جديد
في عالمنا المحيط. هكذا توجد فيه الآن مو�ضوعات نافعة تنتمي
ح�سب نوعها للمهن المختلفة المعهودة: أحذية، ألب�سة، منازل،.....
.)25(
إلخ«
ً
ٍ له وقته«. يعني هو�سرل بهذه العبارة أن أحدا
إن »كل اهتمام
ُّ
ً فإنه يعلق اهتماماته الأخرى
ّ ما حين يفعل اهتمامه، ويمار�سه فعليا
من غير ّ أن يغيبها تماما، إنما تكون موجودة؛ أي أن الأعرابي ومعه
الأخف�ش، ذلك الذي ينقل اللغة، وذلك الذي يتحدث بها وعنها
يعلقان اهتماماتهما الأخرى )أبوان، يعوالن أ�سرتين، ويربيان
أطفا ًال.. إلخ(، وهكذا يمكن القول إنه حان وقت الذي ينقل فيه
الأعرابي اللغة، والآن حان وقت الأخف�ش لكي يتحدث عن اللغة
باللغة بما لي�س في اللغة.
يتوفر كل �شيء من وجهة النظر هذه على وقته داخل الوقت
ُّ
،

ُّ
ال�شخ�صي للأعرابي والوقت ال�شخ�صي للأخف�ش ويتوفر كل �شيء
في الأوقات المهنية الأخرى التي تفر�ض نف�سها ك ِ أن يكونا مواطَنْين
وينتميان إلى مجتمع ما ولهما أدوارهما االجتماعية، غير أن هذا
كله ال يمنع بقاء مهنتيهما قائمتين؛ فالطبيعي هو أال يغير اهتمامهم
بأ�سرتيهما مثال من اهتمامهما بمهنتيهما التي ت�ستمر موجودة،
وكذلك ت�ستمر �صالحيتها.
إذا كان الأمر كذلك فمن المنا�سب أن أت�ساءل: أال ت�شبه اللغة
التي ينقلها الأعراب المو�ضوعات النافعة للمهن المختلفة؟ أي: أال
ت�شبه مو�ضوعات الأعرابي عند النحوي المو�ضوعات النافعة عند
الإ�سكافي والخياط؟ ألي�س الأمر بالن�سبة لمهمة النحوي أو النحو
ً لمهمة الأعرابي بكيفية حا�سمة؟ أال يكمن هنا، في معنى
مخالفا
ً؟.
ً مطلقا
النحو، في »مفهومه« تفردا
ً إلى هذه الأ�سئلة أ�ستطيع أن أقول: إن مهمة النحو، أو
ا�ستنادا
مهنة النحوي تتميز عن مهنة نقل اللغة وروايتها أو مهنة الأعرابي،
بل أكثر من ذلك أنها مهنة ال تندرج بب�ساطة في المهن كما يدل
على ذلك الحديث المتداول الذي يقابل بين »النظرية والممار�سة«.
وبالعودة إلى الأخف�ش يكمن المعنى التحليلي لمهمة النحو ومهنة
النحوي في إن�شاء معرفة تقابل معرفة أخرى كما هي معرفة
الأعرابي القائمة في حياته قبل العلمية وغير العلمية في العالم.
7 .البحث عن الطريق الآمنة لعلم النحو العربي:
تكاد تجمع الم�صادر على أن أبا الأ�سود الدؤلي هو »وا�ضع«
النحو العربي. غير أن »الو�ضع« المن�سوب لرجل واحد كأبي الأ�سود
الدؤلي ب�سبب ب�ضع �صفحات أ
لفهم عملية معقدة كن�شوء علم من العلوم ؛ ذلك أن ما يبرر القيمة
الحقيقة لو�ضع علم من العلوم في أي ع�صر من الع�صور لي�س العقل
الخا�ص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما للعقل الجماعي للعلماء؛
لذلك فم�شكلة ن�شأة النحو العربي ُ أ�شد تعقيدا مما ذكر في تلك
الم�صادر.
ومع ذلك، وكبداية للنقا�ش �سأنطلق من فكرة »و�ضع« أبي الأ�سود
الدؤلي ب�سبب ب�ضع �صفحات أثرت عنه تبدو بب�ساطة الكلمة »الخطأ« لفهم عملية معقدة كن�شوء علم من العلوم ؛ ذلك أن ما يبرر القيمة
الحقيقة لو�ضع علم من العلوم في أي ع�صر من الع�صور لي�س العقل
الخا�ص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما للعقل الجماعي للعلماء؛
لذلك فم�شكلة ن�شأة النحو العربي ُ أ�شد تعقيدا مما ذكر في تلك
الم�صادر.
ومع ذلك، وكبداية للنقا�ش �سأنطلق من فكرة »و�ضع« أبي الأ�سود
الدؤلي النحو. وال�سؤال الذي يعقب هذه الفكرة هو: هل وجد النحو
العربي طريق العلم الآمنة في »و�ضع« أبي الأ�سود الدؤلي؟. إنني
أ�سأل لأنبه القارئ إلى أن الدرب العلمي الآمن للنحو العربي هو
أهم ما كان ي�شغل تفكير الدكتور محمد ربيع الغامدي في درا�سته
المذكورة أعاله.
�سأبني حكمي على الربط الذي تورده الم�صادر ذاتها بين
»و�ضع« أبي الأ�سود الدؤلي النحو وبين �ضبطه الم�صحف بال�شكل؛
هذا الربط الذي ي�شير إلى أن أبحاثه ان�صرفت إلى أواخر كلمات
القرآن الكريم؛ وهو ما يعني أن القرآن الكريم كان في حاجة آنذاك
إلى ُ أن ي ّفكر فيه تحت الظرفين التاريخي والأيديولوجي، وقد ترتب
ً لم يجد بعد دربه الآمن .
على ذلك أن النحو بو�ص ِ فه عْلما
،ً
لكن على الرغم من خطأ الدرب إالأنه يبقى أبعد الدروب أثرا
ً ب�صفته بداية، ومن هذا المنظور فإن أبا الأ�سود الدؤلي
وأ�شدها وعدا
في تاريخ النحو العربي ي�شبه طالي�س المالطي في تاريخ الفل�سفة
اليونانية؛ إذا أنه عر�ض الم�شكلة، وحدد اتجاه وطابع النحو قبل
ْوَلَيان من مراحل النحو العربي
ُ
�سيبويه. وهكذا كانت المرحلتان الأ
من�صرفتين إلى أحوال أواخر الكلمات ومراعاة أحوال الأبنية. إن
أهمية أبي الأ�سود الدؤلي تكمن في أنه عر�ض الم�شكلة، الأنه أعطى
.)26(
أي حل عقلي لها
جاء بعد أبي الأ�سود الدؤلي آخرون قاموا بتح�ضيرات متعددة،
وإعدادات متنوعة كن�صر بن عا�صم، وعنب�سة الفيل، وعبد الرحمن
ً أخرى كعبداهلل بن
بن هرمز، ويحيى بن يعمر. وانتهج آخرون طرقا
أبي إ�سحاق الذي أخل�ص للتجريد، وعمل بالقيا�س، وكان أول من
علل النحو، والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي »ب�سط النحو، ومد
أطنابه، و�سّبب علله، وفتق معانيه، وأو�ضح الجدل فيه«.
ً كل البعد عن أن ينتهج
لكن إلى الآن ما زال النحو العربي بعيدا
درب العلم الآمنة، وكل المحاوالت والتح�ضيرات والإعدادات التي
وردت أعاله كانت أ�شبه ما تكون بالتخبط الع�شوائي.
8 .العثور على الطريق الآمنة للنحو العربي:
ً إلى
يحيل الدكتور محمد ربيع الغامدي في درا�سة الذكورة آنفا
بع�ض درا�ساته، وإلى درا�سات آخرين نظرت إلى نحو المتقدمين
على أنه معرفة لغوية؛ أي تحليل معرفة المتكلم لغته، وأن درا�ساتهم
بحثت في النظام الذهني عند الجماعة اللغوية التي تتحدث العربية؛
أي البحث في اللغة مقابل الكالم، وأن نظرة العلماء المتقدمين
أل�صق بالتنظير الل�ساني، وأكثر من ذلك أنها در�س ل�ساني تحليلي
في التركيب، ت�شبه النظرية الل�سانية المعا�صرة في بع�ض ق�ضاياها
الأ�سا�سية.
ً بأن ثمة
غير أن هذه الأفكار التي أحال إليها تـترك إح�سا�سا
ً لم يف�سر، أو أنه غير قابل للتف�سير كما يت�ضح في عموم
جانبا
التعبير »نحو المتقدمين«. لذلك ومن دون أن أرغب في أن أفر�ض
ً يمكن أن نالحظ أن ما قاله هؤالء
ً وجازما
ا�سما معينا يكون حا�سما
عن »نحو المتقدمين« ينطبق على كتاب �سيبويه، و�سأو�ضح في حدود
الإ�شارات التمهيدية لماذا اقترح �سيبويه وكتابه الكتاب.
1 - إذا عرفنا أن الخليل بن أحمد الفراهيدي أكمل ما بدأه
أبو الأ�سود الدؤلي من �شكل أواخر كلمات القرآن الكريم
بالعالمات المعروفة لنا الآن، وأن ن�صر بن عا�ص ّ م نقط كلمات
القرآن الكريم، فإن ذلك يعني للجو العلمي المتعلق بالنحو
ّ التخفف من ال�شرط التاريخي والأيديولوجي الذي دفع العلماء
قبل �سيبويه إلى ّ أن يتفكروا في القرآن الكريم؛ ذلك أن وظيفة
عمل هؤالء العملية والمجتمعية تفوق من حيث الأهمية وظيفته
.)27(
المعرفية )الوظيفة النظرية(
2 - يت�صل بما قلناه أعاله الفرق بين النظرية والممار�سة؛ ذلك
أن كل ما قيل قبل �سيبويه عن القيا�س وتعليل والنحو، وت�سْ بيب
علله إنما كان من أجل قراءة القرآن الكريم؛ أي الممار�سة،
ولي�س من أجل النظرية، والحكايات المعروفة التي نقلتها إلينا
الم�صادر عن عبداهلل بن أبي إ�س ّ حاق، وتتبعه �شعر الفرزدق
ي�شير إلى الممار�سة؛ أي قراءة ال�شعر من قبل النا�س، ال إلى النظرية.
رغم كل ما قيل عن غزارة علم العلماء قبل �سيبويه وال�سيما
)28)؛ أي ال�شكل الذي يجب أن تعر�ض
الخليل إال أن الإ�شكالية
ّ فيه الم�شكالت النحوية لم تتغير منذ أبي الأ�سود الدؤلي.
بعك�س �سيبويه الذي عر�ضها في أفق فكر ذلك الزمان والمكان؛
حيث كانت الب�صرة مفتوحة على الفكر العقلي اليوناني ب�سبب
الترجمات .
ن من قبل الالحقين، وت ّكيف مع الو�ضعيات
َّس ُ
بتكارات تح�
ُ
4 - إن اال
الجديدة؛ أي مع و�ضعيات الأزمنة الجديدة وحاجاتها
)29 .)يتعلق الأمر هنا بالأفق الفكري الذي عر�ض
الجديدة
فيه �سيبويه الم�شكالت النحوية. و ُ إذا ما وجد عند �سيبويه من
المفاهيم ما ي�شير إلى ما قبله من العلماء فإن �سيبويه مثله
مثل العلماء الكبار الذين ي�ستبقون ما هو جديد، وال ي�ستطيعون
أن يعبروا عنه لأنهم م�ضطرون إلى أن ي�ستخدموا مفاهيم ولغة
م�ستمدة من الإ�شكالية ال�سابقة عليهم .
أ�ستطيع أن أقول بعد هذا ّ إن �سيبويه وجد الدرب الآمن لعلم
النحو العربي. تكمن الثورة التي أحدثها في أنه ا�ستخدم العقل في
البحث عن النظام في اللغة العربية؛ أي أجبر اللغة على ّ أن تتبع
عقله، ولي�س على عقله هو ّ أن يتبعها. وبقدر ما كان هذا القلب
ّ محفزا بقدر ما كان إبداعا فكريا ويثبت ذلك كتابه الفريد من
نوعه بحيث إن نموذجا علميا ن�شأ معتمدا على توجهه عقلي.
في �ضوء مبدأ أن اللغة قابلة لأن تعرف؛ أي أنها تتيح للعقل
الإن�ساني أن يفهمها فإن اللغة لم تعد قابلة لأن تعرف بما كان يتحدث به ال�سلف، وهكذا ي�صبح موقف القائلين بأن النموذج العلمي الأول
ً غير منا�سب؛ لأنه ال يفي بالمراد العلمي
ً أ�سا�سا
للنحو ن�شأ تعليميا
للنحو.
9 .ن�أ�سي�س النموذج النحوي العربي الإر�شادي على درب العلم الآمنة:
يكمن الطريق الآمن لعلم النحو العربي الذي أ�س�سه �سيبويه في
كتابه في ا�ستخدام العقل في البحث عن النظام في اللغة العربية.
ين�شغل بما نقل عن العرب إال في حدود »اال�ستعمال الفر�ضي
ُ
فهو ال
ّم به لكي يعرف
للعقل«؛ أي من معرفة الجزئي ُ إلى الكلي الذي ي�سل
هل يقع الجزئي �ضمن الكلي، وبالتالي فما هو في حوزة العقل هو
)30 .)والفكرة الأ�سا�س وراء هذه
أن ي�سعى إلى تحقيق ن�سق المعرفة
العقالنية هي أن ا�ستعمال العقل يؤدي إلى معرفة تختلف نوعيا عن
أي معرفة أخرى.
خلدون في وارد حديثه عن علوم الل�سان العربي. يقول عن �سيبويه ّ جرى تلم�س - لي�س إال - م�ستويات كتاب �سيبويه من قبل ابن
لكل ما كتب فيها من ّ »فكمل تفاريعها )�صنعة النحو( وا�ستكثر من أدلتها و�شواهدها
ُ ً
وو�ضع فيها كتابه الم�شهور الذي �صار إماما
)31 .)وإذا ما غ�ض المرء الطرف عن المفاهيم الكال�سيكية
بعده«
التي تختزل المق�صود فإن هذه العبارة تحتفظ بحق التمهيد لما
ً المهنة والأعرابي والنحوي في
أريد أن أتوقف عنده م�ستح�ضرا
مقابل ال�صنعة وال�شاهد والو�ضع.
يح�ضر الأعرابي في الم�ستوى الأول من كتاب �سيبويه؛ أي
م�ستوى ال�شواهد؛ فهذه لي�ست النحو؛ إنما هي من جن�س الأ�شياء النافعة التي تح�ضر إلى الإ�سكافي أو النجار أو البناء، ويح�ضر
ُ
النحوي في الم�ستوى الثاني من كتاب �سيبويه؛ أي في م�ستوى و�ضع
الكتاب.
إن ال�شواهد التي نقلها الأعرابي لي�ست النحو إنما هي عظام
النحو - إن �صح هذا الت�شبيه - مثلما أن الجلد هو عظام الحذاء،
وال�صوف هو عظام الثوب، والحجر هو عظام البيت. هناك فرق
يكمن في اختالف مهنة الأعرابي عن مهنة النحوي مثلما تختلف
ّ مهنة الدباغ عن مهنة الإ�سكافي ومهنة ال�صّواف عن مهنة الخياط
ومهنة من يقتلع الح�صى وي�شذبها عن مهنة البناء .
تختلف مهنة النحوي عن مهنة الأعرابي، ويكمن االختالف
في قول الأعرابي الذي أوردناه من قبل وهو »يتحدثون بكالمنا عن
كالمنا بما لي�س من كالمنا«. بالفعل هذه هي مهنة النحوي مثلما
ج�سدها �سيبويه في الم�س ّ توى الثاني من كتابه الذي عبر عنه ابن
خلدون بو�ضع الكتاب.
تعني عبارة الأعرابي بلغة القدماء النقل المعرفي الذي يحول
الكلمات من معناها المعجمي إلى مفهوم . وهنا تكمن مهمة �سيبويه
في و�ضع الكتاب ، فهو يحلل ال�شواهد بهدوء العالم ال�شغوف بالمعرفة
والنظر؛ الذي يعرف أن اللغة مطبوعة بعقالنية غير واعية، ويعرف
أن العقل قادر على أن يظهر تلك العقالنية. ال يهتم بما إذا كانت
اللغة �ستف�سد أم ال لأنه يعرف أنها ت�صون نف�سها، ويمكنها أن تطور إمكاناتها الكامنة فيها.
.ت�أ�سي�س العلم القيا�سي النحوي:
بهذا أجرى �سيبويه تحوال جذريا أثار إعجاب العلماء القدامى
والمحدثين. و�سأكتفي بما قاله �صاعد الأندل�سي. قال »ال أعرف
ِّل َف في علم من العلوم قديمها وحديثها ا�شتمل على جميع
ُ
كتابا أ
ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثالثة كتب: أحدها
المج�سطي لبطليمو�س في علم هيئة الفلك، والثاني كتاب أر�سطو
طالي�س في علم المنطق، والثالث كتاب �سيبويه الب�صري النحوي،
فـإن كـل واحـد من هـذه لـم ي�شـذ عنه مـن أ�صـول فيـه �شـيء إال مـا
.)32(
ال خطر له«
ما الذي يهم مو�ضوعي في عبارة �صاعد الأندل�سي؟ من
المنظور الذي و�ضع فيه إيمانويل كانت علم المنطق منذ كتاب
أر�سطو طالي�س أ�ستطيع أن أرى النحو العربي منذ كتاب �سيبويه؛
ً لـ »كانت« فقد �سلك المنطق دروب العلم الآمنة ولم يحد عنها
فوفقا
ً بحذف بع�ض جزئياته أو
منذ أر�سطو طالي�س، و ُ أن ما عّد تح�سينا
ً أو�ضح إنما يعود إلى التـنميق أكثر مما يعود
بتعيين م�ضمونه تعيينا
إلى وثوق العلم، وأن علم المنطق من ذلك الوقت لم يتقدم خطوة
.)33(
لإحكامه وكماله
ومن المنظور الذي و�ضع فيه توما�س كون كتاب المج�سطي
لبطليمو�س أ�ستطيع أن أرى النحو العربي منذ كتاب �سيبويه. فقد
ً كان عجز هذا
ً، وأيا
ً إر�شاديا
جعل من نظرية بطليمو�س نموذجا
النموذج فيما بعد فإن مقارنتي هنا تـن�صب على النجاح والإعجاب
والكفاءة. وأكثر من ذلك أن نموذج �سيبويه الإر�شادي مثله مثل
نموذج بطليمو�س الإر�شادي وعد بنجاح يمكن ُ أن يـك�شف عنه في
عدد من الأمثلة التي ال تزال ناق�صة، وهو ما أبان عنه الدكتور
محمد ربيع في إحدى درا�ساته .
لقد �شعر العلماء القدامى بعظمة إنجاز �سيبويه. �سأكتفي هنا
بما قاله علمان بارزان هما ال�سيرافي والمازني. قال الأول »لم
)34 ،)وقال الآخر »من أراد أن يعمل كتابا
ي�سبقه إلى مثله أحد قبله«
)35 .)إن ت�سميته كتاب �سيبويه »بقرآن
في النحو بعد �سيبويه فلي�ستح«
)36 )لهي ت�سمية بالغة الداللة في هذا المقام حيث لم يحظ
القوم«
كتاب عربي بمثل هذا ال�شرف العظيم.
ترتب على هذا أن ك�سب إنجاز �سيبويه في الكتاب أن�صارا
دائمين من العلماء، وهو ك�سب �صرفهم عن ن�شاطات علمية أخرى
ً مناف�سه كلحن العامة ولحن الخا�صة على �سبيل المثال. وقد �ساعدهم
على ذلك أن كـتاب �سـيبويه - مثـله مثـل الكـتب التي بنت نموذجا
ً - رحب ومفتوح ال يدعي أنه القول الجامع المانع، إنما فتح
إر�شاديا
الباب لكل الم�شكالت النحوية في مرحلته العلمية لكي ت َ ـن َاق�ش من
ُ
قبل العلماء الم�شتغلين بعلم النحو في مفهومه الجديد.
ت�شكل ب�سبب هذا النموذج النحوي الإر�شادي ما ي�سميه توما�س
)37)؛ أي تنقية و�صقل النموذج الذي ي�شغل بال
كون »العلم القيا�سي«
العلماء، وينذرون له حياتهم العلمية . ُ إن ما روي عن ّ أن الفراء النحوي
)38)لذو داللة كبرى
المرموق من أنه مات وتحت رأ�سه كتاب �سيبويه
على أن توجيه الفراء البحث العلمي القيا�سي في النحو العربي كان
ُ في اتجاه الإبانة عن ما هو موجود في النموذج الإر�شادي الذي بني مع كتاب �سيبويه وب�سببه. وهو ما ي�شير ايضا الى المجاالت التي يكت�شفها العلم القيا�سي �صغيرة جدا ،لكن في المقابل هناك »إحكام النموذج وحل بع�ض مظاهر اللب�س المتبقية« وهو ما ينطبق على كتاب �سيبويه ونموذجه الإر�شادي.
11 .تمويه النموذج العلمي والدافع غير المفهوم لذلك التمويه:
ً أال ي�ستحدث العلم القيا�سي، أو ي�سلط ال�ضوء على
لي�س غريبا
ً أن يغفل
أي م�شكالت نحوية جديدة، بل وأكثر من ذلك أنه لي�س غريبا
ما ال يتالءم مع نموذجه الإر�شادي لأن هذا وذاك من طبيعة العلم
القيا�سي وأهدافه. ولتو�ضيح هذا الذي ي�سميه توما�س كون »البحث
)41� ،)سأقوم
القيا�سي؛ أي الأبحاث المرتكزة على نموذج إر�شادي«
بمراجعة لن�شاطات البحث القيا�سي كما يوردها ابن النديم في
.)42(
الفنين الأول والثاني من المقالة الثانية في كتابه الفهر�ست
ب�شكل عام يمكن أن أ�صنف ن�شاطات البحث القيا�سي للنحو
ُ إلى ما قبل ابن جني كما ي�ست�شف من عناوين
العربي بعد �سيبويه و
الكتب إلى ثـالثـة ن�شـاطات: 1 - ن�شاطـات تـتعلق با�سـتخدام
النـموذج في الحياة الواقعية، ويدخل في هذا النوع كتب لحن
ُ
العامة والخا�صة، وكتب تعليم النحو العربي ومداخله للمبتدئين.
2 - ن�شاطات تتعلق بال�شـرح، ويدخل في هذا النوع �شـرح الكـتب
وال�شواهد النحوية. 3 - ن�شاطات تتعلق باخت�صار الكتب النحوية.
على أن التثبت من هذا الت�صنيف يحتاج إلى مزيد من التدقيق، لكنه ير�سم ب�صورة أولية إطار علما لتلك النشاطات وفيما لو و�سعت مالحظاتي على هذا الت�صنيف فقد ترتب
عليه

ّم النحو َ إلى معتقدات لم ّ ن كونته علميا
1 - أف�ضت تعليم وتعل
ّم
تكونت هذه المعتقدات ب�سبب ما يمكن ُ أن ي�سمى »التعل
ً بعد يوم وب�شكل
الع�ضوي«؛ أي التعلم الذي ين�شأ ويتراكم يوما
ّم في أنه
)43 .)وتكمن خطورة هذا النوع من التعل
غير مق�صود
»بال بنية«؛ أي من دون ُ أن يخطط له مما ي�سمح لأيديولوجية
ّم .
المجتمع من أن تت�سلل إلى المتعل
ومن هنا فإن كتب النحو التعليمية التي تركز على نظام اللغة
العربية يمكن أن تعك�س ب�شكل غير مق�ص ّ ود تحيز المجتمع العربي
للغة العربية، وفي عملية ُ إنتاج هذا التحيز ينظر إلى اللحن على
أنه ف�ساد، وأن مهمة النحو العربي تكمن في محا�صرة ف�ساد اللغة
ّه.
العربية و�شل
2 - أف�ضت ن�شاطات ال�شرح ّ إلى اتهام مبطن للنحو العربي وللنحاة
بالغمو�ض. ولكي تو�ضح هذه ال�شروح الغمو�ض تحولت إلى
مو�سوعة ثقافية. ومما نعرف عن بع�ضها ثمة إحاالت إلى
ن�صو�ص في ال�شعر والأمثال والحكم والنوادر والأخبار والآيات،
وفي خ�ضم هذا كله ترد م�سائل النحو .
3 - أف�ضت ن�شاطات التلخي�ص إلى اتهام مبطن بالق�صور والجهل
فالملخ�ص إذ يتو�سط بين الكاتب وبين القارئ إنما يعتبر
ذاته أعلم منهما معا، فالقارئ قا�صر لأنه ال ي�ستطيع أن يقرأ
وي�ستوعب كل الكتاب، والمؤلف قا�صر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي ينا�سبها.
إن الملخ�صين وال�شارحين إذ يقيمون بين المؤلف والقارئ من
ً حيث هم و�سطاء يزعمون إنقاذ المؤلف من ت�شوهات وانحرافات.
ً تعليميا
وتكمن خطورة ال�شرح والتلخي�ص أن في أ�سا�سهما موقفا
ً«. فإن نلخ�ص ما كتبه الآخر يعني - أوال
ً »تأليفيا
أكثر منه موقفا
ً - إي�صاله إلى أكبر



  • إيماننا بجدوى ما كتبه كما يعنى - ثانيا
    ً - ت�سهيل در�سه
    قدر ممكن من النا�س، وبإمكاننا إ�ضافة - ثالثا
    وتح�صيله لت�س َّ ليم الملخ�ص ب َّ أهمية الملخ�ص أو ال�شارح بأهمية
    الكتاب الم�شروح.
    إذن أ�ستطيع الآن أن أطلق على ن�شاطات البحث القيا�سي وما
    ترتب عليه ظاهرة »الالأ�صالة« أو الثرثرة، وب�شيء من الت�سامح
    )44 .)ما حدث للنحو بعد
    تجاه هذا المفهوم المن�سوب إلى هايدجر
    �سيبويه أنه ا�ست�سلم ل�سلطة الالأ�صالة أو الثرثرة، وقد كان في حاجة
    إلى �شخ�صية علمية وكتاب أ�صيل لتعيد إلى النحو العربي أ�صالته؛
    ذلك أن العودة إلى الأ�شياء ذاتها هي أو ًال وقبل كل �شيء موجهة
    من قبل ظاهرة الالأ�صالة أو الثرثرة. هذه ال�شخ�صية العلمية هي
    أبو الفتح عثمان بن جني. والكتاب هو الخ�صائ�ص، وعنهما حديث
    آخر ربما تتاح لي الفر�صة لكي نعرف إلى أي حد ا�ستعاد ابن جني
    تأ�سي�س النحو ، ونجاحاته هو وكتابه وإخفاقاتهما.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

ثانيا: الحاجة ل...

ثانيا: الحاجة للتفكير النقدي يشير ريمون نيكرسون في مقالته المهمة لماذا نعلم التفكير ؟ إلى الأهمية ا...

[continues]: ع...

[continues]: على غير حقيقته فان هذا جهل فان هذا جهل مركب. فلو قال قائل مثلا التيمم لا يجوز. فهذا او...

ثم هو يوصى الخل...

ثم هو يوصى الخليفة بأن يغير حاشيته التي تسىء إليه، وهو يشير إلى هذه الحاشية بكلمة الصحابة : « ما رأي...

يمكن أن يتم است...

يمكن أن يتم استهداف هذه البيانات من قبل المتسللين للوصول إلى البيانات الحساسة المدفوعة بفرص الربح ال...

في الواقع، توجد...

في الواقع، توجد مثل هذه الدورات في بعض الأحيان. في بعض الحالات كان من الممكن إثبات مثل هذه التقلبات ...

تعد مصلحة المست...

تعد مصلحة المستخدمين المفتشية اإلقليمية للتجارة من الجهات الحكومية التي تلعب دو ًرا حيوًيا في تنظيم ...

الشعر وتطوّره 1...

الشعر وتطوّره 1 استمرار التقليد كان الشعر يجرى فى مصر فى أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على ا...

ظلت حركة الاستش...

ظلت حركة الاستشراق على امتداد تاريخها الطويل ترتقي مع كل مرحلة من مراحلها واتخذت خلالها العديد من ال...

عرفه العيني: "أ...

عرفه العيني: "أن يطلب من الصانع أن يصنع له شيئاً بثمن معلوم". لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم...

أهمية التدريب :...

أهمية التدريب : تحسين الأداء الحاضر، والتأهيل المسؤوليات اكبر في المستقبل، كما انه هدم بالنسبة للأف...

المقالة نوع من ...

المقالة نوع من الأدب، هي قطعة إنشائية، ذات طول معتدل تُكتب نثراً، وتهتمُّ بالمظاهر الخارجية للموضوع ...

Hospital inform...

Hospital information systems (HIS) have been used for decades around the world. Many hospitals in Sa...