كلمة الأنثروبولوجيا مكونة من مقطعين الأول هو Anthropo أي الإنسان، ومعنى ذلك أن ترجمة اسم هذا العلم هو "علم الإنسان" أو "دراسة الإنسان". والحقيقة أن ترجمة اسم العلم الأنثروبولوجي إلى اللغة العربية أثبتت عدم جدواها واتضح أنه أمر غير علمى، فهناك علوم أخرى كثيرة تدرس الإنسان، لهذا السبب العملي آثر علماء الأنثروبولوجيا العرب الإبقاء على تسمية العلم كما هى فى لغتها الأصلية، أما من حيث موضوع العلم فإننا نجد من استعراض الدراسات الأنثروبولوجية في ماضيها وحاضرها أن رجال هذا العلم قد أخذوا التعريف اللفظى لعلمهم مأخذ الجد. ومن هنا أصبح موضوع هذا العلم بحق هو دراسة الإنسان وأعماله، أى كل منجزاته المادية والفكرية، ولهذا نقول إن الأنثروبولوجيا هي أكثر العلوم التي تدرس الإنسان وأعماله شمولاً على الإطلاق. وهناك دلائل وشواهد عديدة على هذا الشمول فالأنثروبولوجيا تجمع في علم واحد بین نظرتى كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فتركز مشكلاتها - من ناحية - على الإنسان كعضو في المملكة الحيوانية، وعلى سلوك الإنسان كعضو في مجتمع، ثم إن الأنثروبولوجي لا يقصر نفسه على دراسة أى مجموعة معينة من الناس، بل أننا نجده - على العكس من ذلك - يهتم بالأشكال الأولى للإنسان وسلوكه بنفس درجة اهتمامه بالأشكال المعاصرة. إذ يدرس كلا من التطور البنائي للبشرية ونمو الحضارات منذ أقدم الأشكال التي وصلتنا عنها أي سجلات أو بقايا. كذلك يوجه الأنثروبولوجي اهتماماً خاصاً إلى الدراسات المقارنة في سياق اهتمامه بالجماعات والحضارات الإنسانية المعاصرة. وهو يحاول - في أحد فروع الدراسة الأنثروبولوجية - كشف وتوصيف المعايير الفيزيقية التي تميز الجنس البشرى عن سائر الكائنات الحية الأخرى، وكذلك تلك المعايير التي تصلح للتمييز بين الأنواع العديدة داخل الأسرة البشرية نفسها. وتركز الدراسة المقارنة للحضارات أو الثقافات كما يسميها علماء الأنثروبولوجيا) اهتماماً على أوجه الاختلاف والتشابه في الثقافات، التي يمكن ملاحظتها بين الجماعات البشرية العديدة التي تعيش على سطح كوكبنا، وتحاول أن تحدد وتعرف القوانين أو المبادئ التي تحكم تكون المجتمعات البشرية والثقافات البشرية وتطورها. ولعل من الأمور التي تتضح لأول وهلة - من دراسات كهذه - أن الإنسان كائن فريد داخل المملكة الحيوانية. إذ على الرغم من كثير من أوجه الشبه في البنيان الجسماني، فهو يتميز ببعض السمات والخصائص الجسمانية التي لا وجود لها كلية حتى عند أقرب أقربائه داخل المملكة الحيوانية. فمخ الإنسان أكثر تعقيداً من مخ أي نوع حيواني آخر، كما أنه يسير ويقف في وضع منتصب تماماً، ولذلك يتميز ببناء مميز للقدمين. ثم إن حوضه أعرض وأكثر تسطيحاً من حوض أى حيوان آخر، وساقاه أطول بالنسبة إلى الجسم وطول الذراع، كما أن عموده الفقرى يأخذ شكل حرف S أكثر منه مستقيماً أو منحنياً. ولما كان الإنسان يستخدم يديه فقط في الإمساك بالأشياء، وليس للاعتماد عليها في السير ، نجدها تتصف هي الأخرى ببناء متميز بمقارنتها بأيادي الحيوانات الأخرى. ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نقدر الإنسان حق قدره إلا في ميدان دراسة السلوك. ومهما تكن بساطة ثقافته، نجده يستعمل أدوات وغيرها من المصنوعات المادية، ونجد لديه أساليب معينة للحصول على الطعام، تتباين في درجة تعقيدها، ونجده يعرف درجة معينة من تقسيم العمل أو نوعاً من التنظيم الاجتماعي والسياسي، ونسقاً للمعتقدات والطقوس الدينية، والقدرة على التواصل مع أقرانه بوساطة لغة منطوقة. وجميع هذه الخصائص الثقافية لا وجود لها عند الحيوانات الأخرى. فالإنسان وحده هو الذي يملك أساليب للسلوك متطورة ومتقدمة باستمرار هي ما يطلق عليه الأنثروبولوجي اسم "ثقافة". ومع ذلك فإن الأشياء التى يستطيع الإنسان عملها أو يعجز عن عملها تتوقف إلى حد ما على خصائصه الحيوية. فنجد أن الكلب يمكن أن يستقبل بشكل تام الوضوح الموجات الصوتية ذوات التردد العالي، في حين يعجز الكلب - من ناحية أخرى - عن التقاط حجر وقذفه بعيداً ، أو معالجة النسب الرياضية المعقدة. وبرغم ضخامة الفروق الموجودة بين الإنسان والحيوانات، فإننا يمكن أن نتوصل إلى مفاتيح مفيدة لفهم كل من سماته الفيزيقية وأصول جانب من سلوكه من خلال عقد المقارنات بينه وبين الحيوانات. وقد نشأت جميع الأنواع الحيوانية التي نعرفها اليوم من خلال بعض عمليات التكيف التي تنطوى فى العادة على التطور من الأشكال البسيطة إلى أشكال أكثر تعقيداً ومن الأشكال العامة إلى أشكال أكثر تخصصاً كما نجد أن جميع الأنواع الحيوانية - فيما إلى نوع واحد - يختلفون فيما بينهم عن بعضهم البعض في الشكل الفيزيقي إلى حد يفوق الاختلافات الموجودة بين معظم الأنواع الحيوانية الأخرى. وكذلك نجد أنه على الرغم من أن الثقافات واللغات البشرية تتشابه في خطوطها العريضة من مكان لآخر، إلا أننا نجد قدراً هائلا من التنوع الثقافي واللغوى الذى يرجع إلى الفروق في البيئة الطبيعية وفي طبيعة الاتصال مع الجماعات الأخرى وكميته، وإلى الحوادث التاريخية المعينة الخاصة ببعض الجماعات البشرية المعينة. ولاشك أن البشر قد ظهروا لأول مرة في مكان وزمان معلومين، ولكن ما إن اكتسب البشر الأوائل لغة وثقافة أولية، حتى انتشروا بسرعة في شتى أرجاء العالم القديم بعد أن كيفوا أنفسهم - تدريجياً - مع أنواع مختلفة من البيئات، وهكذا حدث بعد بدء عصرنا الجيولوجي الحاضر بفترة قصيرة، أن وجدنا جماعات صغيرة من البدائيين التي تتميز بثقافات متنوعة ولكنها بسيطة أشد البساطة منتشرة في مناطق متباينة من العالم ابتداء من الجزر البريطانية حتى شمال الصين وجزيرة جاوه. ومنذ ذلك الوقت ولآلاف السنين بعد ذلك وجدت أنواع عديدة متباينة من البشر. وبالتدريج أخذت هذه الأنواع تتضاءل عدداً ، بحيث لم يبق منها عند منتصف العصر الجيولوجي الراهن أو بعده بوقت قصير، سوى جنس واحد هو الإنسان العاقل Homo Sapiens ونجد اليوم أن كل الأجناس البشرية تنتمى إلى هذا النوع على الرغم من أن هناك بعض الشواهد على أن بعض الأنواع السابقة على الإنسان العاقل قد تركت آثارها في أشكال البشر المحدثين. أما معلوماتنا المسجلة عن التغير الثقافي واللغوى فأقل اكتمالاً من هذا بكثير. ولعله من المستحيل أن نعيد رسم صورة المراحل الأولى من تطور الإنسان ثقافياً، اللهم إلا بصورة شديدة العمومية والشمول. فمن الممكن أن نثبت أن التنوع الثقافي قد ازداد على الجملة بمرور الزمن. إذ تدل المقارنات المركزة بين اللغات والثقافات المعاصرة على وجود اختلافات بينها تبلغ حداً من الشمول والتعدد بحيث نؤكد أن أصولها لابد وأنها ترجع إلى الماضي السحيق. ولكننا نؤكد مع ذلك أن هذا التنوع الثقافي واللغوى لا يمكن أن يعزى إلى فروق سيكولوجية موروثة. فكل الأجناس البشرية تبدو متنوعة بنفس القدر من حيث أننا لا نستطيع أن نصف سلوكها دون تأثره بالبيئة الثقافية. فالصلات والامتزاج الذى استمر منذ آلاف السنين بين الأنواع البشرية المختلفة بالإضافة إلى الحقيقة التي مؤداها أن السلوك الثقافي أو المتعلم يعدل تديلاً عميقاً حتى من "الدوافع" أو "الاحتياجات" كالأكل، هذه الأمور تجعل من الصعب - إن لم يكن من المستحيل أن نثبت وجود أي فروق ذات دلالة بين البشر على أساس سمات موروثة غير فيزيقية. وبذلك نصبح الآن أقدر على عرض الموضوع الأساسي الذي تقوم عليه كل البحوث الأنثروبولوجية. هذا الموضوع هو - بالدرجة الأولى - البحث عن مجموعة من المبادئ التي تحكم تطور الإنسان فيزيقيا وثقافياً : لماذا تغير التركيب الفيزيقي للإنسان؟ لماذا توجد أنماط بشرية متميزة بمثل هذه الكثرة رغم أصلها المشترك جميعاً؟ وإذا لم يكن التنوع الثقافي واللغوى عند الإنسان نتيجة فروق متوارثة بيولوجيا في السلوك، فما هو السبب في تلك الفروق الواسعة المتعددة في اللغات والثقافات. ؟ ما هي طبيعة الثقافة وكيف تتغير الثقافات؟ ما هي العلاقة المنهجية المنظمة بين مختلف جوانب السلوك الاجتماعي والثقافي للإنسان؟ كيف يستجيب الأفراد للمثل العليا والأهداف التي تحددها لهم الثقافات؟ ما هي العلاقات بين الثقافات والشخصية؟ ولاشك أن حلول مثل هذه المشكلات تتطلب إجراء دراسات ومقارنات مركزة لكثير من الثقافات البشرية بقدر ما تستطيع البحوث ذلك. وبدلاً من الاتجاه التجريبي - الذي يبدو من الواضح استحالة الاستعانة به عند دراسة الإنسان وحضارته - يتحتم على الأنثروبولوجي أن يستعين بالمنهج المقارن عوضاً عنه. فالعالم اليوم - بما يضمنه من بقايا نادرة متفرقة للماضي البعيد - هو المعمل الوحيد المتاح للبحث الأنثروبولوجي. وترتبط بالموضوع الأساسى الذى حددناه طائفة كبيرة من المشكلات وتتطلب كل مجموعة من المشكلات تطوير أساليب ومناهج فنية دقيقة ومتخصصة. لذلك تنقسم الأنثروبولوجيا - شأن كثير من العلوم الأخرى - إلى فروع عديدة. يتناول كل منها أحد الجوانب من الميدان العام.