الحمدُ لله نزَّل الذِّكرَ وحفظه على مَرِّ الأزمانِ، وتركنا على بيضاءَ لا يزيغ عنها إلا أهلُ الضلال والهوى, قال سبحانَه: ومن يَعتَصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ أيُّها المسلمون:خيْرُ ما يُعملُ نَشرُ عِلمٍ نَافِعٍ وعَمَلٍ صَالِحٍ تَحتَاجُه الأمَّةُ، قالَ اللهُ جَلَّ وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . وَصَاحِبُ العِلمِ حقِيقةً هو الذي يَعملُ بِعلمِهِ، كلُّ مَنْ رآهُ أَحَبَّهُ واقتَدَى به. فإذا ما سُئِلَ أَبَانَ الحقَّ بلا ريبٍ ولا التباسٍ وِفْقَ ما دلَّ عليه السُّنةُ والكتابُ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ. ورسولُ الله قال: ((مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَجَّمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ )). فما أعظَمَه من وعِيدٍ على عالمٍ كتمَ عِلمَهُ وأَخفَاهُ!يَرى البَاطلَ والحَرامَ والمَعَاصِيَ فلا ينطِقُ بالحَقِّ!ولا يُنكِرُ الباطِلَ! والحَقُّ تباركَ وتعالى يقولُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ. ألا تعلمُونَ يا مؤمنونَ أنَّ العُلماءَ والمُفتُونَ مُوَقِّعُونَ عن رَبِّ العالَمينَ؟فقد شبَّهَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ العالِمَ والمُفتيَ بالوزيرِ المُوقِّعِ عن المَلِك، فقال:"فإذا كان مَنصِبُ التَّوقِيعِ عن المَلِكِ بالمَحَلِّ الذي لا يُنكرُ فَضلُهُ ولا يُجهلُ قدرُه، فكيفَ بِمنصِبِ التَّوقيعِ عن ربَّ الأرضِ والسَّمَاواتِ؟!". هم ناصرو الدِّين والْحامونَ حوزتَه من العـدوِّ بجيـشٍ غيرِ مُنهزمِ فكانَ قَولُ أحدِهم على الله تعالى بغيرِ علمٍ من أعظمِ المُحرَّماتِ؛ قال الله تعالى: وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم . والذي يُفتي الناسَ بلا عِلمٍ كاذبٌ على ربِّنا سبحانه، كاذبٌ على رسولِنا القائِلِ: ((من قال عَليَّ ما لم أقُل فليَتبوَّأ بيتًا مِن جهنَّم، ومن أُفتِيَ بغيرِ عِلمٍ كان إثمُه علَى مَن أَفْتَاه)) متفق عليه. أيُّها المُسلمونَ:وإنَّ من أعظم الفِتنِ التي تُعاني منها أمَّتُنا المُسلِمةُ في هذا الزَّمَنِ هي فِتنَةُ غَيابِ الحَقِّ ولَبسِهِ بِالبَاطِلِ، وفُقدَانِ هَيمَنَةِ المَرجِعيَّةِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ في إِبداءِ الحقِّ ونُصرتِهِ, والمُجتَمَعَاتِ المُسلِمَةِ لِخَطَرينِ دَاهِمَينِ:أَحَدُهما:التَّشوِّيشُ على قِيَمِ الإسلامِ وَمَفَاهِيمَهِ الثَّابِتَةِ بِإدخَالِهمُ الزَّيفَ على الصَّحِيحِ, حتى يُغلَبَ النَّاسُ على أَمرِهم في هذا الفَهمِ المَقلُوبِ، قالَ ابنُ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: (كيف بِكم إذا لبِستكُم فِتنةٌ يَربو فِيها الصَّغِيرُ، قالوا:ومتى ذلك؟ قال: (إذا قلَّت أُمَنَاؤكُم، وأمَّا الخَطَرُ الثَّاني عبادَ الله:فهو أنَّ هذا التَّلبِيسَ والتَّضلِيلَ على المُسلمينَ يَنتهي بالمُسلمينَ إلى الفُرقةِ التي يَصعُبُ مَعها الاجتماعُ والأُلفةُ؛ ولكنَّهُ التَّضلِيلُ والتَّلبِيسُ والتَّخديرُ الذي يَفعَلُ بِالمُجتَمَعَاتِ المُسلِمةِ ما لا تفعلُه الجيوشُ العاتِيَةُ. فاللهمَّ أرنا الحقَّ حقاً ورزقنا إتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، والدُّعاةَ الصَّادِقينَ, نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍّ وصدقٍ ويقين، صلَّى اللهُ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وإيمانٍ إلى يوم الدين. اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. وأطيعوا الربَّ والمولى. وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ)). فأثمنُ شيءٍ لدَيكَ دِينُكَ، وذلك لن يكونَ إلا بأخذِكَ بالعِلم الشرعيِّ الصَّحِيحِ من العالِمِ الرَّبَّاني المُتَجَرِّدِ الصَّريحِ. ولهذا عبادَ اللهِ:لا يقعُ الاضطرابُ والتخبُّط في الفتاوى إلاَّ حين تصدُرُ بِمنأَىً عن مُراعاةِ مَقَاصِدِ الشَّريعِةِ الغَرَّاءِ، وأنْ يُقدِّرَ عَواقِبَ فَتواهُ، وما يَترتَّبُ عَليها في الحَاضِرِ والمُستَقبَلِ، صالِحةٌ لكلِّ زمانٍ ومَكانٍ، وأنَّ الخذلانَ والخَسَارَ بِبُعدِنا عنها. فيا مؤمنون:رَدِّدوا دوماً: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فعليكَ يا مسلمُ أنْ تَتَّقِيَ ربَّكَ، وأن تَكونَ على بَصِيرةٍ في دينِكَ، وأنت أيُّها المُباركُ أيضا مُطالَبٌ بأن تتَهديَ إلى طريقِ الحقِّ والصَّوابِ, فقد كانَ نَبِيُّنا يَستَفتِحُ صلاتهُ بقوله: (« اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ». قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد . في الفتوى القويمة السليمةِ توثيقُ صلة الأمةِ بعلمائها، اللهمَّ اجعلنا ممِّن يقيم حدودَه، اللهمّ ثبّتنا على القرآن، وأمِتنا على العمَل به وإتباع سيِّد الأنام. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين.