لخّصلي

وقد يتطور الأمر ليصبح معركة بين الوحدات القرابية الكبرى أو البدنات . وقد يكون من العسير أن نأخذ هذا المثل بكل حرفيته ، ولكنه يبين لنا على أية حال كيف أن وقوع الاعتداء على شخص واحد يؤدى في العادة إلى اشتراك جماعة قرابية كبيرة أو صغيرة في الأمر ، أي أن دائرة الصراع تميل إلى الاتساع حتى تشمل جماعة القرابة كلها على ما ذكرنا ، وليس من شك في أن الشعور بالخسارة والألم يكون أقوى وأشد في الوحدات القرابية الصغيرة منها في الوحدات الكبيرة ، بمعنى أن الذين يتأثرون بالخسارة أكثر من غيرهم هم أفراد أسرة القتيل أولا . ثم يلهم الأقارب الأقربون. ولكن هذا لا يعنى أن بقية الأفراد الداخلين في دائرة القرابة لا يأبهون للحادث ، بل إنهم يعتبرون أنفسهم ملزمين ومطالبين بأخذ الثأر من القاتل أو أهله . ونفس الموقف نجده في الجانب الآخر من طرفي النزاع ، أعلى الجانب الذي ينتمى إليه المعتدى، بمعنى أنهم يكونون جميعاً معرضين القصاص والكثار منهم وإن كانت هذه المسئولية نقل كثيراً كلما بعدت درجة القرابة . فالقاتل هو رغم كل شيء المسئول الأول عن فعلته ، بينما تعتبر مسئولية الجماعة القرابية التى ينتسب إليها مسئولية ضمنية ، ويحاول أهل القتيل الاقتصاص القتيلهم من القاتل شخصياً بشتى الطرق وبقدر الإمكان . فكان المسئولية رغم شيوعها في البدنة كلها تخضع لمبدأ التدرج ، أي أنها ليست قانوناً أعمى تماماً لم ما يحدث بالفعل من الاقتصاص من أي شخص ينتمى إلى جماعة القاتل القرابية أو حتى غيرها من البدنات التي تنضم إليها ، وعلى الرغم من أن طبيعة المعركة ذاتها يمتنع معها إمكان التمييز بين البيوت أو الأمر رقم ما يبدو في الظاهر ورغم .

يترتب على تماسك البدنة بالشكل الذي رأيناه في الفصل السابق أن المجتمع يعطى الجماعة القرابية كل الأهمية والاعتبار ، بينما ينزل الأفراد الذين يؤلفون هذه الجماعات منزلة ثانوية بحت. أو يقول أدق : تميل شخصية الفرد إلى أن تذوب وتختى في الجماعة القرابية التي يستمد منها كل كيانه ومقوماته ومكانته الاجتماعية . والواقع أنه لا يمكن فهم ميكانيزم النار وعداوة الدم التى قد تستمر أجيالاً طويلة إلا في ضوء هذا المبدأ : مبدأ إنكار قيمة الفرد كفرد أو التهوين من أمره في سبيل إعلاء قيمة الجماعة القرابية. وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ فإننا في الكلام عنه بالتفصيل إلى الفصل التالي حيث تحاول تفسير الدور الذي يلعبه نظام الثأر في البناء الاجتماعي. إنما المهم هنا هو أن نتذكر دائماً أن ماهية الثأر تتبلور في البناء القراقي الذي يعتبر الفرد فيه مجرد جزء مكون في وحدة كبيرة متماسكة فعالة ، وهذا يعنى بالضرورة أن هذه الوحدة تنظر إلى أى اعتداء يقع على الجزء كما لو كان واقعاً على الكل ؛ ويترتب على ذلك اعتبار المسئولية مسألة جماعية تقع على عاتق الجماعة القرابية كلها . ترجی

ولقد سبق أن رأينا المثل الشائع في بني سميع الذي يقول : المعركة بدنات المختلفة التي تتألف منها البدنة . والدم بيوت . . وهذا المثل يلخص لنا الموقف أصدق تلخيص ويعبر لنا من نظرة الناس إلى القتال والثأر . فحادث القتل الذي يروح ضحيته فرد واحد إنما يختبر إهانة الجماعة قرابية متماسكة ومتعاونة كما يعتبر في الوقت نفسه خسارة فادحة لها ... والنزاع البسيط الذي يبدأ عادة بين شخصين اثنين سرعان ما يشتد ويعنف ويشع نتيجة لانضمام بعض الأقارب إلى كل من الشخصين المتنازعين . A

والواقع أن هذا الميل إلى اتساع نطاق المسئولية واتساع دائرة الجماعة الداخلة. في الصراع كثيراً ما تتعدى حدود البدنة التى ينتمى إليها كل من القاتل والتقتيل إلى البدنات الأخرى المنضمة إلى كل من الطرفين ، وهذا في حد ذاته يسبب كثيراً من التعقيد ويؤدى إلى تفاقم حالات القتل والثار واستمرار عداوة الدم أجيالاً طويلة . وينشأ هذا الوضع عن الموقف الذي سبق أن أشرنا إليه في الفصل