لخّصلي

يتناقض عالم السريرة مع العالم الحقيقي، كما يتناقض التعصب مع التسامح، والجنون مع العقل، والسكر مع الوضوح. يُبرز النص تشابهًا بين ميشيل فوكو ومدرسة فرانكفورت، حيث يتبنى فوكو برنامجًا بحثيًا مضادًا للمثالية، يركز على "الحقيقة" كـ "نظام إجراءات لإنتاج المقولات". يشترك فوكو مع مدرسة فرانكفورت في الاهتمام بآليات السلطة، مستكشفًا تجلياتها في مواقع متعددة كالمستشفيات، السجون، والمدارس. على عكس الليبراليين والماركسيين الذين يركزون على الدولة كمصدر للسلطة، يرى فوكو أن السلطة طاقة منتجة تتغلغل في مختلف جوانب الحياة. يكشف فوكو عن "تطبيع" السلطة، موضحًا كيف تصبح أجسامنا ونفوسنا طيعة. يتجلى تقارب فوكو مع مدرسة فرانكفورت في اهتمامه المتجدد بفلسفة كانط، لا كفيلسوف مجرد، بل كناقد للحاضر التاريخي. يُشير النص إلى أن فوكو أعاد تقييم حركة التنوير، معربًا عن إعجابه بكانط. يتضح هذا التوجه في إعادة صياغة فوكو لمشروعه الفكري ضمن إطار النظرية النقدية، مما يمثل تحولًا مرموقًا في تفكيره. يختتم النص بالتأسف على عدم معرفة مدى تأثير هذا التحول في أعماله المستقبلية.

عالم السريرة مضاد للعالم الحقيقى تضاد التعصب للتسامح، وتضاد الجنون للعقل، وتضاد السُّكْر للوضوح. فالتسامح لا يوجد إلا فى الشيء، ولا يوجد العقل إلا فى تماهى الشىء مع ذاته، ولا يوجد الوضوح إلا فى المعرفة المؤكدة للأشياء. عالم الذات ليل، ذلك الليل المتغير الذى نرتاب فيه ريبة لا نهاية لها، وهو الذى يخلق أثناء نوم العقل وحوشًا شائهة. وتقول حجتى إن الجنون نفسه يقدم فكرة مخلخلة عن "الذات" المتحررة، غير الخاضعة للنظام الحقيقى ولا يشغلها إلا الحاضر.
جورج باتاى (Georges Bataille) الجانب الملعون
لا شك أن النقد الثقافى عند ميشيل فوكوه - من بين مجموعة المفكرين الذين شاع ارتباط عملهم بمذهب ما بعد البنيوية الفرنسى - أقرب ما يرتبط بمشاغل مدرسة فرانكفورت. وإذا كان سائر أصحاب ما بعذ البنيوية قد اضطروا مرارًا للدفاع عن أنفسهم ضد تهمة اتباع مذهب "النصوص الحاسوبية" [الافتراضية]، فإن فوكوه ملتزم، مثل أصحاب النظرية النقدية، ببرنامج بحثى مضاد للمثالية يقول إن "الحقيقة شىء موجود فى هذا العالم،(١) ويشترك فوكوه مع مدرسة فرانكفورت فى الاعتقاد بأن
"الجدلية الروحية" لابد من إخضاعها لتقنيات التحليل المادى، فهذا هو الأسلوب الوحيد القادر على الكشف عن وجود الروح. وهكذا يقول فوكوه إن "الحقيقة" - وهو يكتب الكلمة بين علامات تنصيص - "يجب أن تفهم باعتبارها نظامًا من الإجراءات المرتبة لإنتاج المقولات وتنظيمها وتوزيعها وتدويرها وتفعيلها". وهى، بهذه. الصفة "ترتبط بعلاقة دائرية بنظم السلطة التى تنتجها وتحافظ عليها، وبآثار السلطة التى تؤدى إليها وتكسبها امتدادًا وتوسعًا،،(٢).
وتدل الأقوال التى أوردناها آنفًا، بوضوح وجلاء، على أن ما يشترك فيه فوكوه مع مدرسة فرانكفورت لا يقتصر على مجموعة معينة من الشواغل المنهجية، بل يتجاوز ذلك إلى عدد من الاهتمامات الموضوعية، وعلى رأسها الاهتمام بالآليات التى تتوسل بها . السيطرة والسلطة فى تدعيم هيمنتها علينا تدعيمًا شديدًا. وتتمثل عبقرية فوكوه فى قدرته على استقراء تجليات السلطة فى مواقع لم يخطر لأحد من قبله أن ينظر فيها، أى فى الفروع الدقيقة والفراغات البينية للمجتمع الحديث، فى مستشفيات الأمراض البدنية والنفسية، وفى السجون، وفى المدارس، والثكنات العسكرية، وفى خلوة الاعتراف لدى الكاهن، وفى كتيبات التدريب، بل وفى الخطاب الخاص بالحياة الجنسية قديمًا وحديثًا.
وإذا كان الليبراليون والماركسيون، على حد سواء، يركزون على الدولة، باعتبارها موقع السيادة، والمستودع الأول للسلطة، فإن فوكوه يقول إننا إذا تأملنا النظرية السياسية وجدنا أن "رأس الملك لم تقطع بعد،(٣). ويقول فوكوه إن نموذج السلطة القضائية -
"الفرضية القمعية، التى تقول إن السلطة تتمثل، فى المقام الأول، فى القدرة على الرفض والحرمان والمنع - لابد أن يستعاض عنها بفكرة السلطة باعتبارها طاقة منتجة. وهكذا يقول فوكوه إن سلطة الدول فى الحقيقة "بناء فوقى بالنسبة لسلسلة كاملة من شبكات السلطة التى تستثمر الجسد، والحياة الجنسية، والأسرة، وصلات القرابة، والمعرفة، والتكنولوجيا وهلم جرَّ". وتقتصر فاعلية سلطة الدولة على "قدرتها على الوصول إلى أجساد الأفراد، وأفعالهم، ومواقفهم، وأساليب سلوكهم فى الحياة اليومية. ومن هنا تبرز أهمية المناهج مثل الانضباط المدرسى... ومن هنا تنشأ مشكلات السكان، والصحة العامة، والنظافة وأحوال الإسكان". وهذه التقنيات الجديدة للسلطة تتولى
"إدارة التراكم البشرى والتحكم فيه وتوجيه مساره". ونرى على غرار ذلك أن قيام مجموعات من المهنيين والخبراء بالتركيز الشديد على قضية الحياة الجنسية للإنسان يرجع إلى "وضع النشاط الجنسى فى مركز التقاطع بين التحكم فى الجسد والسيطرة على السكان،(٤). لقد كشف فوكوه، ببراعة الأستاذ المتمكن، عن "تطبيع" الظواهر"المادية الدقيقة للسلطة، وهى التى تجعلنا نحن المتحدثين "ذوى أجسام طيعة"، وذوى نفوس شبه مستقلة يمكن تكييفها بسهولة، ولا شك أن كشفه هذا لا يزال أشد أبعاد عمله الفكرى إثارة، وهو العمل الذى فُجِعْنَا بتوقفه فى منتصف مساره [توفى فوكوه عام وأما أوجه التوازى بين هذا الجانب من عمل فوكوه وبين البرنامج الذى وضعته مدرسة فرانكفورت للبحث النقدى فى العقل النفعى فكثيرة وعميقة (٢٥.
وإلى جانب هذا، نلمح آفاق تقارب فكرى أشد أصالة بين كتابات فوكوه فى أواخر حياته وبين مدرسة فرانكفورت. وكان الدافعين وراء هذا التطور يرجع فى أحد جوانبه إلى تجدذ اهتمامه بفلسفة كانط، لا بفيلسوف التعالى الذى يبحث فى "ظروف إمكانية، الخبرة بل بكانط باعتباره داعية الخطاب الفلسفى للحداثة. ففى النص الذى كتبه كانط بعنوان "إجابة عن السؤال: ما التنوير؟" يبدأ كانط تأملات غير مسبوقة عن طبيعة الحاضر التاريخى ومعناه ومغزاه. ويقول فوكوه إننا نشهد للمرة الأولى "فيلسوفًا يربط مغزى عمله فى مجال المعرفة، بتأمل التاريخ، وبتحليل خاص للحظة المحددة التى يكتب فيها، والتى بسببها يكتب ما يكتب،(٦).
. وربما كان فوكوه يقدر قيمة عملية
التأمل فى ذاتها تقديرًا أكبر من تقديره المضمون تأملات كانط، أنى تعريفه للتنوير بأنه
"الخروج من الوصاية التى يجلبها المرء على نفسه" وما يصاحب ذلك من تأكيد
"لاستخدام العقل فى الحياة العامة". ومع ذلك فإننا إذا جردنا الصيغة الكانطية للاستقلال من دلالاتها القانونية الدفينة - وهى ("لا تعتمد فى فعالك إلا على مبدأ تستطيع أن ترغب أن يصبح قانونًا عامَّا فى الوقت نفسه") - وجدنا أنها تعتبز تبشيرًا أساسيًّا بالشرعة التى وضعها فوكوه فى آخر حياته للتشكيل الجمالى للذات: أى موقف صاحب الهندام المنمق الذى يحول حياته إلى عمل فنى (وإن كانت محاولة فوكوه لإقامة الشرعة الأخلاقية على أساس جمالى لم تحظ بالنجاح فى آخر الأمر، كما سوف نرى).
أضف إلى ذلك أن الهجوم الشديد الذى يشنه كانط على "الغيرية"، أى "عجز المرء عن استعمال عقله من دون الاسترشاد بعقل غيره"، موقف يرتبط بروابط معينة بانتقاد فوكوه لسلطة الخبرة المهنية فى المجتمع الحديث. والواقع أن كانط يستبق بصورة مرموقة عددًا من موضوعات فوكوه قائلاً: "سرعان ما يكتشف الأوصياء الذين تكرموا بالإشراف علينا أن الغالبية العظمى من البشر (بما فى ذلك الجنس اللطيف كله) أن الخطوة التالية على طريق النضج ليست عسيرة فقط بل خطرة أيضًا". ويضيف كانط قائلًا: وهكذا "إذا كان عندى كتاب يتولى الفهم بدلًا منى، ومستشار روجى يقوم بمهمة الضمير بدلًا منى، وطبيب يحكم على طعامى بدلاً منى، وهلم جرًّا، فلن أحتاج إلى أن أبذل أية جهود على الإطلاق،(٧).
إذن فإن هذا البحث فى مضمون الحاضر التاريخى وطبيعته بحث ذو صبغة حديثة متميزة، فالمقصود بالحاضر التاريخى أن تعتبر "الفلسفة إثارة إشكاليات فى الحاضر، وأن يطرح الفيلسوف الأسئلة حول هذا الحاضر الذى ينتمى إليه، والذى عليه أن يقف موقفًا مرتبطًا به،(٨). ويقول فوكوه إن هذا البحث يفسر لنا الروابط العميقة بين مشروعه الخاص عن "علم الأنساب" وبين "البحث النقدى فى العقل النفعى" عند أصحاب النظرية النقدية. وهكذا فإن فوكوه، فى نص من آخر النصوص التى نشرها فى حياته، يضع مشروعه الفكرى المذكور فى إطار النظرية النقدية تمامًا. ويؤكد فوكوه أن على المرء أن يختار "فكرًا نقديًّا يتخذ شكل علم الأنطولوجيا الخاص بنا، وأنطولوجيا الحاضر؛ وهذا هو شكل الفلسفة الذى وضع الأساس لشكل التأمل الذى حاولت أن أعمل من خلاله، إذ يمتد هذا الشكل من هيجيل، عبر نيتشه وماكس ڤيبر، إلى مدرسة فرانكفورت،(٩): فإذا أضفنا إلى هذه الملاحظة ما قام به فوكوه من إعادة تقييمِ وتقديرٍ بحماس بالغ لحركة التنوير الأوروبية، ومنزلة كانط فى تاريخ الفلسفة (إذ كان كانط قد وُصف فى كتاب نظام الأشياء وصفًا مُزْرِيًا باعتباره الأب الفكرى "للعلوم الاجتماعية، الشنيعة التى ترتكز على الإنسان) وجدنا، فيما أرى، اختلافًا مرموقًا فى تفكير فوكوه في مراحله الأخيرة. إذ يقول هابرماس إن هذا الاختلاف عاد بفكر فوكوه "إلى حلقة الخطاب الفلسفى للحداثة وهو الذى كان يتصور أن بمقدوره أن يهدمه (١٠)
ومن
المؤسف أننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف على وجه الدقة مدى تأثير اختلاف التوجه الفكرى المذكور فى الأعمال التى كان يمكنه إنجازها لو عاش.