خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة
ثورة بروكوبيوس ضد الإمبراطور فالنز ( دراسة تحليلية مفصلة لأحداثها الداخلية ) وقد زخر التاريخ بين طياته بالعديد من الثورات علي المستوي السياسي أو الاجتماعي أو العقائدي، ومحاولة تغييره أو طمسه بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، وغالبًا ما يدعم تلك الثورات طائفة من المناصرين الذين يخامرهم نفس الأمل ويلتقون حول نفس الهدف، تعد ثورة بروكوبيوس ضد الإمبراطور فالنز من أبرز وأشد القلاقل الداخلية التي جابهت ذلك الإمبراطور عام ٣٦٥ م ، بل ولازمته طوال فترة حكمه للإمبراطورية البيزنطية، وهى ثورة بروكوبيوس في القسطنطينية ٣٦٥ - ٣٦٦م وأثارها على مصر، تناولت تأثير تلك الثورة على الجانب الخارجي مركزاً دائرة الضوء على هذا الجانب وخاصة أثرها على الولايات الأخرى وخاصة ولاية مصر التابعة للدولة البيزنطية وقد تجمعت لها عدة عوامل كتبت لها ذلك التوفيق بداية، واستمالت تلك الصلة عددًا كبيرًا من أطياف المجتمع الإمبراطوري والتي ينشد ولاؤها دومًا أصحاب الدم الملكي. أن صلة بروكوبيوس بالإمبراطور جوليان قد استقطبت الكثير من العناصر العسكرية، بيد أنه وجد عامل آخر مهد النجاح أمام حركة بروكوبيوس تمثل في تدني شعبية فالنز بسبب ضآلة خبرته في إدارة تلك الإمبراطورية الشاسعة، وعلاقاته بالأباطرة السابقين لفالنز، فقد كانت الدافع القوي لتكوينه السياسي، وهيكلة صورته بسمات خاصة سنلمحها من خلال حركته التمردية ضد فالنز. كان فالنز (۱) ضابطًا في جيش الإمبراطورية، فعقب وقاة الإمبراطور اجتمعت كلمة قادة الكتائب على اختيار فالنتينيان الأول Valentinian I ( ) ( ٤ - ٣٥ م ) إمبراطورًا خلفًا لجوفيان، وفي السادس والعشرين من شهر فبراير ٣٦٤م (٥) يصير فالنتينيان إمبراطورًا للدولة الرومانية، ونظرًا لما كان يحيط مساحاتها الشاسعة من تهديدات تمس حدودها ارتأي فالنتينيان تنصيب أخيه فالنز كشريك له في إدارة الإمبراطورية وحكمها في الثامن والعشرين من مارس عام ٣٦٤م ولم يمر سوى شهر علي تسلمه الحكم، وذلك ليتسنى له إحكام السيطرة علي الإمبراطورية مترامية الأطراف (٦) ومن ثم قسمت الإمبراطورية بين الأخوين ليتولى فالنتينيان حكم أقاليمها الغربية، بينما يحكم فالنز الجانب الشرقي من الإمبراطورية ( ٣٦٤ - ٣٧٨م ) طيلة أربعة عشر عامًا (۷) ، ومن هنا بزغ نجمه السياسي ومهد له طريق الحكم. أنه علي أن السياسة القمعية والتعسفية التي انتهجها فالنز سببت له القلاقل والمتاعب الجمة، فلم يحظ بالاستقرار الذي ينشده كل من يجلس علي سدة الحكم ، فقد كان يبطش بكل من يشك في ولائه الشخصي في تلك البقعة التي تقع تحت سلطته، ويبدو أن الأمر يرجع في كثير إلي تكوين فالنز النفسي. بيد يبرز علي الساحة عامل آخر مَثْلَ معول هدم لحكم فالنز تمثل في والد زوجته ألبيادومنيكا Albiadomnica المدعو بترونيوس Petronius ) ، والذي مثل القبضة الموجهة نحو رعايا الإمبراطورية، دمیم الشكل والمظهر، مما كان له بالغ الأثر في مكونه السلوكي فاتسمت تصرفاته بطابع العنف، مضافا إليها غرامات التأخير وتعويضاتها التي قد تصل إلي أربعة أضعاف أصل الدين (۹) . فكراهية الشعب البترونيوس استتبعت بغضهم لفالنز باعتبار أن بترونيوس مخلبه الموجه نحوهم، بل وتدمير سياسته، فالنز. على أن العوامل السابقة لم تكن وحدها المتسببة في شقوط شعبية فالنز ونجاح ثورة بروكوبيوس في البداية، فقد انضم إليها عامل آخر هو اعتقاده القوي في أعمال الكهانة، وإيمانه الشديد بقدرات إحدى الكاهنات في قرءاة الطالع واستقراء الغيب، وأن هذا الشخص سيقوم بثورة ضده ويحكم الإمبراطورية بدلا عنه. فقام فالنز بإعدام العديد من الشخصيات التي يبدأ اسمهم بهذا الحرف (۱۱) فأضيف لسياسته القمعية هوس بالشعوذة، يرحم مطلقًا أثناء غضبه وكانت مقولته الشهيرة " من يرفع الغضب سريعًا يمكنه أن يضع العدالة جانبًا " (١٢). ويرجع ولعل السبب الرئيسي لتفلت الأمور من يد فالنز عدم امتلاكه للميزان المعنوي الذي يقيس به كل سياسي قراراته قبل خروجها لحيز التنفيذ هذا الميزان الدقيق الذي يعد المرجع الأساسي لحساب كل كبيرة وصغيرة من الأوضاع السياسية ومعرفة تأثير قراراته علي المدي القريب والبعيد وعلي مجمل الاتجاهات (۱۳). وتعرضه - فضلًا عن القلاقل الداخلية - لمشاكل خارجية من جانب الفرس الذي نقضوا هدنتهم مع الإمبراطور جوفيان في يونيو عام ٣٦٣م (١٤) ، وقاموا بالتوغل إلي بعض أقاليم الإمبراطورية واستولوا علي نصيبين، ثانيهما التقدم لصد الزحف الفارسي وإيقافه (١٥). أما عن بروكوبيوس (١٦) الذي قاد حركة التمرد ضد فالنز، ثم أسندت إليه مهمة ترتيب الكونتات (۱۸) وتوزيع اختصاصاتها، ويكون مصدر إزعاج نظرًا لطموح بروكوبيوس لارتقاء أعلى المناصب (۱۹). لتأمين جناح جيش الإمبراطور، بالإضافة إلى الانقضاض على الجيش الفارسي من الخلف متى سنحت الفرصة لذلك، وقد نجح بروكوبيوس في إتمام المهمة الموكلة إليه على أكمل وجه مدافعا عن منطقة ما بين النهرين، وهنا استقبلهم بحفاوة بالغة نظرًا لنجاحهم الكبير فيما أوكل إليهم من مهام (۲۲) فلما بوغت الجميع بمقتل الإمبراطور أثناء تلك الحملة، أسند إعلان هذا النبأ الخطير لكل من بروكوبيوس والتربيون ميمورديوس Memoridus اللذين أعلنا هذا الخبر في الليريكوم Illyricum (۲۳) وبلاد الغال Gaul وهنا تم إعلان جوفيان إمبراطورًا للدولة (٢٤). وذلك في أواخر عام ٣٦٣م (٢٦) . بروز دور بروكوبيوس وبداية الثورة :- فقد كان الطابع قطاعات الجيش بديلاً عنه، نحو التمرد (۲۸). وتمثلت فيما يلي: تمثل الدافع الأول في صلة القرابة التي كانت منعقدة بينه وبين الإمبراطور جوليان من جهة الأم، متفوقًا على خصمه، وجعله يستشعر أن دماءه أكثر ملكية من فالنز (۳۰). أما الدافع الثاني فقد وجد زعم قوي بأن جوليان قد قام بترشيح بروكوبيوس ليخلفه على عرش الإمبراطورية قبيل حملته على بلاد فارس في الوقت الذي اصطف فيه بروكوبيوس علي حدود بلاد ما بين فارس قد ضعفت أو أصابني مكروه أو أدركني الموت، إمبراطورًا (۳۱). وقد أكد بعض الشهود أن الإمبراطور جوليان قد سمي اسم بركوبيوس وهو في النزع الأخير كذلك أنه لم يقتصر أمر سماع تلك الوصية علي بروكوبيوس بل وجد شهود عيان آخرون قد استمعوا إلى ما أوصى به جوليان. تمثل الدافع الثالث في أن بروكوبيوس حين توجه بصحبة سيباستيانوس من خلال أديابين Adiabene (۳۳) لتأمين بلاد ما بين النهرين، وقبل اتخاذه الطريق المغاير لتحرك الإمبراطور، لكن ما يعنينا من الأمر كون جوليان قد منح هي أن " ثورة بروكوبيوس " قد قامت بالفعل. إلا أن ما يدعو للدهشة والعجب أن تلك الثورة لم توجه ضد جوفيان الذي تولي سدة الحكم عقب موت جوليان، رأى في نفسه أنه أحق وأولى منه بالوصول إلي العرش بناءًا علي وصية جوليان كما سبق وادعى مما يجرنا نحو تساؤل آخر هو لِمَ لَمْ يبادر بروكوبيوس بالإطاحة بجوفيان ليحل مكانه علي وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من استقراء الأحداث التي سبقت ثورة بروكوبيوس، فبمجرد ومعربًا له مما يوضح عدم وجود أدنى إشارة أو ظهور نية من قبل بروكوبيوس للتطلع لعرش ورئيس أمناء السر، والذي ارتأى المحيطون فما كان من الإمبراطور جوفيان إلا أن أمر بالقبض عليه، ثم ألقى فوقه كومة من الحجارة حتي لقى بيد أننا لا نستطيع أن نجزم بأن التخوف من بطش جوفيان هو السبب الحقيقي وراء عزوف جوفيان بين جنوده، بل هم من رفعوه ليرتقي سدة هذا العرش، فلو تبادر لذهن بروكوبيوس القيام بثورة ويبدو أن الوضع كان منقلبًا بالنسبة لبروكوبيوس آنذاك، فهو الذي كان متخوفا من أن ينقلب عليه جوفيان إذا ما تبادر لعلمه ما كان من رغبة الإمبراطور الراحل جوليان في تولية بروكوبيوس عرش ومن ثم طلب من جوفيان إعفاءه من قسمه العسكري، مع السماح مقررًا الإقامة بممتلكاته الخاصة في وتم إرسال من يلقى القبض عليه، فل تجارية (٤٥). وقد تم إدراك هذا الأمر من لسان ستراتجيوس ذاته عندما أجريت التحقيقات مع المتواطئين بالتنظيم السري الذي أنشأه وكان علي استعداد للوثوب دفعة واحدة لدى رؤية أي شخص يريد الانقضاض عليه " (٤٨). الملائمة للانقضاض والثورة حين يتسنى له ذلك. وحين ارتأى بروكوبيوس أن الظروف قد سنحت توجه نحو القسطنطينية ليفجر ثورته ضد خاصة مع وجود فالنز على لمآس كثيرة ومؤلمة فلو كتب عليه الموت جراء ثورته فسيكون أكثر رحمة مما تعرض له من آلام (٤). ثم مثل هذا الدافع المبرر الأقوي لتمرده، إضافة لتولي فالنز عرش الإمبراطورية الشرقية. كان فالنز مشغولاً بتأمين الحدود، وفي نفس الوقت كان القوط يعدون وما أن نما لعلمه ذلك الخبر ، وأمر بتعزيزات كافية لسلاح الفرسان والمشاة لتدعيم الدفاعات عن الحدود الدانوبية (٥٢). وفيلق ووفقًا للعرف السائد فإنهم سيتوقفون لمدة يومين بالقسطنطينية أثناء تحركهم إلي وجهتهم المعلومة، وهنا قرر بروكوبيوس استغلال تلك الفرصة في إغواء بعض القادة ممن يثق في عدم انشقاقهم عليه وليقتصر على تلك الفئة القليلة فقط، فقد كان باعتقاده أنه من الآمن " الاعتماد على أمانة القلة أفضل، آنذاك الاعتماد على قلة من الضباط من ذوي الثقة فحسب. 00) وأمام تلك المكافات فكان لابد من استكمال الأمر بمقابلة هؤلاء، وعند لقاء بروكوبيوس بهم تم التأكيد على ما قطع من وعود إلا أن الأمر كان مغايرا حين التقي بالجنود المرتزقة ، فعلى الرغم من تعامله معهم باحترام كبير إلا أن البعض منهم قاموا باحتجازه (۸) حتى يتحققوا تمامًا من تلك المكاسب التي سيحصلون عليها حيال انضمامهم لحركته (٥٩) ، فقد كان العنصر المادي هو المحرك الأساسي والمعيار الأكثر أهمية في التحكم في توجهاتهم. وبعد اطمئنانه بأن خيوط اللعبة السياسية بين قبضته إذ به يعلن نفسه إمبراطورًا للدولة الرومانية الشرقية، يذهب بقوله: " (٦٢)، فقد كان يرتدي حذاءًا بنفسجيًا بقدميه حاملًا في يده اليمنى قطعة صغيرة من القماش الأرجواني إضافة إلي حمله لرمح (۱۳)، فبدا أمام الحضور بصورة ممثل من الدرجة الثانية يقوم بتجسيد مشهد درامي وقد ظهر فجأة علي المسرح (٦٤) ، وقد دخل حزن عميق إلي نفوس الجنود حين تم رشقهم بالحجارة من أسطح المنازل التي أحاطت بمسيرتهم (٦٦). وجد بعض من عامة الناس الذين لم يظهروا أي امتعاض أو نفور من تأييد ثورة بروكوبيوس، بل وجدوا فيه أملهم المنشود الذي سيخلصهم من بترونيوس – حمي فالنز – تلك الشخصية البغيضة على قلوبهم، فقاموا بتأييد هذه الثورة، ونظرًا لانعدام شعبية فالنز بين جموع المواطنين، وهو أوجنيوس (٦٨) فاستقطبه لتزويده بما يلزمه من أموال تعينه على تقديم الرشاوي لحراس البلاط التي تتألف من جحافل عسكرية وعبيد مسلحين لتدعيم قبضة بروكوبيوس في القسطنطينية (٦٩). Eugnius وفي تلك اللحظة يصعد بروكوبيوس إلى البلاط الإمبراطوري ويخطب في الناس خطبة قصيرة بصوت هادئ منكسر ، متحدثًا فيها عن علاقته بالعائلة الإمبراطورية، وبأنه لقرابته بها أحق بالعرش من فالنز. وقوبلت خطبته بداية بتصفيق باهت من قبل شيعته التي تمت رشوتها وشراء ولائهم، أما عن الطبقة ذات الأحوال المضطربة فقد قابلت خطبته بعاصفة من التصفيق الحار وقد رحبوا به وتقبلوه إمبراطورًا عليهم ثم توجه بروكوبيوس في خطوة لاحقة إلى مجلس السناتو الذي خلا من وجود أي نفر من النبلاء، وما لبثوا أن انضموا جميعًا لحزب بروكوبيوس سواء عن طيب خاطر أو عن طريق شراء ولاءهم بالمال، إلا أن فريق منهم سئم الوضع مفضلا الفرار والانضمام لمعسكر فالنز (۷۱). ومن تعاقب تلك الأحداث كان صفرنيوس Sahronius(۲) ، الذي كان يشغل منصب سكرتير الإمبراطور فالنز فقد توجه نحو معسكره لينبأه بكل الأحداث. Vo) أراد بروكوبيوس تدعيم مركزه بأسرع وقت، ففي الوقت الذي كان فالنز يمضي قدمًا بأقصى سرعة ليصل القسطنطينية لجأ بروكوبيوس لحيلة بارعة بواسطة مبعوثيه حين تظاهر بعضهم بمجيئه من بلاد الشرق والبعض الآخر تظاهر بقدومه من بلاد الغال لإيهام أتباع فالنز باتساع نفوذ ثورة بروكوبيوس (۷۷)، وتشتعل الخطة أكثر حين أشاع هؤلاء النفر أن الإمبراطور فالنتينيان قد توفى، وبذلك تسقط شرعية فالنز المعين من قبله ، ومن ثم أصبح الطريق ممهدًا أمام بروكوبيوس لاعتلاء العرش دون منازع (۷۸). ولعل الهدف من هذه الحيلة تمثل في نزع رداء شرعية الحكم عن فالنز الذي اكتسبها في الأساس من تنصيب فالنتينيان له فبموته تسقط تلك الشرعية الممنوحة له حيث كان فالنز يحكم نيابة عنه، وفي تلك الحالة لن يوجد ممانع لتولي بروكوبيوس زمام الأمور والرضوخ للأمر الواقع. مع إقصاء كل من تولاها فترة حكم فالنز، كما تم إيداع قيصريوس Cassarius حاكم القسطنطينية السجن أيضًا، كما أصبح يوفراسيوس Euphrasius سيدًا للمناصب (كبير) المسئولين الإداريين، الكفاءة مما أحدث كثيرًا من التجاوزات، فنجد الوساطات تلعب لعبتها في تعيين الأشخاص بالمناصب الهامة مثل تعيين أراكسوس Araxius بناء علي توصية من صهره أجيلو، للظفر ببعض الوظائف (۸۲) ، مما يؤثر بشدة علي أداء الوظائف بتلك الحكومة الناشئة، كما يؤثر بالسلب علي الرعية التي تجد من يصلون إلى مناصب خطيرة لمجرد طموحات هوجاء، بل وقد يصل الأمر بالحكم عليهم بالنفي أو الموت (۸۳). أراد بروكوبيوس التأكيد على شرعيته في الحكم، فقام في مرحلة مبكرة بصك بعض العملات وقد ابتغي بروكوبيوس تحقيق التفوق العسكري على فالنز، وقد كان بروكوبيوس على دراية كبيرة بالقوة الفعالة في قوات فالنز والتي كان يقودها يوليوس Julius في تراقيا، فأخذ يدبر لخدعة فعالة يتم بها استدراج يوليوس إلي القسطنطينية مع فرقته العسكرية، وابتلع يوليوس الطعم وتوجه لنحو القسطنطينية ليتم احتجازه وكافة فرقته، وكانت الخطوة التالية هي إنشاء جيش منظم وقوة عسكرية كافية، على أن هذه الخطوة قد تمت له في يسر حيث استطاع تجميع فئات من الفرسان والمشاة كانت تمر عبر تراقيا، واعدين إياه بالدفاع عنه بكل ولاء واستماتة، وبذلك أقروا ببروكوبيوس وسعي بروكوبيوس وراء كل وسيلة تدعم شرعيته فظهر أمام حشود الجماهير حاملًا الطفلة " بما يوحي بكونه الأجدر بعرش الإمبراطورية، وكونه الوريث الشرعي لسلالة قسطنطين العظيم (۸۹) ، حيث يمت بصلة قرابة للإمبراطور جوليان المرتد، موضحًا أن كل من فالنتينيان وفالنز لا يستحقان أن يصيرا أباطرة حيث لا ينتميان بأي صلة لسلالة قنسطنطين الملكية، وأراد بروكوبيوس في سبيل ترسيخ شرعيته إرسال بعض من مبعوثيه إلي الليريكوم، أغبياء متهورين " ومكشوفة أثارت حفيظة رجال فالنز، فلابد لمن يكون مبعوثًا في مهمة مثل تلك أن يمتلك مقومات شخصية تتسم بالحصافة والحيطة وحسن التعامل مع الحدث، لكن هؤلاء النفر سيطر عليهم شعور التباهي والأهمية لذواتهم فأخذوا في توزيع العملات الذهبية في زهو زائف دون مراعاة الاحتياطات الاحترازية في مثل تلك المواقف حتي لا يثيروا حفيظة القائمين علي المدينة، فقام أيكيوتيوس بقطع كل طرق الممرات التي تصل بين الشرق والغرب (14)، وثانيًا عن طريق سوتشي Succi (٩٦) ، أما الثالثة من خلال مقدونيا في المنطقة المعروفة باسم أكونتسيما contisma (۹) ، المواجهة بين بروكوبيوس وفالنز : لم يكن فقدان فالنز لعرش الإمبراطورية بالأمر الهين أو ما يمكن أن يمر مرور الكرام دون رد فعل، فاستعاد رابطة جأشه، إلا أن تقدمه كان مشوبًا بكثير من مشاعر القلق واليأس، حتى أنه فكر في لحظة من اللحظات في التخلص من عبء هذا الأمر والتخلي عن كرسي العرش، نرى في مشاعر الإحباط واليأس التي سيطرت على فالنز تعود في الأساس إلي جملة الضربات التي وجهها إليه خصمه علي المستوي العسكري من هجومه الخاطف علي القسطنطينية، وعلى المستوي السياسي في استقطابه للقادة وللرجال ذوي الكفاءات واستغلاله لمنصبه وصداقاته السابقة، واتكائه على سند من نبل أرستقراطي يجذب إليه جموع العامة، بل وكاد أن يلقي الأمر برمته ويرفع راية الاستسلام لولا حرص أتباعه على أنفسهم من قبله فهم من سيطاح برؤسهم إذا ما تم الأمر لبروكوبيوس فاستماتوا لرده إلى صوابه. بادر من فوره بالتحرك مصطحبًا فيلق ديفيتنسيس Divitenses يخالطه المجموعة التي استقطبها من جيش فالنز وضمها إلي صفوفه، فاتجه نحو ماجديوس Mygdus (۱) ، اندفع بروكوبيوس من بين الصفوف وأشار بذراعيه إلى أحد قادة جيش فالنز الذي يدعى فيتاليانوس، فإذ ببروكوبيوس يمد ذراعه لتحيته، كلا الجيشين ينظر في ذهول لهذا الأمر (۱۰۱) . وفي رأينا أن ما فعله بروكوبيوس إنما من قبل المناورة، فالحرب خدعة، وهو الأمر الي يأمله بروكوبيوس. بذل بركوبيوس أقصي قوته لإغواء قادة الفيالق التي تتصدر الجبهة كي تحول ولائها نحوه ، هل هذه نهاية الإخلاص للجيوش الرومانية، والأيمان التي تقسم تحت التزمات الدين ؟ هل قرر الرجال البواسل استخدام سيوفهم ضد الغرباء ؟ وأن بانونيا المتدهورة يجب أن تقوض ، (۱۰۲) وتزعج كل شئ ، وبالتالي يتمتع بقوة سيادية لم يغامر بتصويرها لنفسه في صلاته، اتبع بالأحري سباق أمرائك النبلاء الذين هم الآن في السلاح، وليس مع وجهة نظر الاستيلاء على ما ينتمي إليها، وقد تم الترويج من خلال هذا الخطاب الذي يوصف بالاسترضائي أو المحفز لأولئك النفر الذين أتوا بنية القتال فما لبث أن ظهر أثر مردوده باندفاع أعداد غفيرة من جيش فالنز نحو جيش بروكوبيوس منضمين إليه من تلقاء أنفسهم، ورافقوه إلى معسكره (۱۰۳). بل ويقودهم في غمار المعارك، كما استنكر أن تصير بانونيا مقرًا لحكم فالنز،
علي أن السياسة القمعية والتعسفية التي انتهجها فالنز سببت له القلاقل والمتاعب الجمة، فلم يحظ بالاستقرار الذي ينشده كل من يجلس علي سدة الحكم ، فقد كان يبطش بكل من يشك في ولائه الشخصي في تلك البقعة التي تقع تحت سلطته، ويبدو أن الأمر يرجع في كثير إلي تكوين فالنز النفسي. بيد يبرز علي الساحة عامل آخر مَثْلَ معول هدم لحكم فالنز تمثل في والد زوجته ألبيادومنيكا Albiadomnica المدعو بترونيوس Petronius ) ، والذي مثل القبضة الموجهة نحو رعايا الإمبراطورية، وقد أثرت جملة من العوامل علي تلك الشخصية، فقد كان معدومًا من جمال الخلقة، دمیم الشكل والمظهر، مما كان له بالغ الأثر في مكونه السلوكي فاتسمت تصرفاته بطابع العنف، والتفنن في تعذيب كل من يوجه إليه إدانة سواء كان مذنبًا أو برئ منها. ومن هنا كرهته كل طوائف الشعب بكل فئاتها، ووصل بتعسفه أن طالب الأهالي بالديون المستحقة عليهم منذ عهد الإمبراطور أورليان ( ٢٧٠ - ٢٧٥ م )، مضافا إليها غرامات التأخير وتعويضاتها التي قد تصل إلي أربعة أضعاف أصل الدين (۹) . والجدير بالذكر أن تصرفات بترونيوس قد أثرت بالسلب على توجهات فالنز، فكراهية الشعب البترونيوس استتبعت بغضهم لفالنز باعتبار أن بترونيوس مخلبه الموجه نحوهم، مما ساهم في إسقاط شعبية فالنز لدى العامة، بل وتدمير سياسته، ومن ثم قدمت تلك الأعمال - علي طبق من ذهب - الدافع الأساسي للحراك الثوري لبروكبيوس للقيام بثورته ضد
فالنز.
على أن العوامل السابقة لم تكن وحدها المتسببة في شقوط شعبية فالنز ونجاح ثورة بروكوبيوس في البداية، فقد انضم إليها عامل آخر هو اعتقاده القوي في أعمال الكهانة، وإيمانه الشديد بقدرات إحدى الكاهنات في قرءاة الطالع واستقراء الغيب، فقد أو عزت إليه تلك الكاهنة بأن هناك من سيثور ضد حكمه، هذا الشخص يبدأ اسمه بحرف ثيتا Theta ) الحرف الثامن بالأبجدية اليونانية) (۱۰)، وأن هذا الشخص سيقوم بثورة ضده ويحكم الإمبراطورية بدلا عنه. فقام فالنز بإعدام العديد من الشخصيات التي يبدأ اسمهم بهذا الحرف (۱۱) فأضيف لسياسته القمعية هوس بالشعوذة، وفي ذلك دلالة بينة علي قسوة فالنز، فلم يكن
يرحم
مطلقًا أثناء غضبه وكانت مقولته الشهيرة " من يرفع الغضب سريعًا يمكنه أن يضع العدالة جانبًا " (١٢). ويمكن أن نعوّل بالقول بأن فالنز بعد فترة حكمه التي استمرت طيلة ثلاثة عشر عامًا وأربعة أشهر قد استحق تلك النهاية التي هلك بها.
ويرجع
ولعل السبب الرئيسي لتفلت الأمور من يد فالنز عدم امتلاكه للميزان المعنوي الذي يقيس به كل سياسي قراراته قبل خروجها لحيز التنفيذ هذا الميزان الدقيق الذي يعد المرجع الأساسي لحساب كل كبيرة وصغيرة من الأوضاع السياسية ومعرفة تأثير قراراته علي المدي القريب والبعيد وعلي مجمل الاتجاهات (۱۳). ذلك لخمول شخصية فالنز وعدم امتلاكه طموح من يبحث ويجاهد للإرتقاء، حيث وصل إلي سدة الحكم بطريقة مفاجئة وسريعة، وتعرضه - فضلًا عن القلاقل الداخلية - لمشاكل خارجية من جانب الفرس الذي نقضوا هدنتهم مع الإمبراطور جوفيان في يونيو عام ٣٦٣م (١٤) ، وقاموا بالتوغل إلي بعض أقاليم الإمبراطورية واستولوا علي نصيبين، فلزم فالنز أمران، أولهما تهدئة الأحوال الداخلية، ثانيهما التقدم لصد الزحف الفارسي وإيقافه (١٥).
أما عن بروكوبيوس (١٦) الذي قاد حركة التمرد ضد فالنز، فكان ينحدر من أصول عظيمة وعائلة جذورها تمتد بصلة قرابة للإمبراطور جوليان المرتد من جهة الأم، تلك القرابة التي ساعدته في الارتقاء من منصب إلى منصب أعلى بدولة الإمبراطورية منذ عهد الإمبراطور قسطنطيوس الثاني Constantius II (٣٣٧ - ٣٦١م) حيث شغل بروكوبيوس منصب سكرتير أو أمين، سر (۱۷)، ثم ارتقى إلي رتبة قائد في الجيش وعزي ذلك لتميز خدماته أثناء الحروب التي خاضها مع جوليان، ثم أسندت إليه مهمة ترتيب الكونتات (۱۸) وتوزيع اختصاصاتها، ومن هنا ازدادت قوته خطورة ليمثل شوكة قوية في حلق فالنز، ويكون مصدر إزعاج
للسلام العام في الإمبراطورية الرومانية، نظرًا لطموح بروكوبيوس لارتقاء أعلى المناصب (۱۹).
ولما انطلق الإمبراطور جوليان في حملته الفارسية ربيع عام ٣٦٣م (٢٠) أصدر لبروكوبيوس وزميله سيباستيانوس Sebastianus (۲۱) تعليمات باصطفاف قواتهما على طول القطاع الشمالي لحدود بلاد ما بين النهرين، لتأمين جناح جيش الإمبراطور، بالإضافة إلى الانقضاض على الجيش الفارسي من الخلف متى سنحت الفرصة لذلك، وقد نجح بروكوبيوس في إتمام المهمة الموكلة إليه على أكمل وجه مدافعا عن منطقة ما بين النهرين، ثم انضم بمن معه من الجنود إلي كتائب جيش الإمبراطور جوليان. وهنا استقبلهم بحفاوة بالغة نظرًا لنجاحهم الكبير فيما أوكل إليهم من مهام (۲۲) فلما بوغت الجميع بمقتل الإمبراطور أثناء تلك الحملة، أسند إعلان هذا النبأ الخطير لكل من بروكوبيوس والتربيون ميمورديوس Memoridus اللذين أعلنا هذا الخبر في الليريكوم Illyricum (۲۳) وبلاد الغال Gaul وهنا تم إعلان جوفيان إمبراطورًا للدولة (٢٤). وقد كان بروكوبيوس من ضمن اللجنة المصاحبة لجثمان الإمبراطور جوليان، وقد صاحبهم في المسيرة نحو قيليقية بضواحي طرسوس في تلك المهمة الدقيقة الإمبراطور الجديد جوفيان (٢٥)، وذلك في أواخر عام ٣٦٣م (٢٦) . وقد أشارت إحدى الشواهد المصدرية إلى كون بروكوبيوس قاد جوليان إلي طرسوس قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة (۲۷) ، مما سيشكل سير الأحداث اللاحقة.
. بروز دور بروكوبيوس وبداية الثورة :-
لم يكن للولاء الديني أية تأثيرات علي حراك الجنود نحو توجهاتهم في إزاحة العروش وخاصة
العرش الإمبراطوري أو اغتصاب السلطة في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، فقد كان الطابع
العام لجنود تلك الحقبة عدم الاكتراث بالدافع الديني كما كان للانتماء الديني من قبل من أهمية كبري في
توجيه دفة الأحداث، وحلت المشاركة الشخصية للأباطرة مع قوادهم وتوسيع دائرة النفوذ والسيطرة علي
قطاعات الجيش بديلاً عنه، فهو العامل الأجدي والأهم لضمان ولاء الجنود الذين قد تعصف بهم رياح الأحداث
نحو التمرد (۲۸). كما لا يمكننا الجزم بأن ثورة بروكوبيوس على الإمبراطور فالنز كانت ذات طابع ديني،
وإنما كان محركها ودافعها طموح بروكوبيوس السياسي الذي لا يتوقف عند حد سوى الوثوب علي العرش
الإمبراطوري (٢٩).
وهنا يبرز سؤال يطرح نفسه بقوة وهو ما الحيثيات القوية التي استند إليها بروكوبيوس في
ثورته على فالنز، وما الأطروحات التي قدمها لمناصريه ليندفعوا وراء طموحاته ؟!! وللإجابة عن هذا
التساؤل لابد من سرد عدة وقائع تمثل نقاط الإجابة عن السؤال وعن الدوافع الحقيقية التي استند عليها
بروكوبيوس للقيام بثورته، وتمثلت فيما يلي:
تمثل الدافع الأول في صلة القرابة التي كانت منعقدة بينه وبين الإمبراطور جوليان من جهة الأم،
مما يدعم سلالة نسبه نحو الإمبراطور قنسطنطين، إضافة إلي اقترانه بزوجة تنتمي لذات السلالة مما جعله
متفوقًا على خصمه، وجعله يستشعر أن دماءه أكثر ملكية من فالنز (۳۰).
أما الدافع الثاني فقد وجد زعم قوي بأن جوليان قد قام بترشيح بروكوبيوس ليخلفه على عرش
الإمبراطورية قبيل حملته على بلاد فارس في الوقت الذي اصطف فيه بروكوبيوس علي حدود بلاد ما بين
النهرين لتأمينها ضد هجمات الفرس فأوصى جوليان قائلا له: "لو استشعرت أن الجيوش الرومانية في بلاد
فارس قد ضعفت أو أصابني مكروه أو أدركني الموت، فعليك باتخاذ كافة التدابير كي تعلن نفسك
إمبراطورًا (۳۱). وقد أكد بعض الشهود أن الإمبراطور جوليان قد سمي اسم بركوبيوس وهو في النزع الأخير
لافظا آخر أنفاسه (۳۲). وتتبادر نقطتان من خلال الإشارات السابقة وهما أن جوليان قد صرح بطريقة غير
مباشرة أن بروكوبيوس هو من سيخلفه علي عرش الإمبراطورية. كذلك أنه لم يقتصر أمر سماع تلك الوصية
علي بروكوبيوس بل وجد شهود عيان آخرون قد استمعوا إلى ما أوصى به جوليان.
تمثل الدافع الثالث في أن بروكوبيوس حين توجه بصحبة سيباستيانوس من خلال أديابين
Adiabene (۳۳) لتأمين بلاد ما بين النهرين، توجه بداية لمقابلة الإمبراطور جوليان قبيل اتجاهه لمهمته
المنوط بها، وقبل اتخاذه الطريق المغاير لتحرك الإمبراطور، لكن ما يعنينا من الأمر كون جوليان قد منح
الإذن لبروكوبيوس لارتداء
ومهما كان لتلك الدوافع وجملة الأسباب من سمات القوة أو الضعف، نتوقف أمام حقيقة ماثلة
هي أن " ثورة بروكوبيوس " قد قامت بالفعل. إلا أن ما يدعو للدهشة والعجب أن تلك الثورة لم توجه ضد
جوفيان الذي تولي سدة الحكم عقب موت جوليان، وبحسب المؤشرات المؤطرة للأحداث فإن بروكوبيوس
رأى في نفسه أنه أحق وأولى منه بالوصول إلي العرش بناءًا علي وصية جوليان كما سبق وادعى
بروكوبيوس، مما يجرنا نحو تساؤل آخر هو لِمَ لَمْ يبادر بروكوبيوس بالإطاحة بجوفيان ليحل مكانه علي
عرش الإمبراطورية ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من استقراء الأحداث التي سبقت ثورة بروكوبيوس، فبمجرد
اعتلاء جوفيان سدة الحكم بادر بروكوبيوس بتسليم الرداء الأرجواني الإمبراطوري الذي سبق وتسلمه من
جوليان إلى الإمبراطور الجديد جوفيان مقرًا له بأحقيته في عرش الإمبراطورية بذلك التصرف، ومعربًا له
عن حسن نواياه (۳۸)، مما يوضح عدم وجود أدنى إشارة أو ظهور نية من قبل بروكوبيوس للتطلع لعرش
الإمبراطورية، وإلا لاتخذ موقفا مغايرًا أو عدائيًا من تولي جوفيان لمقاليد الأمور.
وربما تعود أسباب عدم نزوعه نحو التطلع للعرش، يعود إلي شخصية وزعامة جوفيان وصرامة
قراراته خاصة عقب إعدام سَمِيَّه "جوفيان" السكرتير الرئيسي، ورئيس أمناء السر، والذي ارتأى المحيطون
به أحقيته وجدارته بمنصب الإمبراطور، فهو الشخص المناسب لتولي العرش. فما كان من الإمبراطور
جوفيان إلا أن أمر بالقبض عليه، وألقى به في بئر جاف، ثم ألقى فوقه كومة من الحجارة حتي لقى
مصرعه(۳۹). بيد أننا لا نستطيع أن نجزم بأن التخوف من بطش جوفيان هو السبب الحقيقي وراء عزوف
بروكوبيوس عن الثورة علي جوفيان، بل نستطيع أن نبرر ذلك التوجه بالشعبية الكبيرة التي حظى بها
جوفيان بين جنوده، بل هم من رفعوه ليرتقي سدة هذا العرش، فلو تبادر لذهن بروكوبيوس القيام بثورة
ضده فلن يجد أي تأييد من الجنود بل سيلقى مقاومة ومصيرا مظلمًا.
ويبدو أن الوضع كان منقلبًا بالنسبة لبروكوبيوس آنذاك، فهو الذي كان متخوفا من أن ينقلب
عليه جوفيان إذا ما تبادر لعلمه ما كان من رغبة الإمبراطور الراحل جوليان في تولية بروكوبيوس عرش
الإمبراطورية فليس أقل من أن يطيح به، ومن ثم طلب من جوفيان إعفاءه من قسمه العسكري، مع السماح
له بالتقاعد من منصبه ليتفرغ بالإعتناء بشئونه الخاصة ليقرر بعدها بروكوبيوس الاختفاء كلية عن عين
الإمبراطور جوفيان متوجهًا إلي قيصرية (٤٠) مصطحبًا زوجته وأطفاله، مقررًا الإقامة بممتلكاته الخاصة في
تلك الناحية. بيد أن عيون جوفيان كانت تتبع حركاته وسكناته، وتم إرسال من يلقى القبض عليه، فاستسلم
طواعية دون مقاومة تذكر لرجال الإمبراطور. إلا أنه لم يكن يرغب في تلك النهاية المزرية، فل
تسليمه لمضطهديه (٤٤). ومن ثم بادر بترك تلك البقعة متوجها إلي خلقدونية في سرية تامة على متن سفينة
تجارية (٤٥).
وهنا التجأ بروكوبيوس للاختباء لدى ستراتجيوس (Strategius (4) أكثر وأشد أصدقائه ولاءًا
له، وظل بروكوبيوس يتنقل بين هذا المكان والقسطنطينية بين الحين والآخر في تلك الفترة، وقد تم إدراك
هذا الأمر من لسان ستراتجيوس ذاته عندما أجريت التحقيقات مع المتواطئين بالتنظيم السري الذي أنشأه
بروكوبيوس لاحقًا (٤٧). وقد استغل بروكوبيوس فترة اختبائه في استعادة لياقته البدنية التي أنهكتها الأحداث
والظروف التي مر بها من قبل مضطهديه كما ذكر إميانوس: " كان ينظر مثل الوحش إلي فريسته، وكان
علي استعداد للوثوب دفعة واحدة لدى رؤية أي شخص يريد الانقضاض عليه " (٤٨). وقد ظل متوثبًا للفرصة
الملائمة للانقضاض والثورة حين يتسنى له ذلك.
وحين ارتأى بروكوبيوس أن الظروف قد سنحت توجه نحو القسطنطينية ليفجر ثورته ضد
الإمبراطور فالنز، فقد استشعر أن الوقت المناسب لإعلان تمرده علي الحكم، خاصة مع وجود فالنز على
رأس السلطة، ولعل دافعه الأقوى أن من تهون عليه الحياة يهون عليه الخطر، فقد تعرض في الفترة السابقة
لمآس كثيرة ومؤلمة فلو كتب عليه الموت جراء ثورته فسيكون أكثر رحمة مما تعرض له من آلام (٤). ومن
ثم مثل هذا الدافع المبرر الأقوي لتمرده، إضافة لتولي فالنز عرش الإمبراطورية الشرقية. وفي تلك الأثناء
كان فالنز مشغولاً بتأمين الحدود، وتهدئة الأحوال بينه وبين الجانب الفارسي (٥٠)، فبادر في صيف عام
٣٦٥ م بالذهاب إلي سوريا وتجاوز حدود بيثينية (٥١) لتحقيق هذا الأمر، وفي نفس الوقت كان القوط يعدون
العدة لغزو الأراضي التراقية، وما أن نما لعلمه ذلك الخبر ، اضطر فالنز إلى العودة غربًا لمدافعة القوط ،
وأمر بتعزيزات كافية لسلاح الفرسان والمشاة لتدعيم الدفاعات عن الحدود الدانوبية (٥٢).
مثلت نزاعات فالنز الخارجية الفرصة الذهبية لبروكوبيوس لتدعيم ثورته وتفجيرها في وجه
"
"
فالنز، فبدأ يعمل علي استقطاب فيالق الجيش المعروفة بـ ديفيتنسيس Divitenses" (۳)، وفيلق
تونغرينكي Tungricni" (4) الأصغر والذين صدرت إليهم الأوامر بالمسير نحو تراقيا لتأمين الحدود
الدانوبية، ووفقًا للعرف السائد فإنهم سيتوقفون لمدة يومين بالقسطنطينية أثناء تحركهم إلي وجهتهم
المعلومة، وهنا قرر بروكوبيوس استغلال تلك الفرصة في إغواء بعض القادة ممن يثق في عدم انشقاقهم
عليه وليقتصر على تلك الفئة القليلة فقط، فقد كان باعتقاده أنه من الآمن " الاعتماد على أمانة القلة أفضل،
فمن الأصعب الاعتماد على الجسم كله .". والمراد بها الفرقة الكبرى (٥٥) مما يدل على تفضيل بروكوبيوس
آنذاك الاعتماد على قلة من الضباط من ذوي الثقة فحسب.
(00)
وأمام تلك المكافات
للقائهم بليلة واستطاعوا الحصول على موافقتهم بالانضمام لثورته، فكان لابد من استكمال الأمر بمقابلة هؤلاء، وعند لقاء بروكوبيوس بهم تم التأكيد على ما قطع من وعود إلا أن الأمر كان مغايرا حين التقي بالجنود المرتزقة ، فعلى الرغم من تعامله معهم باحترام كبير إلا أن البعض منهم قاموا باحتجازه (۸) حتى يتحققوا تمامًا من تلك المكاسب التي سيحصلون عليها حيال انضمامهم لحركته (٥٩) ، فقد كان العنصر المادي هو المحرك الأساسي والمعيار الأكثر أهمية في التحكم في توجهاتهم.
وعقب تسوية الأمور مع تلك الطائفة صار موقف بروكوبيوس أكثر قوة وأشد نفوذًا وتأثيرًا، وبعد اطمئنانه بأن خيوط اللعبة السياسية بين قبضته إذ به يعلن نفسه إمبراطورًا للدولة الرومانية الشرقية، ولكن كان عليه أن يظهر بالرداء الأرجواني - الذي سبق وأن سلمه طواعية لجوفيان - بما له من رمزية لإعلان شرعية الإمبراطور (٦٠) . إلا أن افتقاده لهذا الرداء أثر بشدة علي أداء ذلك المشهد الفارق، فقد بدا دونه شاحبًا أشبه بشبح أتي من العالم السفلي لعدم تمكنه من ارتداء رداء ملكي مناسب (۱۱)، مما جعل المؤرخ المحدث "كيلي Kelly" يذهب بقوله: " إن إخفاق بروكوبيوس في ثورته عائد إلى ما كان يرتديه " (٦٢)، فقد اضطر إلى ارتداء سترة مطرزة بالذهب شأنه في ذلك شأن أي ضابط بالقصر، وكان الجزء السفلي من ملابسه يبدو فيه مثل صبي بإحدى المدارس، فقد كان يرتدي حذاءًا بنفسجيًا بقدميه حاملًا في يده اليمنى قطعة صغيرة من القماش الأرجواني إضافة إلي حمله لرمح (۱۳)، فبدا أمام الحضور بصورة ممثل من الدرجة الثانية يقوم بتجسيد مشهد درامي وقد ظهر فجأة علي المسرح (٦٤) ، لكنه لم يلبث أن أعلن نفسه إمبراطورًا للدولة الرومانية الشرقية وكان ذلك في ۲۸ سبتمبر عام ٣٦٥م (٦٥).
ولم يتورع بروكوبيوس في هذه اللحظة الحاسمة عن مخاطبة أنصاره واعدًا إياهم بالمنح والعطايا من ثروات هائلة ومناصب عليا ، وتقدم بهم نحو شوارع القسطنطينية وبرفقته عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح، مما تسبب في إحداث ضجيج عالٍ نظرًا لكمية الدروع الضخمة التي صاحبت المسيرة، وقد دخل
حزن عميق إلي نفوس الجنود حين تم رشقهم بالحجارة من أسطح المنازل التي أحاطت بمسيرتهم (٦٦).
وعلى جانب آخر، وجد بعض من عامة الناس الذين لم يظهروا أي امتعاض أو نفور من تأييد ثورة بروكوبيوس، بل وجدوا فيه أملهم المنشود الذي سيخلصهم من بترونيوس – حمي فالنز – تلك الشخصية البغيضة على قلوبهم، فقاموا بتأييد هذه الثورة، فقد كان بترونيوس قد أثقل كاهلهم بكم من الديون الباهظة والتي ترجع إلى عهود الأباطرة السابقين كما بينا سلفًا. ونظرًا لانعدام شعبية فالنز بين جموع المواطنين، فقد انضمت تلك الطائفة بعد ذلك إلى حزب بروكوبيوس (٦٧).
وتخدم الظروف بروكوبيوس أكثر بتعرفه على أحد أثرياء القسطنطينية، وهو أوجنيوس (٦٨) فاستقطبه لتزويده بما يلزمه من أموال تعينه على تقديم الرشاوي لحراس البلاط التي تتألف من جحافل عسكرية وعبيد مسلحين لتدعيم قبضة بروكوبيوس في القسطنطينية (٦٩).
Eugnius
وفي تلك اللحظة يصعد بروكوبيوس إلى البلاط الإمبراطوري ويخطب في الناس خطبة قصيرة بصوت هادئ منكسر ، متحدثًا فيها عن علاقته بالعائلة الإمبراطورية، وبأنه لقرابته بها أحق بالعرش من فالنز. وقوبلت خطبته بداية بتصفيق باهت من قبل شيعته التي تمت رشوتها وشراء ولائهم، أما عن الطبقة ذات الأحوال المضطربة فقد قابلت خطبته بعاصفة من التصفيق الحار وقد رحبوا به وتقبلوه إمبراطورًا عليهم
ثم توجه بروكوبيوس في خطوة لاحقة إلى مجلس السناتو الذي خلا من وجود أي نفر من النبلاء، واقتصر على الرعاع فقط ، في إشارة واضحة لرفض طائفة النبلاء تنصيب بروكوبيوس، غير أن موقفهم تغير بعد ذلك ليلقي بروكوبيوس الدعم من مجلس الشيوخ في وقت لاحق (۷۰).
ومما يلفت النظر حين دخل بروكوبيوس القصر الإمبراطوري وجد نخبة من التجار والمتقاعدين من الضباط يحيطون بالقصر انتظارًا لما تسفر عنه الأحداث، وما لبثوا أن انضموا جميعًا لحزب بروكوبيوس سواء عن طيب خاطر أو عن طريق شراء ولاءهم بالمال، إلا أن فريق منهم سئم الوضع مفضلا الفرار والانضمام لمعسكر فالنز (۷۱).
ومن تعاقب تلك الأحداث كان صفرنيوس Sahronius(۲) ، الذي كان يشغل منصب سكرتير الإمبراطور فالنز فقد توجه نحو معسكره لينبأه بكل الأحداث. وكان فالنز على وشك الانطلاق من قيصرية إلى أنطاكية، فلما علم بما آلت إليه الأمور قرر العودة إلى غلاطية (۷۳) كي يؤمنها من الوقوع بيد بروكوبيوس(٢٤). وقام مستشارو فالنز بحثه على إرسال جحافل جوفي Jovii والنصر Victores سويًا لقمع حركة التمرد مع ضرورة استدعاء بعض الوحدات من الأقاليم الشرقية إذا استدعى الأمر ذلك (٧٦).
(Vo)
على الجانب الآخر، أراد بروكوبيوس تدعيم مركزه بأسرع وقت، ففي الوقت الذي كان فالنز يمضي قدمًا بأقصى سرعة ليصل القسطنطينية لجأ بروكوبيوس لحيلة بارعة بواسطة مبعوثيه حين تظاهر بعضهم بمجيئه من بلاد الشرق والبعض الآخر تظاهر بقدومه من بلاد الغال لإيهام أتباع فالنز باتساع نفوذ ثورة بروكوبيوس (۷۷)، وتشتعل الخطة أكثر حين أشاع هؤلاء النفر أن الإمبراطور فالنتينيان قد توفى، وبذلك تسقط شرعية فالنز المعين من قبله ، ومن ثم أصبح الطريق ممهدًا أمام بروكوبيوس لاعتلاء العرش دون منازع (۷۸). ولعل الهدف من هذه الحيلة تمثل في نزع رداء شرعية الحكم عن فالنز الذي اكتسبها في الأساس من تنصيب فالنتينيان له فبموته تسقط تلك الشرعية الممنوحة له حيث كان فالنز يحكم نيابة عنه، وفي تلك الحالة لن يوجد ممانع لتولي بروكوبيوس زمام الأمور والرضوخ للأمر الواقع.
وقام بروكوبيوس بسلسلة من الإجراءات التي من شانها أن تؤكد على شرعية حكمه بصورة كاملة، فقام بتشكيل حكومته الجديدة مراعيًا أن تؤول المناصب الرفيعة إلى أصحاب ثقته المقربين، مع إقصاء كل من تولاها فترة حكم فالنز، وتم إيداع بعضهم في غيابات السجون ومنهم نيبردنیس Nebridins (۷۹) الذي كان حاكمًا برايتوريًا (۸۰) (قائد الحرس الإمبراطوري)، كما تم إيداع قيصريوس Cassarius حاكم القسطنطينية السجن أيضًا، وتم تكليف فرونيميوس بحكومة المدينة بديلا عنه، كما أصبح يوفراسيوس Euphrasius سيدًا للمناصب (كبير) المسئولين الإداريين، كما تم إسناد الشئون العسكرية إلي كل من جوماريوس Gomoarius وأجيلو Agilo (۱).
الكفاءة
والملاحظ بالأمر أن بروكوبيوس قد جانبه الصواب في إسناد المناصب الحساسة لأهل الثقة لا بسبب ما قطعه علي نفسه من وعود في البداية، مما أحدث كثيرًا من التجاوزات، فنجد الوساطات تلعب لعبتها في تعيين الأشخاص بالمناصب الهامة مثل تعيين أراكسوس Araxius بناء علي توصية من صهره أجيلو، وتم تعيين بعض الأشخاص داخل القصر الإمبراطوري في مناصب مختلفة عن طريق تلك الوساطات، بل امتد الأمر ذاته إلي حكومة المقاطعات، فهناك من عُين ضد إرادته والبعض قدم الرشاوي
للظفر ببعض الوظائف (۸۲) ، مما يؤثر بشدة علي أداء الوظائف بتلك الحكومة الناشئة، كما يؤثر بالسلب علي الرعية التي تجد من يصلون إلى مناصب خطيرة لمجرد طموحات هوجاء، بينما يتهاوى أصحاب الأصول النبيلة لدرك سحيق لمجرد اختلافاتهم مع صاحب السلطة الأعلى والمتحكم في تصاريف الأمور، بل وقد يصل الأمر بالحكم عليهم بالنفي أو الموت (۸۳).
أراد بروكوبيوس التأكيد على شرعيته في الحكم، فقام في مرحلة مبكرة بصك بعض العملات
الذهبية التي تبرز رأس بروكوبيوس على عادة ما يصنعه الأباطرة الرومان الأصلاء (١٤).
وقد ابتغي بروكوبيوس تحقيق التفوق العسكري على فالنز، فرأى ضرورة تقليص قوته الدفاعية تحسبًا للمواجهة المرتقبة بينهما، وضرورة اتخاذ كل السبل التي تحقق بغيته، وقد كان بروكوبيوس على دراية كبيرة بالقوة الفعالة في قوات فالنز والتي كان يقودها يوليوس Julius في تراقيا، ومن ثم كان تخوفه الأشد أن تقوم تلك القوات بسحق أنصاره ، فأخذ يدبر لخدعة فعالة يتم بها استدراج يوليوس إلي القسطنطينية مع فرقته العسكرية، وبعدها يتم استقطابه لحزبه (۸۰) ، ولكي يحقق ذلك أجبر نبريديوس المحتجز لديه بكتابة رسالة إلي يوليوس مضمونها أن الإمبراطور فالنز قد عينه لاتخاذ بعض التدابير فيما يتعلق بتحركات البرابرة. وطلب منه الإسراع في التحرك إلي القسطنطينية لمداولة هذا الأمر، وبالطبع لم يدر بخلد يوليوس أن نبريديوس محتجزًا لدى بروكوبيوس. وابتلع يوليوس الطعم وتوجه لنحو القسطنطينية ليتم احتجازه وكافة فرقته، وبذلك استطاع بروكوبيوس تحقيق خطته دون إراقة أية دماء. والأعجب من ذلك استطاعته أن يضمهم لحزبه، فتحول هؤلاء من خطر مناوئ إلي قوة معضدة في حوزته وطوع بنانه (٨٦).
وكانت الخطوة التالية هي إنشاء جيش منظم وقوة عسكرية كافية، على أن هذه الخطوة قد تمت له في يسر حيث استطاع تجميع فئات من الفرسان والمشاة كانت تمر عبر تراقيا، فضم كل هذه الفئات في فرقة واحدة لتصير مظهرًا لجيش متكامل، وألهب حماسهم بما قطعه على نفسه من وعود خلابة جعلتهم يقسمون بالوفاء له في يمين رسمي، واعدين إياه بالدفاع عنه بكل ولاء واستماتة، وبذلك أقروا ببروكوبيوس
كإمبراطور جديد (۸۷).
وسعي بروكوبيوس وراء كل وسيلة تدعم شرعيته فظهر أمام حشود الجماهير حاملًا الطفلة " قنسطنطينا بوستوميا Constantina Postumia " ابنة الإمبراطور قسطنطيوس الثاني بصحبة والدتها فوستينا Faustina (۸۸) في إشارة ضمنية منه لانتمائه للدم الملكي، بما يوحي بكونه الأجدر بعرش الإمبراطورية، وكونه الوريث الشرعي لسلالة قسطنطين العظيم (۸۹) ، حيث يمت بصلة قرابة للإمبراطور جوليان المرتد، موضحًا أن كل من فالنتينيان وفالنز لا يستحقان أن يصيرا أباطرة حيث لا ينتميان بأي صلة لسلالة قنسطنطين الملكية، ومن ثم فلا يجوز لتلك السلالة العريقة أن يدخل في نسيجها أطراف غريبة عنها حتي لا تمس أنماط الولاء الراسخة لها (٩٠).
وأراد بروكوبيوس في سبيل ترسيخ شرعيته إرسال بعض من مبعوثيه إلي الليريكوم، وقد وصفت هذه المجموعة التي أرسلت علي لسان المؤرخ أميانوس بأنهم " أغبياء متهورين " (11) كانوا محملين ببعض العملات الذهبية المختومة باسم الإمبراطور الجديد ليقوموا بتوزيعها على عوام الناس حتي يحصلوا على تأييدهم لحزب بروكوبيوس. إلا أن هؤلاء الذين وكلت إليهم تلك المهمة قاموا بعملهم بطريقة فجة
ومكشوفة أثارت حفيظة رجال فالنز، وعلى رأسهم القائد أيكيوتيوس equitius (٢) الذي قام باعتقالهم ونفذ فيهم حكم الإعدام بطرق مختلفة (۹۳) . ونرى في هذه المعضلة أن فشلها إنما يعود إلى عدم حسن تخير رجال مهمة دقيقة مثلها، فلابد لمن يكون مبعوثًا في مهمة مثل تلك أن يمتلك مقومات شخصية تتسم بالحصافة والحيطة وحسن التعامل مع الحدث، لكن هؤلاء النفر سيطر عليهم شعور التباهي والأهمية لذواتهم فأخذوا في توزيع العملات الذهبية في زهو زائف دون مراعاة الاحتياطات الاحترازية في مثل تلك المواقف حتي لا يثيروا حفيظة القائمين علي المدينة، ومن ثم فقد استحقوا تلك النتيجة.
وفي تلك الفترة أخذ أتباع فالنز وقف تقدم بروكوبيوس وأتباعه تحو المدن التي لم يتمكنوا من السيطرة عليها بعد، فقام أيكيوتيوس بقطع كل طرق الممرات التي تصل بين الشرق والغرب (14)، حيث تمكن من السيطرة علي ثلاثة مداخل تؤدي إلى المقاطعة الشمالية من خلال داكيا Dacia (0) أولا بطول الأنهار المختلفة، وثانيًا عن طريق سوتشي Succi (٩٦) ، أما الثالثة من خلال مقدونيا في المنطقة المعروفة باسم أكونتسيما contisma (۹) ، وجاءت نتيجة تلك الإجراءات الصارمة مع احتياطاتها الاحترازية أن حرم بروكوبيوس من كل بادرة أمل في الاستيلاء على الليريكوم ففقد موردا هامًا يستطيع من خلاله مواصلة حربه (۹۸).
•
المواجهة بين بروكوبيوس وفالنز :
لم يكن فقدان فالنز لعرش الإمبراطورية بالأمر الهين أو ما يمكن أن يمر مرور الكرام دون رد فعل، فاستعاد رابطة جأشه، وقرر القتال باستماتة للحفاظ على عرشه، ومن ثم كان قراره بالعودة إلى القسطنطينية كما أسلفنا، وعلى الرغم من أن فالنز كان يسرع في العودة، إلا أن تقدمه كان مشوبًا بكثير من مشاعر القلق واليأس، حتى أنه فكر في لحظة من اللحظات في التخلص من عبء هذا الأمر والتخلي عن كرسي العرش، حتي أنه بادر بخلع ردائه الإمبراطوري الذي أحس أنه يمثل عبئا ثقيلا عليه، بل وكاد أن يفعل هذا الصنيع لولا التدخل القوي من رجاله المحيطين به (۹۹).
نرى في مشاعر الإحباط واليأس التي سيطرت على فالنز تعود في الأساس إلي جملة الضربات التي وجهها إليه خصمه علي المستوي العسكري من هجومه الخاطف علي القسطنطينية، وعلى المستوي السياسي في استقطابه للقادة وللرجال ذوي الكفاءات واستغلاله لمنصبه وصداقاته السابقة، واتكائه على سند من نبل أرستقراطي يجذب إليه جموع العامة، فأية مواجهة حاسمة سيدخلها فالنز ضد بروكوبيوس ستبوء بالفشل والنهاية المفجعة، بل وكاد أن يلقي الأمر برمته ويرفع راية الاستسلام لولا حرص أتباعه
على أنفسهم من قبله فهم من سيطاح برؤسهم إذا ما تم الأمر لبروكوبيوس فاستماتوا لرده إلى صوابه.
على جانب آخر، حين علم بروكوبيوس بتحرك جحافل جوفي والنصر وغايتهما سحق أتباعه، بادر من فوره بالتحرك مصطحبًا فيلق ديفيتنسيس Divitenses يخالطه المجموعة التي استقطبها من جيش فالنز وضمها إلي صفوفه، فاتجه نحو ماجديوس Mygdus (۱) ، فلما التقى الجيشان، وبينما كان كل جانب يرمي بقذائفه تجاه الآخر، اندفع بروكوبيوس من بين الصفوف وأشار بذراعيه إلى أحد قادة جيش فالنز الذي يدعى فيتاليانوس، وكان في مقدمة الجيش، فإذ ببروكوبيوس يمد ذراعه لتحيته، بل وقيامه بعناقه مما جعل
كلا الجيشين ينظر في ذهول لهذا الأمر (۱۰۱) . وفي رأينا أن ما فعله بروكوبيوس إنما من قبل المناورة، فالحرب خدعة، فقد كان الهدف من تلك المناورة الذكية هو زعزعة الثقة في صفوف جيش فالنز، وإرسال رسالة تشكيكية مفادها أن فيتاليانوس علي صلة وطيدة به، بل وإمكانية بروكوبيوس علي استقطاب من يشاء من جيشه مما يضعضع قوة فالنز، ويحد من قدرته علي المواجهة، وهو الأمر الي يأمله بروكوبيوس.
وتدليلًا على ذلك، بذل بركوبيوس أقصي قوته لإغواء قادة الفيالق التي تتصدر الجبهة كي تحول ولائها نحوه ، فقام وصاح بأعلى صوته مخاطبًا هذه الفئة: " هل هذه نهاية الإخلاص للجيوش الرومانية، والأيمان التي تقسم تحت التزمات الدين ؟ هل قرر الرجال البواسل استخدام سيوفهم ضد الغرباء ؟ وأن بانونيا المتدهورة يجب أن تقوض ، (۱۰۲) وتزعج كل شئ ، وبالتالي يتمتع بقوة سيادية لم يغامر بتصويرها لنفسه في صلاته، بينما تأسف على ثروتك السيئة ونأسف على أنفسنا، اتبع بالأحري سباق أمرائك النبلاء الذين هم الآن في السلاح، وليس مع وجهة نظر الاستيلاء على ما ينتمي إليها، بل على أمل استعادة ممتلكات أجدادهم وكرامتهم الوراثية ". وقد تم الترويج من خلال هذا الخطاب الذي يوصف بالاسترضائي أو المحفز لأولئك النفر الذين أتوا بنية القتال فما لبث أن ظهر أثر مردوده باندفاع أعداد غفيرة من جيش فالنز نحو جيش بروكوبيوس منضمين إليه من تلقاء أنفسهم، وهنا تم استبدال الصيحات المفزعة التي كانت موجهة لبروكوبيوس إلى صيحات التحية والإجماع للإمبراطور بروكوبيوس، ورافقوه إلى معسكره (۱۰۳).
ونكاد نلمح مدى ما كان لبروكوبيوس من مساحة مودة في نفوس قادة الفيالق التي يقودها فالنز وما يكنونه له من تقدير باعتباره كان واحدًا منهم، بل ويقودهم في غمار المعارك، ومن ثم دفع بهم إلى زاوية الحرج من تصويب سلاحهم نحو رفيق الأمس الذي من بني جلدتهم، وليس غريبًا عنهم كفالنز الذي ينحدر من أصول غربية فكان من الأحرى أن تصطف تلك الجحافل في جيشه لا أن توجه ضده، كما استنكر أن تصير بانونيا مقرًا لحكم فالنز، وجاءت ختامية خطابه لتلخص هدفه الأساسي حين أشار لكونه علي يقين تام بأن الحقوق الوراثية للعرش لابد وأن تعود إلى مستحقيها في إشارة ضمنية لشخصه . وجاء مردود خطابه بنتائج مثمرة، حيث تدفقت نحوه أعداد غفيرة من جيش فالنز.
وقد انضم عامل آخر في تقوية جبهة بروكوبيوس بل وتقدم خطواته هو وجود التربيون رومتيالكا Rumitalca (4) بصفوف جيش بروكوبيوس حيث استطاع تجميع جيوش بروكوبيوس واتجه بها نحو ه
تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص
يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية
يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة
نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها
Traffic Padding: inserting some bogus data into the traffic to thwart the adversary’s attempt to use...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اليوم ذهب إلى دورة القرآن وتعلمت القرآن ثم عدت إلى منزلي ومكتبي قلي...
يجمع نظام التكاليف بجوار المحاسبة على الفعليات،التوفيق في ظروف حدوثها وأسبابها ومدى الكفاءة في التنف...
نطاق البحث يركز هذا البحث على تحليل الأطر القانونية والمؤسساتية لعدالة الأحداث، مع دراسة النماذج الد...
نفيد بموجب هذا الملخص أنه بتاريخ 30/03/1433هـ، انتقل إلى رحمة الله تعالى المواطن/ صالح أحمد الفقيه، ...
العدل والمساواة بين الطفل واخواته : الشرح اكدت السنه النبويه المطهرة علي ضروره العدل والمساواة بين...
آملين تحقيق تطلعاتهم التي يمكن تلخيصها بما يلي: -جإعادة مجدهم الغابر، وإحياء سلطانهم الفارسي المندثر...
Network architects and administrators must be able to show what their networks will look like. They ...
السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، يجيب عن أسئلة شفوية بمجلس النواب. قدم السيد مح...
حقق المعمل المركزي للمناخ الزراعي إنجازات بارزة ومتنوعة. لقد طوّر المعمل نظامًا متكاملًا للتنبؤ بالظ...
رهف طفلة عمرها ١٢ سنة من حمص اصيبت بطلق بالرأس وطلقة في الفك وهي تلعب جانب باب البيت ، الاب عامل بسي...
قصة “سأتُعشى الليلة” للكاتبة الفلسطينية سميرة عزام تحمل رؤية إنسانية ووطنية عميقة، حيث تسلط الضوء عل...