وبعد التغلب على عقبات كثيرة، يتصوَّرون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. ونستطيع أن نتَّخذ من هذه الخصائص مقياسًا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء يَنتقلون إلى الطابق الأعلى؛ وقد يبدو هذا الوصف أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعدِّدة من هذا النشاط؛ بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، بل كان يَنتقِد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ذلك لأن افتقار المعرفة — في ميدان الفلسفة — إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ بمعنى أننا نظلُّ نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدًا أن ظهور فن جديد يَعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، بحيث لا يُمكن أن يُفْهَمَ هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوُّقَنا لفنٍّ معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي — كما قلنا من قبل — هم في حالة تنقُّل مُستمر، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، وهكذا بدا للناس — في وقت معين — أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم. ولا يكون العالم — كالفيلسوف — عقلًا يبدأ طريقه من أول الشوط، ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. فكيف إذن نوفِّق بين الاعتقاد — الذي قلنا إنه صحيح — بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟ الواقع أن الحقيقة العلمية — في إطارها الخاص — تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مُطلَقة. بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، بل إلى كل عقل بوجه عام، لا بمعنى أنه يتغيَّر من شخص إلى آخر، ولكنها تختلف إذا نُقِلَت إلى مجال القمر، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النِّسبي للحقيقة، كما يحدث عندما نقول: إنَّ ضغط الغاز يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المُطلَق للعلم دون أي تناقض. هذه السمة «التراكمية» التي يتَّسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحًا للرد على انتقادٍ يُشبع توجيهه — في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص — إلى العلم، وواقع الأمر أنَّ هذا ليس اتهامًا للعلم على الإطلاق، ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي يَنبغي أن يُعَدَّ علاقة نقص. والتغيير الذي يَتَّخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، وتُفسِّر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتَّسم به المعرفة العلمية؟ إنه — في واقع الأمر — يسير في الاتجاهين؛ أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة. أما عن الاتجاه الأول — الذي نستطيع أن نُسمِّيَه اتجاهًا رأسيًّا أو عموديًّا — ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أنْ بَحَثَهَا ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ أي على مستوى إدراك حواسِّنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمُّقًا، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، أي مستوى أدق مكوِّنات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دِقةً، وتُتيح لنا مزيدًا من السيطرة على العالم المادي، إذ يُمكن القول — على سبيل المثال — إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاوَلة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تُقدم لهذا السلوك، وأما الاتجاه الثاني — وهو الاتجاه الذي يُمكن أن يُسمى أفقيًّا — فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاقٍ محدود من الظواهر، على حين أنَّ ميادين كثيرة كانت تُعَدُّ أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذَين ظَهَرَا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأمُّلات الفلسفية التي كانت تزودنا — بغير شك — بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتَّخذ شكل استبصارات عبقرية ولا تَرتكِز على دراسة منهجية، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وبعد أن تَكمل دراستُه لنفسه يُصبح لديه من النضج ما يَسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يُعزِّز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات — التي تعد شكلًا قديمًا وهامًّا من أشكال معرفة الإنسان — قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل. ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذا الشكل الأوَّلي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدًا عن الطابع العلمي، ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، التي تركَّزت أبحاثها على العالم الطبيعي، ولم تَلحقها دراسة الإنسان علميًّا إلا بعد قرنين على الأقل، إذ إن دراسة الإنسان — وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالًا لأنها تتعلَّق بمعرفة الإنسان لنفسِه على نحو مباشر — هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ ففي المحاولات الأولى التي بذَلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، فيتصوَّر أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسَّر على مثال الظواهر البشرية؛ كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفسٌ أو روح (أعني الإنسان) تُدْرَس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة — في العصور القديمة — تُفَسَّر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو رُوح. والذي يَعنينا من هذا كله أن العلم يتوسَّع ويمتدُّ رأسيًّا وأفقيًّا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلُّط رُوح شريرة على الإنسان، وكلها تُثبِت أن العلم يتوسَّع في جميع الاتجاهات. ومرة أخرى نقول إنَّ هذا التوسع يتضمن ردًّا مفحمًا على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، وهي أن التوسُّع في المعرفة البشرية يسير باطراد، في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نُسمِّيه «علميًّا» لا يمثل إلا قدرًا ضئيلًا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، ولكنه يظلُّ مع ذلك شكلًا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظَّم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرًا ما نَستسلِم له هربًا من ضغط الحياة أو تخفيفًا لمجهودٍ قُمنا به، أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، ولكن إذا كان العلم تنظيمًا لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه — في الوقت ذاته — تنظيم للعالَم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضًا؛ بل إنَّ مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن نَنتقي من ذلك الكل المعقَّد ما يهمنا في ميداننا الخاص. ويَنطبِق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ يجد ألوفًا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، على أنَّ التنظيم سِمة لا تبدو مُقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي — الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم — يتَّصف بنَوع من التنظيم. بل إنَّ الأساطير ذاتها تُحاول أن تُوجِد نظامًا معينًا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تَفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى — عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية — إلى إيجاد شكلٍ من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهَر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحلَّ محلَّ التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إنَّ نظرة اليونانيين إلى الكون — التي عبَّر عنها استخدامهم للفظ cosmos للتعبير عن الكون — كانت مبنيةً أساسًا على فكرة التوافُق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، بل إنَّ كثيرًا من علماء الكلام واللاهوتيِّين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلًا من أدلة وجود الله ومظهرًا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرًا على كل شيء. فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يَظهر في أنماط التفكير المُغايرة للعلم؟ على حين أن العالم — وفقًا لأنماط التفكير الأخرى — مُنظَّم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودًا بالفعل في العالم، أما في التفكير العلمي فإنَّ هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظَّم؛ ولكن كيف يُحقِّق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المُتشابِكة والمعقَّدة والمُفتقِرة بذاتها إلى التنظيم؟ إنَّ وسيلته إلى ذلك هي اتِّباع «منهج» method — أي طريق محدَّد — يَعتمِد على خطة واعية. غير أنَّ القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يُفْهَم بمعنى أن للعِلم مناهج ثابتة لا تتغيَّر،