لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غري زمني، وكنت في زمن شعاره الطاعة، التمرد على سلطة الآباء، وعلى املعلمني وعلى أولي الأمر — وتعلمت أول أمري في َّاب حقري، يضرب على الهفوة وعدم ُكت الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك. َّابي على الفول النابت والفول املدمس، وأنت تعيش في روضتك على وكنت أعيش في كت ً اللبن والشاي والبسكويت وما إلى ذلك أيضا. ثم ملا صبوت تعلمت في املدارس الفرنسية حيث تنقل إليك في تعاليمها كل أساليب املدنية الغربية — وتربيت أنا في وسط كله دين — دين في الكتب ودين في الحياة الاجتماعية ودين في أوساطي كلها. وتربيت أنت في مدارس أو جامعات لا يذكر فيها الدين ً إلا بمناسبات. ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة، ونشأت أنت في وسط تجالسك الفتاة في جامعتك وتشاهدها في إلى ولدي أوساطك وقد أخذت من الحرية مثل ما أخذت؛ ولو عددت لك الفروق بيني وبينك، ولا يزال بيني وبينك وجوه شبه أعمق من هذه املظاهر، فالتغريات بني الناس مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة تغريات سطحية وأمور عرضية؛ أما الإنسان في جوهره والجمعيات البشرية في نزعاتها الأصيلة فترجع إلى أصول واحدة، ومن أجل هذا كانت تجارب السلف تفيد الخلف. فلأقص عليك شيئًا من تجاربي التي أعتقد أنها تفيدك، أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه، لقد احتملت في سبيل ذلك بعض الآلام، واستفدت منه ثقة الناس بما أقول وما أعمل، واستفدت منه حسن ظنهم بما يصدر عني ولو لم يفهموا سببه، ومع هذا فقد استفدت ً منه أيضا ماديٍّا أكثر مما استفاد غريي، ومع هذا فقد ربحوا قليلا وخسروا كثريًا. فلو حسبت ً بالدقة ما كسبت وما خسرت وما كسب هؤلاء وما خسروا لوجدتني أسعد حالا وأوفر حظا. فإذا أردت أن تنتفع بتجربتي فالتزم الحق والصدق والعدل في جميع أعمالك مهما ٍّ تكن النتيجة. نعم رأيت من زملائي من تمسكوا بهذه الفضيلة فخسروا كثريً ولكن لم يكن عيبهم أنهم التزموا الحق والصدق والعدل، فلم يكن الذنب ذنب الحق، ولا تتعجلن النتيجة فقد تمس من الحق نارا، ولكن ذلك أشبه ما يكون بالامتحان، إن صبرت له انقلبت النار جنة ً واللفحة الحارة نسيم ً ا عليلا. 10 رسالة إلى ولدي ً ومن أهم تجاربي أيضا أني رأيت كثريًا من الناس يخطئون فيظنون أن املال هو كل شيء في الحياة. يبيعون أنفسهم للمال ويحاولون أن يتزوجوا للمال ويضيعون أعمارهم للمال، فمنهم من بدأ حياته يطلب املال على أنه وسيلة ثم استمر في طلبه بعد أن استوفى ً، ومنهم من صرف حياته وتفكريه في املال وفي الاستزادة منه حاجته منه فانقلب غاية حتى فقد سعادته بل وفقد نفسه، وقد دلتني التجارب على أن أسعد الناس من وضع ا ولم يذل له ذلا ٍّ تاما. ونظر إلى املال على ٍّ ٍّ ً املال في موضعه اللائق به، ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة. فقد كان الدين في زماننا متزمتً ً لا سماحة فيه، موضوع على الرف لا يؤبه به. والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه املعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، يعجبني من الدين أن ً يكون سمحا لا غلظة فيه، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب. بعض تجاربي في الحياة وما أكثرها! ولكني أخشى أن أطيل عليك فتمل، وأحب أن أقدمها إليك جرعة فجرعة لتستسيغها وتتذوقها وتأخذ نفسك بتشربها رشفة فرشفة. وفي ضوء ما أسمع ً منك ستتوالى عليك كتبي إليك، تقدم إليك تجاربي كأس ً ا فكأسا. والسلام عليك ممن يحب لك الخري ويود أن تكون خريًا منه، ويتمنى أن يحيا فيك خريًا مما حيَّى في نفسه والسلام. 11 إلى ولدي ٢ أي بني: إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة. فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة املدرسة، ً ورأى مجال اللهو في أوروبا واسع ً ا فسيحا (وأوروبا — على العموم — كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكريه وكل وقته. ولا يرى جامعته ولا ً تراه إلا محافظة على الشكل وحرصا على استجلاب املال من أبيه أو من حكومته أو منهما ًمعا، ويحتال على أبويه في تحصيل املال بكل وسيلة، فهو من فرط جده محتاج إلى شراء كثري من الكتب، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وأخريًا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضمريه وذهب علمه وانحط خلقه. ً ومن الدارسني في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك — وهم أقل عددا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غري حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غري فرق، وظلوا يعملون ويكدون حتى نالوا الدرجة العلمية وأتت التقارير عنهم إلى وزارة املعارف وإلى آبائهم بأنهم مثال الجد والنشاط والنجاح العلمي، ثم عادوا يحملون شهادتهم ويعملون فيما عهد إليهم أن يعملوا. ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، 12 رسالة إلى ولدي وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسري على منهجها. هؤلاء قد ً فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل — فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علما وليدرسوا خلقً ا — يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبني مصر، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومما تقع عليه العني املفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائق ً والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسا وفي كل خطوة يخطوها ً ا آخر جديدا، إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقً ً ويعود إلى بلده وقد اكتسب علما كثريًا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم املختلفة، وتعلم نظام الأسرة من البيت الذي نزل فيه وما دار فيه من أحاديث وما حدث فيه من أحداث. وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود ً املعقول، وكما اختلف املتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم. فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبني عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبًا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فإن كلف عملا جدي فعلى هامش الحياة. أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغري منها شيء. ولكنه ملا عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه 13 إلى ولدي اليأس . وتذكر ً ما كان قد نسيه من ورق يغيب بني الإدارات أشهرا من غري أن يبت فيه، وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. وحاول أول الأمر أن يغري شيئًا من ذلك فلم يستطع، ً فيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزا عليه لا أمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه. كل هؤلاء — يا بني — قد رأيت نماذج منهم، إنما أحب — إذا ً عدت وقد اكتسبت علم ً ا ونفسا وقلبًا — أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، وتجتهد — ما أمكنك — في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخري ألا يبعث؛ فإن هم استولى عليهم «القرف» واقتصروا على التقزز مما يرون وإطلاق ألسنتهم بالعيب في أمتهم والإشادة بذكر أوروبا ومحاسنها كانت خسارتنا فيهم مضاعفة .


النص الأصلي

إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غري زمني، وربيت تربية غري تربيتي، ونشأت في بيئة غري بيئتي لقد كنت في زمني عبد التقاليد والأوضاع، وأنت في زمن يكسر التقاليد والأوضاع، وكنت في زمن شعاره الطاعة، الطاعة لأبي ولأولياء أمري، وأنت في زمن شعاره التمرد، التمرد على سلطة الآباء، وعلى املعلمني وعلى أولي الأمر — وتعلمت أول أمري في َّاب حقري، نجلس فيه على الحصري، ويعلمنا مدرس جبار، يضرب على الهفوة وعدم ُكت الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وأنت تعلمت في روضة الأطفال حيث تشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة، وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك. َّابي على الفول النابت والفول املدمس، وأنت تعيش في روضتك على وكنت أعيش في كت ً اللبن والشاي والبسكويت وما إلى ذلك أيضا. ثم ملا صبوت تعلمت في املدارس الفرنسية حيث تنقل إليك في تعاليمها كل أساليب املدنية الغربية — وتربيت أنا في وسط كله دين — دين في الكتب ودين في الحياة الاجتماعية ودين في أوساطي كلها. وتربيت أنت في مدارس أو جامعات لا يذكر فيها الدين ً إلا بمناسبات. وكان يذكر الدين في وسطنا دائما ليحترم، وكثريًا ما يذكر الدين في وسطك َ ليهاج ً م. ونشأت في وسط لا تذكر فيه السياسة إلا ملاما، ونشأت في وسط كله سياسة وإضراب وأكثر من الإضراب. ونشأت في وسط لا يعرف املرأة إلا محجبة، ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة، ونشأت أنت في وسط تجالسك الفتاة في جامعتك وتشاهدها في إلى ولدي أوساطك وقد أخذت من الحرية مثل ما أخذت؛ ولو عددت لك الفروق بيني وبينك، في زمني وزمنك، وتعليمي وتعليمك، وبيئتي وبيئتك، لطال الأمر. ولكن برغم كل هذا فالفروق مهما كانت فروق جزئية، ولا يزال بيني وبينك وجوه شبه أعمق من هذه املظاهر، فالتغريات بني الناس مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة تغريات سطحية وأمور عرضية؛ أما الإنسان في جوهره والجمعيات البشرية في نزعاتها الأصيلة فترجع إلى أصول واحدة، ومن أجل هذا كانت تجارب السلف تفيد الخلف. فلأقص عليك شيئًا من تجاربي التي أعتقد أنها تفيدك، مهما اختلفت بيئاتنا ومدارسنا وثقافتنا. أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه، وتحري العدل وعمله، يكسب الإنسان من املزايا ما لا يقدر، لقد احتملت في سبيل ذلك بعض الآلام، وأغضبت بعض الأنام، وضاعت عليَّ من أجله بعض املصالح، ولكني برغم ذلك كله قد استفدت منه أكثر مما خسرت، لقد استفدت منه راحة الضمري، واستفدت منه ثقة الناس بما أقول وما أعمل، واستفدت منه حسن ظنهم بما يصدر عني ولو لم يفهموا سببه، ومع هذا فقد استفدت ً منه أيضا ماديٍّا أكثر مما استفاد غريي، ممن لم يلتزموا الحق ولم يراعوا الصدق والعدل. ُ لقد وجدت في أوساط كثرية وعاشرت زملاء كانوا يرضون رؤساءهم أكثر مما يرضون ضمائرهم، ويقولون ما يعجب الناس لا ما يعتقدون أنه الصدق، ويرتكبون الظلم طلبًا ً للجاه أو العلو في املنصب، ومع هذا فقد ربحوا قليلا وخسروا كثريًا. لقد خسروا الفضيلة وخسروا الضمري، وفازوا بقليل من الحظ العاجل تبعه كثري من الفشل الآجل. فلو حسبت ً بالدقة ما كسبت وما خسرت وما كسب هؤلاء وما خسروا لوجدتني أسعد حالا وأوفر حظا. فإذا أردت أن تنتفع بتجربتي فالتزم الحق والصدق والعدل في جميع أعمالك مهما ٍّ تكن النتيجة. ً ا وفشلوا فشلا ً ذريعا، نعم رأيت من زملائي من تمسكوا بهذه الفضيلة فخسروا كثريً ولكن لم يكن عيبهم أنهم التزموا الحق والصدق والعدل، بل عيبهم أنهم التزموا هذه الصفات في سماجة، فقالوا الحق في غري أدب والتزموا الصدق في غري لباقة، وتحروا العدل َّم من هذا أن في غري لياقة، فلم يكن الذنب ذنب الحق، ولكن الذنب ذنب السماجة. فتعل تقول الحق في أدب وتتحرى العدل والصدق في لباقة ولياقة. فمن غضب بعد ذلك كان ً الذنب ذنبه ولا ذنب عليك، ولا تتعجلن النتيجة فقد تمس من الحق نارا، ويهب عليك من العدل لفحة جحيم، ولكن ذلك أشبه ما يكون بالامتحان، إن صبرت له انقلبت النار جنة ً واللفحة الحارة نسيم ً ا عليلا. 10 رسالة إلى ولدي ً ومن أهم تجاربي أيضا أني رأيت كثريًا من الناس يخطئون فيظنون أن املال هو كل شيء في الحياة. يبيعون أنفسهم للمال ويحاولون أن يتزوجوا للمال ويضيعون أعمارهم للمال، ويفرطون في الفضيلة للمال، وقد أقنعتني التجارب أن املال وسيلة من وسائل ٍّ ا؛ بشرط أن يطلب باعتدال وينفق في اعتدال، وبشرط ألا يكون ما تحصله السعادة حق كثريً ٍّ ا جم ً ا، فتنقلب عبد ً ا له، وبشرط أن يبقى املال وسيلة أبد ً ا ولا ينقلب غاية أبدا. فإن أكثر الناس وقعوا في متاعب شتى من هذه الأخطاء. فمنهم من بدأ حياته يطلب املال على أنه وسيلة ثم استمر في طلبه بعد أن استوفى ً، ومنهم من صرف حياته وتفكريه في املال وفي الاستزادة منه حاجته منه فانقلب غاية حتى فقد سعادته بل وفقد نفسه، وقد دلتني التجارب على أن أسعد الناس من وضع ا ولم يذل له ذلا ٍّ تاما. ونظر إلى املال على ٍّ ٍّ ً املال في موضعه اللائق به، فلم يرفضه رفضا بات أنه وسيلة من وسائل السعادة لا كل السعادة، ولم يطلبه إلا مع الشرف والعزة والإباء. فإن تعارض معها ضحى املال للفضيلة والغنى للضمري. ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة. ولكن أصدقك ا أنه لم يعجبني موقف زماننا من الدين ولا موقف زمانك، فقد كان الدين في زماننا متزمتً ً لا سماحة فيه، متشددا لا لني فيه، مغلقً ا لا عقل فيه، والدين في زمانكم متضائل لا حياة فيه، منسي لا ذكر له، موضوع على الرف لا يؤبه به. والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه املعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، ويملأ القلب رحمة وعطفً ا وحبٍّا لخري الإنسانية. يعجبني من الدين أن ً يكون سمحا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، وأن الدين الصحيح لا يناقض العلم الصحيح، وأن لا بد منهما ً جميعا للإنسانية، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب. هذه، يا بني، بعض تجاربي في الحياة وما أكثرها! ولكني أخشى أن أطيل عليك فتمل، وأحب أن أقدمها إليك جرعة فجرعة لتستسيغها وتتذوقها وتأخذ نفسك بتشربها رشفة فرشفة. أذكر لي رأيك فيها وموقعها عندك ومبلغ استعدادك لقبولها، وفي ضوء ما أسمع ً منك ستتوالى عليك كتبي إليك، تقدم إليك تجاربي كأس ً ا فكأسا. والسلام عليك ممن يحب لك الخري ويود أن تكون خريًا منه، ويتمنى أن يحيا فيك خريًا مما حيَّى في نفسه والسلام. 11 إلى ولدي ٢ أي بني: إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، والذين درسوا قبلك في أوروبا أشكال وألوان، اختلفت منازعهم واختلفت اتجاهاتهم، واختلفوا في مقدار نجاحهم وفشلهم، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة. فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فرآها في أوروبا موفورة. فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة املدرسة، وأصبح أمري نفسه ليس عليه رقيب ولا حسيب، ً ورأى مجال اللهو في أوروبا واسع ً ا فسيحا (وأوروبا — على العموم — كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكريه وكل وقته. نهاره نائم وليله عابث، ولا يرى جامعته ولا ً تراه إلا محافظة على الشكل وحرصا على استجلاب املال من أبيه أو من حكومته أو منهما ًمعا، وهو يلهو ويوهم أباه أنه يجد، ويعبث ويخدع من في مصر بأنه دائب في طلب العلم، ويحتال على أبويه في تحصيل املال بكل وسيلة، فهو من فرط جده محتاج إلى شراء كثري من الكتب، ومن فرط البرد محتاج إلى كثري من امللابس، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وكل ما يأتيه من هذه الحيل مصروف في شهواته ولذاته. وأخريًا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضمريه وذهب علمه وانحط خلقه. ً ومن الدارسني في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك — وهم أقل عددا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غري حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، قد نقلوا حجرتهم في مصر إلى حجرة في إنجلترا أو فرنسا، وغريوا كتبهم في مصر إلى كتبهم في إنجلترا وفرنسا، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غري فرق، وظلوا يعملون ويكدون حتى نالوا الدرجة العلمية وأتت التقارير عنهم إلى وزارة املعارف وإلى آبائهم بأنهم مثال الجد والنشاط والنجاح العلمي، ثم عادوا يحملون شهادتهم ويعملون فيما عهد إليهم أن يعملوا. هؤلاء قد نمت عقولهم وغزر علمهم، ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، وهؤلاء الآخرون لا يعجبونني كما لم يعجبني الأولون. 12 رسالة إلى ولدي وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسري على منهجها. هؤلاء قد ً فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل — فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علما وليدرسوا خلقً ا — يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، وهو دراسة الحياة الاجتماعية في إنجلترا أو فرنسا أو أملانيا أو أمريكا، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبني مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومن الرحلات التي تنظمها الهيئات، ومن الحفلات التي تقام في املناسبات، ومما تقع عليه العني املفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائق ً والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسا وفي كل خطوة يخطوها ً ا آخر جديدا، فائدة. إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقً ً ويعود إلى بلده وقد اكتسب علما كثريًا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم املختلفة، وتعلم نظام الأسرة من البيت الذي نزل فيه وما دار فيه من أحاديث وما حدث فيه من أحداث. وعرف الشعب الإنجليزي أو الفرنسي مما شاهده في الشارع ودور السينما والتمثيل وما اشترك فيه من رحلات ومن معاملاته اليومية مع الناس، وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود ً املعقول، وأمتع عقله في حدود املعقول أيضا. وكما اختلف املتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم. فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبني عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبًا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فالحياة في نظره لذة ٍّا ً منتهزة ولذة مرتقبة ولذة مأسوف على ضياعها ولا شيء غري ذلك، فإن كلف عملا جدي فعلى هامش الحياة. ً ومنهم من عاد وكأنه لم يخرج من بلده، إلا علما حصله أو شهادة نالها، أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغري منها شيء. ومنهم من استفاد فائدة كبرى من أوروبا في علمه ونظرته الاجتماعية ومعرفته بكثري من دقائق الحياة في البلاد التي رحل إليها، ولكنه ملا عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه 13 إلى ولدي اليأس ... اصطدم بالفوضى في إدارة البعثات وفي وزارة املعارف وفي وزارة املالية، وتذكر ً ما كان قد نسيه من ورق يغيب بني الإدارات أشهرا من غري أن يبت فيه، وورق يسار فيه بسرعة البرق لأن صاحبه «محسوب»، ورأى مستحقٍّ ا يهمل وغري مستحق يكافأ، ورأى البيوت وهرجلتها والشوارع وفوضاها والناس وقذارتهم والفقراء وبؤسهم، وقارن بني ما كان يعيش فيه من نظام وعدالة ونظافة وأناقة، وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. وحاول أول الأمر أن يغري شيئًا من ذلك فلم يستطع، ً فيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزا عليه لا أمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه. كل هؤلاء — يا بني — قد رأيت نماذج منهم، ولا أحب أن تكون أحدهم، إنما أحب — إذا ً عدت وقد اكتسبت علم ً ا ونفسا وقلبًا — أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، ونقائصهم فتشفق عليهم، وتجتهد — ما أمكنك — في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، فحاول الإصلاح في بيئتك الخاصة ... وفي طلبتك الذين تعلمهم والأساتذة الذين تخالطهم والبيت الذي تنشئه والصديق الذي تجالسه، وفي هذا القدر كفاية للرجل الطيب املحدود الإرادة. فإذا اتسعت إرادتك وقويت عزيمتك وشغلت بعد منصبًا رئيسيٍّا استطعت أن تنشر نفوذك وتعمم إصلاحك. لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخري ألا يبعث؛ لأنا ٍّ بذلك نخلق جوا من اليأس خانقً ا، وقلة العلم مع الأمل والطموح خري من كثرته مع اليأس والقنوط. إن الأمة ترسل مبعوثيها ليكونوا خري ذخرية لها وقادة إصلاحها ومتزعمي نهضتها، فإن هم استولى عليهم «القرف» واقتصروا على التقزز مما يرون وإطلاق ألسنتهم بالعيب في أمتهم والإشادة بذكر أوروبا ومحاسنها كانت خسارتنا فيهم مضاعفة ... خسارة في الأرواح


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

واذا نحن حذفنا ...

واذا نحن حذفنا من القانون التعويضي جملة القواعد التي انتهينا الآن من الحديث عنها ، وهو يشتمل على قان...

يتم الإشهار في ...

يتم الإشهار في اجل أقصاه 07 أيام عن طريق الإعلان في يوميتين إحداهما باللغة العربية والأخرى باللغة ال...

ترك الملك شيشنق...

ترك الملك شيشنق الذي كان ذا أصول أمازيغ تأثير كبير على السياسة والقبائل الأمازيغية في شمال أفريقيا،...

كان لا بد على ا...

كان لا بد على المغرب الإنتباه من غفوة السكينة ومن الهدوء إلى الإفاقة على صدمة الإضطراب والقلق، فهو ل...

- وَفِي هَذِهِ ...

- وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ سَأَلَ آدَمُ الْجَدَّةَ قَائِلاً : «وَمَاذَا فَعَلَ عَلِيَّ ؟» أَجَابَتِ...

Classification ...

Classification criteria for routing protocols in MWSNs The essential aim of different routing techni...

والملاحظ من نص...

والملاحظ من نص الماده 61 انا المخالفات يمكن أن تنشأ عن ممارسة المهنة كما يمكن أن تنشأ عن أعمال خارج...

Carbohydrate ba...

Carbohydrate based fat replacers The functionality of carbohydrate-based fat replacers depends on tw...

الفصل الثالث هي...

الفصل الثالث هياكل السوق Market Strucure يرتبط هيكل السوق بعدد المشترين والبائعين في ذلك السوق وبالن...

What does it me...

What does it mean to think scientifically? We might label a preschooler’s curious question, a high s...

بدأت فكرة العلم...

بدأت فكرة العلمانية تغزو العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان لكنها لم تتمكن إلا في بداية القرن...

لتنافس الهجومى ...

لتنافس الهجومى فى الأسواق المحلية والدولية ؟ نتيجة لحرية التجارة وإنفتاح الأسواق فقد أصبحت الشركات ...