أبو الشمقمقإنَّ كثيرًا من الفقراء لم تمتدَّ يد الفقر إلى رءوسهم كما امتدَّت إلى جيوبهم، فهم يدركون كما يدرك الأغنياء ويفهمون كما يفهمون. وكما أنَّ في أغنياء الجيوب فقراء الرءوس، كذلك في فقراء الجيوب أغنياء الرءوس. وأنساهم أنفسهم قبل ذلك، فأخذوا يتجاذبون أسلاك الحديث الذهبية، ما بين تاجر يُعْجَب بصفقته الرابحة، وزارعٍ يفخر بقلة ما أعطى وكثرة ما أخذ، وآخر يُعلِّلُ نفسه بكثرة الغلَّات وارتفاع الأسعار، عهد الحرية والمساواة، عهد الترقِّي والعمران — هي أشبه شيء بسعادة المتقين في جنات النعيم. ويمضغ أضراسه، ويئنُّ من قلبه أنينًا خفيًّا يكاد يسمع فيه السامعُ قولَ الشاعر:فيا لك بحرًا لم أجد فيه مَشْرَبًا على أنَّ غيري واجدٌ فيه مَسْبَحَافما هو إلا أنْ قَضَوْا لُبَانَتَهُمْ من الكلام المملول والحديث المعاد حتى قاموا يطيرون مع الآمال وراء الأموال، فسألته: «ما لك لم تشترك معنا فيما كنا فيه؟» فأجاب: «إني أكره الفضول في الحديث وقد فرَّق المقدار بيني وبينكم في المال، فلا أشترك معكم في المقال.» فقلت: «ألا يعجبك يا أبا الشَّمَقْمَقِ حديثُ النهضة الحديثة التي نهضتها الأمة المصرية في العهد الأخير؟! وأنت فَرْدٌ من أفرادها، وجزءٌ من أجزاء جسمها، والأمة كما تعلم هي الفرد المكرَّر والواحد الدائر، فأنت الأمة والأمة أنت. فإن كنتَ تريد أني فرد مُكَرَّرٌ كثيرُ الأشباه والأمثال في العَوَزِ والفاقة، ودائرٌ في مَدَارِجِ الطرق ومعابر السُّبل، وإن كنت تريد معنًى غير ذلك، فأنا لا أفهم إلا كذلك، فهل لك أن تعفيني من هذه المَعْمَّيَاتِ، وتَزِنَ كلامك على قدر عقلي، وتحدثني فيما يتناوله سمعي وبصري؟» فقلت: «أنا لم أخرج بك عن المألوف المعروف، ولا أريد إلا أنَّ الأمة ليست في الخارج شيئًا غيرَ أفرادها، وحسبُك أن ترى تقدَّم الأمة المصرية في ثروتها وعمرانها وبذخها وترفها، وكثرة ناطقها وصامتها، فَتَسْعَدَ بسعادتها وتُسَرَّ بسرورها.» فقال: «إن لم تبين لي سهمي من هذه السعادة، ونصيبي من ذلك الارتقاء فلا أصدق سعادةً ولا أتصوَّر ارتقاءً، وما دمتُ أرى أنَّ لي هُوِيَّةً مستقلَّة عن هُوِيَّةِ سوايَ من السعداء، ويدًا تقصر عمَّا يتناولونه، ويشاطرني فقري، والنَّجْدَ والوَهْدَ، وينتظمُ من الأرض الميت والحيَّ.» فقال: كل سماءٍ فيها هذا الغيث إلا سماء مصر، فإني أراه:كبدرٍ أضاء الأرض شرقًا ومغربًا وموضع رجلي منه أسود مُظلِمُما لي وللروض الذي لا أستنشق رَوحه وريحانه، والقصر الذي لا أدخله مالكًا ولا زائرًا، وهب أنَّ الطرق مفروشة بالحرير والديباج لا بالحصى والمدر، فهل أبقى لي الدهر من حاسة اللمس شيئًا فأميز بين خشن الملمس وناعمه، فهل يغني ذلك عني شيئًا؟ وهل يكون نصيبي منه إلا انكشاف سوأتي ورثاثتي لأعين الناظرين؟! ولقد حُبِّبَ إليَّ الظلام حتَّى تمنيتُ دوامَه لِأَلْبَسَ من ثوبه الطبيعيِّ ما يكفيني مئونة الرتق والفتق، والتمزيق والترقيع.وبعد، والطمع في الزخرف الباطل، والجاه الكاذب.ما لي وللمدارس والمستشفيات، ولا مرضَ عندي إلَّا مرض الفاقة، فهل أجد في المدارس خبزًا أو في المستشفيات دواءً كذلك الدواء الذي وصفه أحد الأطباء لرجلٍ جائع دخل عليه وشكا إليه مرضًا، فعرف سر مرضه، فأعطاه علبة وكتب عليها يؤخذ منها عند اللزوم، فلما ذهب بها الفقير وفتحها وجد فيها عشرة دنانير؟ فلا قدرةَ لي على العمل، وعندي صبيةٌ صغارٌ ليس بينهم من يستطيع عملًا أو يحسن صنعًا، أمَّا اليوم فإني أبيت طاويًا، وأروح يائسًا.وهنا أرسل من جَفْنَيْهِ دمعةً ليست بأول دمعةٍ بلَّل بها رداءه،