لخص لي هذا الموضوع سؤال وجواب مدرسة الحديث: اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري، ويهابون الفتيا والاستنباط، إلا بضرورةٍ لا يجدون منها بُدًّا، وكان أكبر همِّهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني لأَكره أن أُحِلَّ لك شيئًا حرَّمه الله عليك، أو أُحرِّم ما أَحلَّه الله لك. وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تُعجِّلوا بالبلاء قبلَ نزوله؛ فإنه لا ينفك المسلمون أن يكون فيهم مَن إذا سُئل سُدِّد. ورُوِي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل. وقال ابن عمر لجابر بن زيد: إنك من فقهاء البصرة؛ فلا تُفتِ إلا بقرآنٍ ناطقٍ وسنةٍ ماضية؛ وقال أبو نضرة: لما قدم أبو سلمة البصرةَ أتيتُه أنا والحسن، فقال للحسن: أنت الحسنُ، ما كان أحدٌ بالبصرة أحبَّ إليَّ لقاءً منك؛ وذلك أنه بلغني أنك تُفتِي برأيك، وقال ابن المنكدر: إن العالِم يدخل فيما بين الله وبين عباده؛ فليطلب لنفسه المخرج. وسئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعتَ، كان إذا سُئل الرجلُ قال لصاحبه: أَفتِهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول. وقال الشعبي: ما حدَّثوك هؤلاء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فَخُذ به، وما قالوه برأيهم فألقِه في الحُشِّ. أخرج هذه الآثار عن آخرها الدارمي. تدوين الحديث والآثار: فوقع شيوعُ تدوين الحديثِ والأثرِ في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنُّسَخ- حتى قلَّ مَن يكون من أهل الرواية إلا كان له تدوين أو صحيفة أو نسخة- من حاجتهم بموقع عظيم؛ فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلادَ الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان، وجمعوا الكتب وتتبعوا النُسَخ، وأمعنوا في التفحص عن غريب الحديث ونوادر الأثر، فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحدٍ قبلهم، وتيسَّر لهم ما لم يتيسر لأحدٍ قبلهم، وخَلَص إليهم من طُرق الأحاديث شيءٌ كثير؛ حتى كان لكثير من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فَوْقَها، فكشف بعضُ الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعَرفوا محلَّ كل حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، فإذا كان خبر صحيح فأعلِموني حتى أذهب إليه، كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا. حكاه ابن الهمام؛ وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهلُ بلد خاصة، كأفراد الشاميين والعراقيين، أو أهلُ بيت خاصةً كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مُقِلًّا خاملًا لم يحمل عنه إلا شرذمةٌ قليلون، فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديثِ بلده وأصحابه. فائدة تدوين الحديث: وكان مَن قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم على ما يَخلُص إليهم من مشاهدة الحال وتَتبُّع القرائن، وأمعن هذه الطبقة في هذا الفن، وجعلوه شيئًا مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها، فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خفيًّا من حال الاتصال والانقطاع، وكان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غايةَ الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث، كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة. بل صح عن البخاري أنه اختصر «صحيحه» من ستمائة ألف حديث، وعن أبي داود أنه اختصر «سننه» من خمسمائة ألف حديث، وجعل أحمد «مسنده» ميزانًا يُعرَف به حديثُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما وجد فيه ولو بطريق واحد من طرقه فله أصل، وإلا فلا أصل له. وكان رءوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطَّان ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة ومسدد وهنَّاد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهَوَيْه والفضل بن دُكَين وعلي بن الـمَدِيني وأقرانهم، وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدِّثين. فرجع المحقِّقون منهم بعد إحكام فن الرواية ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجْمَع على تقليدِ رجلٍ ممن مضى، مع ما يَروْن من الأحاديث والآثار المناقضة لكل مذهب من تلك المذاهب، فأخذوا يتتبعون أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم، وأنا أُبِينُهَا لك في كلمات يسيرة: كان عندهم أنه إذا وُجد في المسألة قرآنٌ ناطق فلا يجوز التحول منه إلى غيره، وإذا كان القرآن محتمِلًا لوجوهٍ فالسنة قاضية عليه. فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سواء كان مستفيضًا دائرًا بين الفقهاء أو يكون مختصًّا بأهل بلد أو أهل بيت أو بطريق خاصة، وسواء عَمِل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به. فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيءٍ فهو المُتَّبَع، وإن اختلفوا أخذوا بحديثِ أعلمِهم عِلمًا، أو أورعهم وَرَعًا، أو أكثرهم ضبطًا، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئًا يستوي فيه قولان فهي مسألة ذات قولين. فإن عجزوا عن ذلك أيضًا تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما واقتضاءاتهما، وحملوا نظيرَ المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين باديَ الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يَخلص إلى الفهم ويَثْلج به الصدر. كما أنه ليس ميزانُ التواتر عددَ الرواة ولا حالَهم، ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس، كما نبَّهنا على ذلك في بيان حال الصحابة . وكانت هذه الأصول مستخرجة من صنيع الأوائل وتصريحاتهم. وعن ميمون بن مِهْران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نَظَر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعَلِمَ من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنةً قضى بها، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جَعَل فينا مَن يحفظ علينا عِلمَ نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنةً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جمع رءوسَ الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمرٍ قضى به. ولا يَلْفِتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنةَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاقضِ بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلم فيه أحدٌ قبلك فاختر أيَّ الأمرين شئتَ: إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدَّم فتقدَّم، وإن شئتَ أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخرَ إلا خيرًا لك. وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى علينا زمانٌ لسنا نقضي، وإنَّ الله قد قدَّر من الأمر أن قد بلَّغنا ما ترون، فمن عرض له قضاءٌ بعد اليوم فليقضِ فيه بما في كتاب الله عز و جل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقضِ بما قضى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقضِ به رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- فليقضِ فيه بما قضى به الصالحون، ولا يقل: إني أخاف وإني أُرَى «فإن الحرامَ بيِّن، والحلال بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وكان ابن عباس إذا سئل عن الأمر: فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه. وعن ابن عباس: أما تخافون أن تُعذَّبوا أو يُخسَف بكم أن تقولوا: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال فلان؟! وعن قتادة قال: حدَّث ابنُ سيرين رجلًا بحديثٍ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: قال فلان: كذا وكذا، وعن الأوزاعي قال: كَتب عمر بن عبد العزيز: أنه لا رأيَ لأحدٍ في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ولم تمضِ فيه سنةٌ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا رأي لأحد في سنة سنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فحدثتُه عن سميع الزيات عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقامَه عن يمينه، فأَخَذَ به. فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال: أَخْبِرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا! أخبرتُه عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي! وديني آثرُ عندي من ذلك، والله لأن أَتَغنَّى بأغنيةٍ أحبُّ إلي من أن أُخبرك برأيي. وأخرج الترمذي عن أبي السائب قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أَشْعَر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: هو مُثْله! قال الرجل: فإنه قد رُوِي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مُثلة، قال: رأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقَّك بأن تُحبَس ثم لا تخرج حتى تنزعَ عن قولك هذا. وعن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس- رضي الله عنهم- أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالجملة: فلما مَهَّدوا الفقهَ على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكَلَّم فيها مَن قبلهم والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا أو مرسلًا أو موقوفًا صحيحًا أو حسنًا أو صالحًا للاعتبار، أو وجدوا أثرًا مِن آثارِ الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان، أو استنباطًا من عمومٍ أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه. وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمعِ شيء كثير مِن الأحاديث والآثار، قال: أرجو. كذا في «غاية المنتهى»، نقاد الحديث مدرسة الرأي سبب الإقلال من رواية الحديث نقاد الحديث: ثم أنشأ الله تعالى قرنًا آخر، فرأوا أصحابهم قد كَفَوهم مئونة جمع الأحاديث وتمهيد الفقه على هذا الأصل، فتفرغوا لفنون أخرى؛ كتمييز الحديث الصحيح المجمَع عليه من كبراء أهل الحديث، كيزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطَّان وأحمد وإسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحُكم على كلِّ حديث بما يستحقُّه، وكالشاذَّة والفاذَّة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم يخرِّج من جهتها الأوائلُ مما فيه اتصال أو علو سندٍ أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ أو نحو ذلك من المطالب العلمية، وهؤلاء هم البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم. أولهم: أبو عبد الله البخاري، وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتصلة من غيرها، فَصَنَّف «جامعه الصحيح» وَوَفَّى بما شرط، وبَلَغَنا أن رجلًا من الصالحين رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في منامه، قال: «صحيح البخاري»، ولَعَمْرِي إنه نال من الشهرة والقبول درجةً لا يُرام فوقها. تَوَخَّى تجريد الصحاح الُمجمَع عليها بين المحدِّثين المتصلة المرفوعة مما يُستنبَط منه السنة، وأراد تقريبها إلى الأذهان، وتسهيل الاستنباط منها، فرتب ترتيبًا جيدًا، ليتضح اختلافُ المتون وتشعبُ الأسانيد أصرحَ ما يكون، وجمع بين المختلفات؛ وثالثهم: أبو داود السجستاني، وكان همه جمع الأحاديث التي استدلَّ بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنَّف «سُنَنَه»، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين الصالح للعمل، قال أبو داود: «وما ذكرتُ في كتابي حديثًا أَجمعَ الناس على تركه، وما كان فيه علة بَيَّنتُها بوجهٍ يَعرفه الخائض في هذا الشأن»، وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب؛ ولذلك صرح الغزالي وغيره بأنَّ كتابه كافٍ للمجتهد. وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بَيَّنا وما أَبْهَما، فجمع كلتا الطريقتين، وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، واختصر طرقَ الحديث اختصارًا لطيفًا، فذكر واحدًا وأومأ إلى ما عداه، وبَيَّن أمرَ كلِّ حديث مِن أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر، وبيَّن وجه الضعف؛ ليكون الطالب على بصيرةٍ من أمره،