لخّصلي

تتجاوز عملية القراءة نطاق المدرسة والأكاديميا لتشمل مختلف جوانب التواصل اليومي. تفرض العلاقات التواصلية على المتلقي امتلاك الآليات اللازمة لفهم المعاني الموجهة إليه، فالعلاقة بين النص والقارئ علاقة سلطوية، أحيانًا لا شعورية، يدعو فيها النص القارئ ويطلب منه أشياء قد يقبلها أو يرفضها. مثال ذلك الإعلانات التلفزيونية التي تسعى لإقناع المستهلك، فبعض المتلقين يقتنعون بسهولة، وآخرون يتأثرون أقل، وبعضهم يرفضها كجزء من مجتمع استهلاكي. كلما تطورت ملكات القارئ الإدراكية، اتسعت أمامه أبواب التأويل. يؤكد سكوت رواية "روبنسون كروزو" عن نص سابق مشابه له، "حي بن يقظان"، وجود نصوص سابقة تؤثر في النصوص اللاحقة. يتألف "عالم ما قبل النص" من روافد لغوية وفكرية وهندسية، والواقع المعاش، وسيكولوجية الكاتب. يستقي النص لغته من بيئته اللغوية، وقد يستخدم الكاتب هندسات نصية من نصوص سابقة، كما فعل بوريس أيخانباوم في دراسته لأسماء شخصيات "المعطف". هذا لا ينفي علاقة النص بالواقع، فاختيار اللهجات يعكس منهج الكاتب ومشروعه الإيديولوجي. يفرغ الكاتب محتواه الفكري في النص، مرتبطًا بمجتمعه وتصوراته. تختلف هندسة النص من نص لآخر، فبعضها خاتمته في بدايته، أو فصولها مرتبة بشكل غير تقليدي، أو صفحات بيضاء فيها، كما في "كتاب الكتاب" ل إدريس شاه، أو "مانيؤو" لرضا أميرخاني. الروايات التفاعلية تفتح نوافذ متعددة للقصة. تتشابه الأفكار والأحداث في كثير من الروايات، لكن هندستها تختلف، مما يخلق تفاوتًا بينها. يربط الواقع المؤثث للنص أحداثًا تاريخية واجتماعية واقتصادية من خلال شخصيات الرواية، يجيب الكاتب من خلالها على أسئلة قديمة أو جديدة. مثال ذلك رواية "فرانكشتاين" لميري شيلي، التي تطرح أسئلة وجودية فلسفية حول الخلق البشري، متأثرة بنصوص علمية وفلسفية سابقة.

إن العملية القرائية لا تنحصر على المجال المدرسي- الأكاديمي الصرف، بل يمكن رصدها في شتى المجالات التواصلية اليومية والعادية. فالعلاقات التواصلية هذه تفرض على القارئ - الناظر- المتلقي و المسلح بالآليات اللازمة من أجل إدراك كل المعاني الموجهة إليه. فلا يمكنه الاستجابة بسهولة و بطريقة صحية لما يتطلبه منه النص. فعلاقة النص بالقارئ علاقة سلطوية، تكون أحيانا لا شعورية و لا تدرك لتوها. إن النص دائما ينادي القارئ باسمه و جنسه و معتقده (كما يقول بذلك، رولان بارط و لوي ألتوسير وآخرون)، و يطلب هذا النص من القارئ ان يقوم بأشياء عدة. أحيانا يرفض القارئ ذلك و أحيانا أخرى يطيع الأوامر و يقبل أفكار النص كنور يقتاد به في حياته. أبسط مثال على ذلك هو الوصلة الإشهارية بالتلفزة: فلقطة لمنتوج "تيدTide " قد حيكت بكل مهارة قبل أن توجه إلى المستهلك من أجل إقناعه بأهمية هذا المسحوق المنظف و تستعمل في ذلك الموسيقى و الألوان و الإشارات الضوئية والإحتيالات السيكولوجية و الكلام المثير. فالمتلقي السادج البسيط الفهم لهذه الوصلة الإشهارية يقتنع بسهولة بجودة المنتوج و لربما قد يتوجه في الساعات الموالية إلى اقتنائه من أجل استعماله في تنظيف الملابس، و هناك البعض الآخر الذي لا يتأثر إلا قليلا، و هناك ربما من يضغط على زر التلفاز كلما ظهرت وصلة إشهارية لأنه يعتبرها جانبا من جوانب المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الذي يلجأ إلى الكذب من أجل التسويق و الشهرة.
إن عملية القراءة إذن ليست عملية ساذجة و كلما تطورت ملكات القارئ المتلقي الإدراكية، كلما انفتحت أمامه أبواب التأويل و تعددت طرق التعامل مع العالم المحيط به. و كما يقول الرومنطيقيون، الذين يكنون للطبيعة كل التقدير، فإن الطبيعة كتاب مفتوح و ما على الشاعر إلا أن يقرئها من خلال فك رموزها و خباياها.
ادن ، فما معنى سكوت رواية روبينسون كروزو (1) للروائي الإنجليزي دانييل دي فو (2) على نص سابق لها و يروي قصة مماثلة لها و هو نص حي بن يقضان للفيلسوف المغربي الأندلسي ابن طفيل؟. إن ما تؤكده هذه الواقعة الأدبية ، ونشير هنا إلى أن مثيلاتها في الآداب العالمية كثيرة، هو وجود نصوص مختلفة تسبق كل نص أدبي و ثقافي و فلسفي معين، وأحيانا تسيره وتسكنه من الداخل. و عالم ما قبل النص لا ينحصر في نص واحد يهيكل البنية النهائية للنص المدروس بل يكون فقط الجزء الضئيل من كل مجموع النصوص أو شضياها المتداخلة في النتاج الخام النهائي.
مكونات عالم ما قبل النص
إن العالم الماقبل- نصي مكون أساسا من عدة عوامل وهي :
الروافد اللغوية و الفكرية و الهندسية التي يستسقي منها الكاتب- المنتج مادته الخام من أجل صناعة النص الروائي او الشعري او الثقافي عموما.
الواقع المعاش بأحداثه التاريخية و الاجتماعية و الاقتصادية المتفاعلة داخل النص و خارجه و التي تؤثث المجال النصي.
سيكولوجية الأنا المنتج للنص والذي تهيكله روافد معقدة عدة.
فما هي الروافد اللغوية و الفكرية والهندسية في النص؟
إن كل نص يستقي لغته و لهجاته و حواراته و خصوصياته الصوتية واللهجية و الإيتيمولوجية من الخليط اللغوي المحيط به و الذي سبق للكاتب التعرف عليه أو استعماله. و قد يستفيد الكاتب من هندسات نصية و بنيوية درسها من قبل في نصوص مختلفة أخرى لكتاب و شعراء سبقوه وأثروا في مساره الأدبي سواء داخل وطنه أو خارجه. فيبدع من خلال الاستعارة التقنية و البنية الشعرية والأسلوبية النثرية الخ... فكما يلاحظ الناقد الشكلاني الروسي بوريس أيخانباوم 1920s (3) في دراسته لأقصوصة نيكولاي كوكول "المعطف"، فإن الكاتب اعتمد في اختياره لأسماء شخصيات الأقصوصة من خلال اللعب بأحرف الأسماء فكان يرددها بصوت عال للتأكد من قابلية الرنة الصوتية لتلك الأسماء قبل إسناد وظائف لها في مجرى احداث الأقصوصة.
إن هذا التعامل مع اللغة بهذه الطريقة المرحة قد يشوش جدا على فكرة الواقعية البلزكية والطبيعية naturalism and realism والتي تنظر للأدب كمرآة تتجول في الشوارع (حسب قول الكاتب الفرنسي بالزاك 1850-1799). و لكن هذا لا يعني أن النص الأدبي او الثقافي لا تربطه بالواقع المجتمعي و التاريخي و الاقتصادي و الفكري أي علاقة، بل على العكس من ذلك، فإن التعامل مع اللغة و اختيار لهجات معينة في حوارات الأشخاص و حبك الرواية ليمثل اختيارا أساسيا في المنهج المتبع و المشروع الإيديولوجي للنص و الكاتب معا.
و هذا يدخل في باب المحتوى المعنوي-الفكري للنص. فصاحب النص يفرغ فيه محتوى فكريا يربطه بالمجتمع الذي يعيش فيه و المجتمع الذي يتصوره كمجتمع مثالي يحقق احلامه الإصلاحية او عوامله المثلى التي يثوق إليها. ولو تعلق الأمر باللعب بالكلمات وهندسة النص في حال الكتاب والشعراء الحداثيين ومابعد الحداتيين (أمثال الشاعر الأمريكي إ.إ. كممين و روب جرييي الفرنسي وجيمس دجويس الإرلندي......). و كل هذه الجوانب اللغوية و الفكرية تلعب دورا مهما في الهندسة التي يربطها الكاتب بالنص. فهناك نصوص تكون خاتمتها في افتتاحيتها (في الرواية والسينما والمسرح)، أو يمكن ترتيب فصولها حسب تراتبيات مختلفة ( كرواية هوبسكوتش للكاتب الأرجنتيني خوليوكورتازار)، و هناك نصوص بدون افتتاحية و لا خاتمة، و تكون افتاحيتها إعتباطية ويشير الكاتب نفسه إلى ذلك، و هناك نصوص أخرى تعطي الحرية التامة للقارئ في ترتيب فصولها ، و أخرى فيها أوراق بيضاء بين صفحاتها المسطورة. فكتاب الكتاب The book of the Book 1986لإدريس شاه يحتوي على 10 صفحات فارغة، ورواية الكاتب الإيراني رضا أميرخاني مــــــــانيؤو(ضميري) تحتوي على فصل كامل صفحاته بيضاء. وكل هذا يدخل في نطاق الإبداع الأدبي والفلسفي.
ومع تطور تقنيات العالم الافتراضي الآن فإن الروايات التفاعلية أو ما يسمى بالهايبر فيكشن تفتح نوافد متعددةعلى القصة وتقترح على القارىء خيارات وروابط شتى.
و للهندسة الشكلية دور كبير في تحديد نوعية الخلق و الإبداع لدى المنتج، فكثيرا ما أحرز كتاب على جوائز عالمية مهمة بسبب اختياراتهم الهندسية البارعة، فالأفكار و الأحداث الاجتماعية و المشاكل النفسية تكون غالبا متشابهة بين الكثير من الروايات و لكن هندسة نسجها في قوالب مختلفة هي التي تخلق تفاوتات مختلفة بين النصوص و منتجيها.
ولكن كيف يجد الواقع المعاش والأحداث التاريخية سبيلها الى النص؟
إن الواقع المؤثث للنص يربط بين أحداث تاريخية و اجتماعية و اقتصادية تنصهر في بعضها من خلال أشخاص ووقائع الرواية و شخصية الكاتب – المنتج. فكل الأحداث سواء اكانت محلية او عالمية تاريخية او خيالية تجد طريقها إلى النص من خلال ما يقوم به أشخاص الرواية او المتكلمون في قصائد شعرية و نصوص ثقافية اخرى. و من خلالها أيضا يجيب الكاتب على عدة تساؤلات يطرحها سواء اكانت لأول مرة او تكرر طرحها لأنها لم تتم الإجابة عنها من قبل، و كثيرا هي الأسئلة الفكرية و الفلسفية و السيكولوجية والشكلية الإبداعية الصرفة التي كثر طرحها في نصوص مختلفة و لكن الأجوبة عنها تبقى لا تشفي الغليل.
ومثال ذلك رواية "فرنكتشتاين (4) للروائية الإنجليزية ميري شيلي (5)، فإن هذه الرواية تحكي قصة عالم جمع أطرافا بشرية من مقبرة و حاول خلق إنسان جديد بروحه من خلال صعقه بالكهرباء الملتقط من البرق.
وقد نجح العالم فيكتور فرنكتشتاين في خلق بشر و لكنه و لسوء حظه لم يكن كباقي البشر فقد أصبح آلة للدمار و التقتيل حيث أنه لم يقبل أن يخلق على حالته من أشلاء مختلفة يشمئز منها كل الناس بالرغم من أنه لم يكن ليسيء لأي أحد في البداية، فمن خلال هذه الرواية طرحت الكاتبة الإنجليزية مايري شيللي أسئلة وجودية، طرحها فلاسفة آخرون مند الإغريق و غيرهم وهذه الأسئلة الفلسفية الوجودية و إشكالية الخلق البشري كانت نتاج عصر الأنوار و صراع العلم و الدين و سعي الفرد المفكر لشق طريق التحرر من أجل إثبات إمكانية الذات البشرية كركيزة للكون الخ. فالنص الروائي هنا لا يمكنه أن يوجد بمعزل عن النصوص المختلفة من شتى العلوم والتي أثرت في فكر هذه المرأة الإنجليزية في بداية القرن 19.