لخّصلي

ظلت أبواب القصر موصدة وانحنا إبلنا وأنزلنا الأحمال من على ظهورها ،
ثم تمددنا لننام في ظل حائط القصر .
وخرج أعرابي بعد الظهر من باب خلفي و ناداه محمد ، وسأله هل الشيوخ ( جالسين ) وهو تعبير عربى بمعنى هل هم على استعداد لاستقبالنا فأجاب الأعرابي : كلا ليس بعد . وطلب منه محمد أن يبلغ الشيوخ أن إنكليز يا قد وصل من حضر موت و أنه يبغى مقابلتهم، وسأل الأعرابي وأين هذا الانجليزي
فأشار محمد إلى .
و بعد هذا بنحو من نصف ساعة خرج علينا أعرابي شيخ وجه الينا بضع أسئلة ثم قفل راجعا إلى القصر وعاد بعد قليل ليدعونا الى الدخول وسار بنا الى حيث كان ( شخبوط ) حاكم ابي ظبي واخواه هزاع وخالد وقد نهض الجميع عند دخولنا فتبادلنا التحية وجلسنا . كان شخبوط رجلا ضئيل البنيان شاحب اللون ذا تقاطيع منتظمة ولحية سوداء قد شذبها في عناية وكمان مجاملا، لطيف المعشر ، متحفظا نوعا ، يتكلم في هدوء ويتحرك في حذر. ونادى شخبوط رجلا من أتباعه دار علينا بالقهوة والتمر ثم سألنا عن رحلتنا ، ولما ذكرت له أنى زرت ضواحي ( اللوى ) في العام الماضي عقب هزاع على هذا بأنه سمع إشاعات عن مسيحى كان هناك ، و لكنه لم يصدق ذلك فليس من المعقول أن يأتى اوروبى ثم يذهب دون أن يراه الناس ، والبدو لا يعتمد كثيرا عليهم في مثل هذه الأحوال مما جعلنا نعتقد أنهم كانوا يتكلمون عن توماس الذى عبر الصحراء منذ ستة عشر عاما .
وانتهى جديثنا وسار بنا الشيوخ الى البيت الذي أعد لنزولنا وهو منزل كبير متهدم ، فتسلقنا سلما متهالكا إلى غرفة خاوية ، قد فر شت بالسجاد استعدادا لاستضافتنا . وأمر شخبوط خادمين من أتباعه كي يعنيا بنا .
وفي المساء وصل الخدم يحملون الطعام الوفير فأكلنا حتى شبعنا وجلسنا
بعد الاكل وجلس الخدم بيننا دون كلفة فالخادم في البيت العربي فرد من
أفراد الأسرة وليست هناك طبقية كالمعروفة لدينا ، ونظرت إلى البساطة
العادية التي تتسم بها الغرفة ، فبدت فى نظرى أفضل من أى أثاث فاخر .
وعشنا عشرين يوما في ( أبي ظبي ) وهي مدينة صغيرة ، يبلغ تعدادها الفي نسمة ، وكان الشيوخ يزوروننا كل يوم يتقدمهم ( شخبوط ) بشكله الجليل وعباءته السوداء واعتدنا طيلة اقامتنا في ( أبي ظبي ) أن نتجول في سوق المدينة أو على شاطيء البحر .وحدث أن زارنا فيمن كان يزورنا رجل من آل رشيد يدعى ( بخيت الدهيمي ) وكنت قد سمعت عن شجاعته عند ما كنت على الساحل الجنوبي وعندما علم ( بخيت ) هذا أنني ذاهب الى ( البوريمي ) أعلن استعداده لمرافقتي ، وتدبرت الامر مع (شخبوط) وطلبت إليه أن يرسل (بخيتا) قبلنا، ليبلغ زايد بن سلطان أخا شخبوط في البوريمي أننا قادمون .
كنت مشوقا لاختراق عمان وزيارة المواقع التي وصفها لى ( سطيون ) في العام الماضى، واعتقدت أن فرصتى كى أذهب إلى هناك ، ستكون من البوريمي وكنت آمل ان يستطيع زايد مد يد المعونة إلى فأحقق أمنيتي أو على الأقل، أقوم بعمل بعض التحريات المفيدة . عن عمان وأنا في البوريمي .
وغادرنا أبو ظبي ومعنا الدليل الذى زودنا به شخبوط . وكان ذلك في اليوم الثاني من شهر ابريل ووصلنا البوريمي بعد أربعة أيام قطعنا فيها مائة ميل .
وهناك حادث طريف يلذ لي أن أقص قصته . . فهو يبين ناحية هامة من جوانب النفس البدوية . . في مساء اليوم الذي سبق وصولنا واحة (البوريمي) كنت مستلقيا على الأرض فى نشوة أراقب ابن قبينه وهو يشوى بعض الفطر والبطاطا ، وحدث أن داعب ابن غبيشه قدمى فرفسته بشكل غريزي بحت فأصابته الرفسة في جنبه فارتمى أرضا وأسرعت نحوه مضطربا ، ولكن ابن قبينة بادرني قائلا إنه بخير واعتدل ابن غبيشه في جلسته وقال لى معاتبا لماذا تحاول قتل أخيك ؟ فاعتذرت اليه فضحك قائلا : إني لأعلم انك ما كنت تقصد ما فعلت وسألت ، ابن قبينة ماذا كان يفعل لو قتل ابن غبيشة حقا، فأجاب على الفور : لو أن هذا حدث لقتلتك وحاولت الاعتراض قائلا : ولكن هذا أمر غير مقصود فأجاب : لن يغير ذلك من الأمر شيئا . وهنا أدركت ان البدوى يطلب حياة مقابل حياة سواء كان هناك قصد أو لم يكن ، وقد يقبل
الفدية اذا هدأت ثائرته وكان القتل دون قصد .
وفي صباح اليوم التالى وصلنا ( مو يقع ( إحدى القرى الثماني الصغيرة في واحة ( البوريمي ) وكان بها قصر زايد ، وشاهدت نحوا من ثلاثين اعرابيا جلوسا في ظل شجرة شوكية أمام القصر ، وقال لنا دليلنا إن الشيخ جالس فاتجهنا نحوه وحيت الجمع وتبادلت الأخبار مع زايد وهو رحل تبدو عليه مخايل الفطنة يتميز عن رفاقه بعقاله الأسود وبالطريقة التي يلبس بها كوفيته منسدلة على كتفيه بدلا من أن تكون ملفوفة حول رأسه. وكان ذا شهرة كبيرة بين البدو يحبونه لبساطته ودمائة خلقه وقوته الجسمانية الخارقة .
وقدم لنا خادم القهوة والتمر كالعادة وسألني زايد عن رحلتى واهتم كثيرا عندما علم باجتيازي لبلاد الدورو في العام الماضي. وعجب كيف استطعت أن اجتاز بلادهم ، فأفهمته أني ادعيت أنى تاجر سوري فقال ضاحكا : لو فعلت
هذا معى لاكتشفت أمرك في الحال .
وبقيت شهرا في ضيافة زايد ، وحضرت مجلسه حيث يتوافد الناس ويبثونه
شكاواهم فيفصل فيها .
كان زايد ممثلا لشخبوط في البوربمي. ولكنه كان يحكم ستا من قرأها
بينما يحكم القريتين الأخيرتين سلطان مسقط .
وكان لكل شيخ من شيوخ ساحل الهدنة فرقة من الاتباع المسلحين من رجال القبائل الا ان شخبوط وحده كان ذا سلطة ونفوذ بين القبائل كلها .وكانت شركة النفط العراقية قد وقعت اتفاقيات مع سلطان مسقط و شيوخ ساحل الهدنة ، تشمل الاراضي المحيطة بواحة البوريمي ، وقد حاولت انجلترا اقناع القبائل بقبول هذه الاتفاقيات ، ولكن ذلك لم يكن بالأمر السهل ، فلم يكن لزايد نفود جنوبي واحه البوريمي ونفوذ السلطات على هذه المنطقة كانت اسميا فحسب ولم يكن له ممثل قوى فى تلك البقعة ، وأصبح كل شيخ يحاول تأكيد استقلاله معتقدا أن بوسعه الحصول على شروط خاصة لنفسه برفضه