لخّصلي

تتغير أشكال الحروب وأنواعها مع الزمن؛ ولكن يظل الهدف النهائي للحرب واحداً، وهو فرض الإرادة على الدولة المستهدفة، وتهدف الحروب التقليدية إلى تدمير القوات المسلحة للدولة المستهدفة كهدف أولي؛ وذلك تمهيداً للوصول إلى الهدف النهائي للحرب. ومع تطور تكنولوجيا التسليح أصبحت تكلفة هذا الشكل من الحروب عالية جداً، بالإضافة إلى الروح العدائية ضد الدولة المعتدية، التي تستمر لفترة طويلة؛ وكــان ذلك سبباً رئيسياً في تغير شكل الحرب الحروب الجيل الرابع، التي تستهدف مراكز الثقل والمساحات المشتركة بينها داخل القطاعات المدنية في الدولة بدلاً من القوات المسلحة.
ولم يعد الصراع بين الدول صراعاً عسكرياً مسلحاً فقط، فقد أصبح صراعاً حضارياً، وثقافياً، وسياسياً واقتصادياً. ويأتي الاستقطاب الفكري والغزو الثقافي في مقدمة ذلك. وقد ساعد التقدم التكنولوجي، خاصة في مجال الاتصالات والمواصلات، على قدرة بعض النظم والدول على التأثير الفكري والثقافي في شعوب دول أخرى؛ لذا أصبحت ظاهرة الحرب معقدة، تتداخل فيها جوانب تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية، بالإضافة إلى جوانبها العسكرية المتعلقة بتطور الأسلحة والتقنية وعلوم الإدارة والجوانب النفسية.
ومن أهم خصائص حروب الجيل الرابع أنها تهدف إلى هدم الدولـة مـن الــداخل باستخدام مكوناتها، وتمثل الأفكار والأيديولوجيات محوراً مهماً فيها الهزيمة الإرادة الشعبية، وإفقاد الشعوب الثقة بنفسها، والتأثير السلبى في الانتماء والولاء بصورة كبيرة؛لأنهما من أهم العوامل التي تساعد المجتمع على تحمل المحن والشدائد، والتضحية المستمرة للحفاظ على تماسكه وعلى الشعور الوطني لدى أفراده، ويتجنب فيها العدو نقاط القوة للخصم، ويستغل نقاط الضعف في المجتمع المدني بكل مكوناته، ويتم التركيز على تدمير الروابط المعنوية بين مكونات المجتمع وإفقاده الثقة بالمستقبل.

وتستهدف حروب الجيل الرابع كل مجالات الأمن القومي (سياسي - عسكري / أمني – اقتصادي - اجتماعي)، وتبدأ بالمجالات التي يمكن اختراقها بسهولة، خاصة التي توثر بقوة في باقي المجالات، وتستخدم القوة الذكية التي تضفي الضبابية وعلامات الاستفهام الكثيرة؛ ما يُصعب من فهم طبيعة هذه الحرب، وكذلك لاستخدامها مزيجاً محترفاً من مجالات متعددة متخصصة بعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلوم الكمبيوتر، بالإضافة إلى العلوم الاستراتيجية. وتركز حروب الجيل الرابع على منع الخصم من التنبؤ بطبيعة التهديد واتجاهه وتوقيته؛ الأمر الذي يصل إلى عدم اقتناع بعضهم بوجود الجيل الرابع للحروب.
وتنفذ حروب الجيل الرابع من خلال حروب بالوكالة متعددة المستويات والمجالات، وتستخدم فيها استراتيجية "البصمة الخفيفة" التي يصعب معها الوصول إلى المخطط الرئيسي للحرب، وينتفي فيها البعد الأخلاقي والقانوني، وذلك لاختفاء الخط الفاصل بين المدنيين والعسكريين؛ الأمر الذي يتعارض مع واحد من أهم مبادئ قانون الحرب، وبوجه عام تُعد أدوات حروب الجيل الرابع ووسائلها كلها عابرة للحدود لا تتوقف عند حدود دولة بعينها؛ تنفذ داخل الدول؛ وغالباً ما تمتد إلى البيئة الخارجية؛ فــلا توجد دولة في المنطقة بعيدة عن هذا النوع من الحروب؛ لذا يتعين التعاون بين الدول
لمواجهتها.
ويؤدي التأخر في مواجهة هذا الشكل من الحروب إلى استفحال تحدياتها وتهديداتها إلى درجة تصعب فيها مواجهتها؛ نظراً إلى انتشار أدواتها ووسائلها داخل المجتمع المدني، كما أنه من المتوقع إعاقة الجهود المبذولة لمواجهة هذا النوع من الحروب تحت أسماء مختلفة؛ خاصة مع وجود تدخلات إقليمية ودولية، ومن الضروري مواجهة حروب الجيل الرابع من خلال استراتيجية متعددة المجالات (سياسي - عسكري / أمني - اقتصادي - اجتماعي تنفّذ بشكل متكامل ومتزامن لتعدد أبعاد هذا النوع من الحروب، مع المرونة العالية في تخطيط الاستراتيجية وتنفيذها، وسرعة اختيار القدرات المناسبة للمواجهة واتخاذ القرارات؛ نظراً إلى التطور والتغير المستمرين في آليات هذه الحرب؛ وبفضل الاعتماد دائماً على العمل الاستباقي في جميع مجالات الاستراتيجية، وليس في المجال العسكري والأمني فقط.
وختاماً؛ فنحن نعيش في منطقة ساخنة من العالم، تعرضت للحروب على مرّ تاريخها، حيث توحد موارد محل أطماع أطراف متعددة في العالم. وأشكال الحروب تتغير بتغير الزمن؛ لذا علينا أن نقوم برصد أشكال الحروب السابقة والحالية وتحليلها، وتوقع ما هو آت منها؛ تمهيداً لإفشال استراتيجية العدو قبل أن يتم تنفيذها؛ لأننا إن لم تستطع استشراف التغير في أشكال الصراعات والحروب، وإدراكه، ووضع استراتيجيات واضحة لضمان أمننا القومي؛ فسنكون ضمن مخططات الآخرين.