لخّصلي

هذا نصّ مقدمة كتابية وتوثيقية لكتاب "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" لأبي زيد عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م). حققه أحمد هيبة معوض ومحمد بن إبراهيم الأزهري، وصدر في 7 مجلدات (مجلد ثامن للفهارس) عن دار التقوى، متجاوزاً الألف صفحة في بعض المجلدات. يتناول النص منهج ابن خلدون في القراءة التاريخية، مُركّزاً على نقده للتحيز العقائدي والمنظورات الجزئية، مُشدّداً على "التجريح والتعديل" كضوابط بحثية، ومطابقة الرواية التاريخية مع الواقع العمراني والاقتصادي. يقدم أمثلة تطبيقية، كحكم في الهند وزّع ثروة الدولة، مُظهراً عدم منطقية ذلك إلا بتوفر الإنتاج الكافي. يُلخّص المنهج النقدي بمراجعة الضوابط العلمية، مراعاة الواقع المادي، وموضوعية البحث، مُنتقلاً بالتاريخ من التوثيق إلى التفسير العلمي. يتناول النص أيضاً مفهوم العصبية ودورة الدول عند ابن خلدون، مُعرّفاً إياها بالرابط الطبيعي بين أفراد الجماعة، و مُبيّناً آليات التضامن الجماعي، ودور العصبية في نشوء الدولة و تراجعها مع ضعف الروابط القبلية وظهور الرفاهية والترف. يُقدّم أمثلة تاريخية، كتجربة قبائل بربرية، مُظهراً تحوّل العصبية من محرّك للدولة إلى سبب لانهيارها. يُبرز النصّ التداخل بين المنهج والتطبيق، وعلاقة المنهج بالتحقق من روايات نشوء الدول وتحللها عبر معيار العصبية، وارتباط العصبية بالموارد الاقتصادية. يُختم النص بالتأكيد على القيمة المدنية والاجتماعية لرؤية ابن خلدون الشاملة التي تربط القوة الاجتماعية بالبنية الاقتصادية، مُؤكّداً على مكانته المعرفية باعتباره من أوائل من جمع بين الجانبين الاجتماعي والاقتصادي في تحليل التاريخ، مُعتبرًا التاريخ فهمًا لديناميكيات المجتمعات وقوانين تطورها، لا مجرد سردٍ للأسماء والتواريخ.

مقدمة كتابية وتوثيقية
• العنوان الكامل
العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر  .
• المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي (1332–1406 م)، علامةٌ في التاريخ والاجتماع والمنهج النقدي.
• إخراجه وتحقيقه
– تحقيق: أحمد هيبة معوض ومحمد بن إبراهيم الأزهري، دار التقوى للنشر والتوزيع، 7 مجلدات، غلاف ورقي .
– طبع أول في دار الفكر – بيروت، ط1، 2001، 8 أجزاء .
• المجلدات وعدد الصفحات
سبعة مجلدات رئيسية (والثامن للفهارس)، كلّ مجلد يتجاوز الألف صفحة في بعض الطبعات.

⸻

الفصل الأول: منهج ابن خلدون في القراءة التاريخية

1. نقد التحيّز العقائدي والمنظورات الجزئية

ابن خلدون يبدأ بنظرٍ ناقدٍ للمؤرِّخين الذين نقلوا التاريخ من زاوية طائفية أو مذهبية ضيقة. يحذّر من خطورة تأطير الرواية التاريخية وفق أجندات سياسية أو دينية، لأنها تغيّب الوقائع التي لا تلائم المصلحة الخاصة.

2. «التجريح والتعديل» كضوابط بحثية

استعان ابن خلدون بمبادئ علم الحديث حين دعا للتحقق من مصادر النقل والتأكد من عدّة رواة كل حادثة، ورفض قبول أي خبر بمُجرّد ذكره في كتاب واحد أو روايته ناقلٌ واحد. هذه الفكرة ربطته بنهجٍ أكثر موضوعية في التوثيق.

3. مطابقة الرواية مع الواقع العمراني والاقتصادي

أعظم إضافاته أنّه ارتأى أن يقارن الحوادث التاريخية بظروف العمران والقدرة الاقتصادية في ذلك الزمان والمكان. فمثلاً، إذا ورد أنّ ملكاً أنفق مبالغ طائلة لا تتناسب مع إيرادات دولته، فيُعَدُّ الخبر عقلياً مردوداً. هذا المعيار جعل التاريخ علماً اجتماعياً بامتياز، لا مجرد سردٍ للوقائع.

4. أمثلة تطبيقية

يضرب مثالاً على حكمٍ في الهند أُشيع أنّه وزّع ثروة الدولة بين الشعب، فاعتبر ابن خلدون ذلك غير منطقي ما لم تثبت قدرة هذه البلاد على إنتاج مثل هذه الثروة في إطار مؤسساتها الاقتصادية والزراعية.

خلاصة الفصل

تأسيس منهج نقدي للتاريخ يعتمد على:
1. مراجعة الضوابط العلمية: التحقق من السند والمصدر.
2. مراعاة الواقع المادي: توافق الرواية مع إمكانيات العمران.
3. موضوعية البحث: الابتعاد عن الأهواء والطّوائف.

بهذا ينتقل التاريخ من الوظيفة التوثيقية إلى وظيفة التفسير العلمي للظواهر الاجتماعية.

⸻

الفصل الثاني: مفهوم العصبية ودورة الدول

1. تعريف العصبية

يعرفها بأنها الرباط الطبيعي بين أفراد الجماعة –قبيلةً أو عشيرة– مبني على التماسك الاجتماعي والمصلحة المشتركة. هي طاقة أولية لإطلاق حركة الدولة.

2. آليات التضامن الجماعي

تتجسّد العصبية في التضامن ضد العدوّ الخارجي وتبادل المنافع الداخلية (حماية، قتال، تجارة). وفي المجتمعات البدوية، كانت العصبية شرط البقاء، فجذبت إليها القلوب قبل الأراضي.

3. 
   

   العصبية ونشوء الدولة
   • مرحلة التشكّل: عندما تتفوق عصبية قبيلة ما على القبائل المحيطة –بفضل الحنكة أو القوة– تنشأ دولة بدائية.
   • قمة النفوذ: تحتضن هذه الدولة مؤسسات أولية: جيش، حكم، إدارة ضرائب. تستمد طاقتها من استمرارية التضامن القبلي.

   
   


4. 
   

   تراجع العصبية وانهيار الدولة

   
   

مع انتقال أبناء الجماعة إلى العمران والمدن، يضعف الرابط القبلي. يرتدّ بعضهم إلى الانشغال بالترف والتفاخر، فتتصدع روابط التضامن، ويفقد النظام السياسي صلابتَه.

5. أمثلة تاريخية

يفصل ابن خلدون تجربتين: قبائل بربرية مغربية قامت بدولة قوية، ثم سرعان ما انهارت بعد جيلين حين ضعفَت العصبية بسبب الرفاهية والتحضر.

خلاصة الفصل

العصبية سابقاً كانت المحرّك الفعلي لولادة الدول واستمرارها، لكنها تحوّلت في عصر الاستقرار والثراء إلى شوكة في خاصرة الدولة، فتؤدي إلى تفككها.

⸻

التوسع والتداخل بين الفصلين

العلاقة بين المنهج والتطبيق
• في منهج القراءة: يفرض علينا التحقق من روايات نشوء الدول وتحللها عبر معيار العصبية.
• في اقتصادية العمران: تتداخل العصبية مع الموارد الاقتصادية؛ فدولة ذات عصبية قوية لكن موارد ضعيفة سرعان ما تتهاوى.

القيمة المدنية والاجتماعية

ابن خلدون لم يتوقف عند عرض المفهومين، بل عبّر عن رؤية شاملة تربط بين القوة الاجتماعية (العصبية) والبنية الاقتصادية (العمران)، مما يجعله أول من جمع بين الجانبين الاجتماعي والاقتصادي في تحليل التاريخ.

المكانة المعرفية

تؤشر هذه الأفكار إلى أن التاريخ عنده ليس سرداً للأسماء والتواريخ، بل فهمٌ لديناميكيات المجتمعات وقوانين تطورها – وهو ما يعدّ من أعمدة علم الاجتماع