من الوزن إلى الإيقاع: ثلاث لحظات في الشعرية العربية تعكس التحول عبداللطيف الوراري في مقابل النشاط العروضي الذي أعقب نظرية الخليل بن أحمد الفراهيدي، حول أوزان الشعر العربي، لمقاربة أشكال البناء الشعري في بعده الصوتي- الإيقاعي، نستدعي هنا ثلاث لحظات داخل الشعرية العربية القديمة تكشف لنا ازدياد الوعي بقضايا الشكل الشعري. المواءمة بين الصوتي والدلالي يُظْهر قدامة بن جعفر في (نقد الشعر) وعياً جديداً بالمسألة العروضية، إذ لم يتقيد بقياس أهل العروض واعتباراتهم المعيارية، عليه رونق الفصاحة، مثلما اشترط في الوزن «أن يكون سهل العروض»، ويجري من الشعر «ناقص الطلاوة قليل الحلاوة»، وأن يكون من نعوت الوزن «الترصيع» بأن «يتوخى فيه تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجْعٍ أو شبيهٍ به، أو من جنْسٍ واحدٍ في التصريف». مثلما استحسن القافية «أن تكون عذبة سلسة المخرج»، كان أدخل في باب الشعر؛ كما تتجسد في التصريع والترصيع، تقوم على مبدأ «المقاربة بين الكلام بما يشبه بعضه بعضا»، الذي يتحقق من إيراد المتشابهات في المستوى التوزيعي للكلام، التي تنتج عبر تكرار العناصر الصوتية أو توزيعها وفق نسبة زمنية متوافقة، ولكن بغير قصد التكلف الذي «ينافر الطبع وينبو عنه السمع». فيقطعه بالقافية ويتمه في البيت الثاني»، يكشف بحث قدامة، هنا، لمجمل العلاقات الائتلافية بين اللفظ والوزن، وهو يرصد مستويات توتر الوزن بالألفاظ والعبارة داخل البيت من جهة أنساقه الصرفية والتركيبية والدلالية، من منظورٍ يؤاخي بين انسجام الوزن وهيئة الكلام، وعليه، يظهر البيت كوحدة ناتجة عن التكرار والاطراد، في الوقت نفسه، مع بنية الوزن وخُطاطته الصوتية. ولا إلى الزيادة فيها عليه». ولعل ذلك ما يكشف لنا عن تصوره للوزن الشعري كقالب ثابت، ومن القافية. يحرص قدامة على أن يندمج كل من الوزن والقافية في السلسلة الدلالية للبيت الشعري بشكْلٍ لا تكلف فيه. فمن جهة، وهو ما سماه «المقلوب»، فيقطعه بالقافية ويتمه في البيت الثاني»، ومن جهةٍ ثانية، يجب أن تتوج القافية البناء الصوتي، ويتحقق هذا التعالُق الذي يشد القافية بسائر المعنى في أشكال من الائتلاف، ولا يمكن وضع القافية كيفما اتفق، وإنما هي، أو كما يقول جمال الدين بن الشيخ «إن الكلمة- القافية هي، أو أن تُقلص إلى إيغال. لم يعد هم الشعرية العربية إبراز وجوه البديع ومُحسناته الصوتية، بل كشف ما يرتبط به من سهولة العبارة وترابط الأجزاء، واتفاق الألفاظ واختلافها بين الجودة والرداءة، إيقاع المسموع وإيقاع المعنى من جهة، لم يَعْرَ من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر». وهذا ما قاده إلى أن يجعل من «الإيقاع»، مصطلحا غير مُطابِقٍ للوزن، وإن نقص جزْءٌ من أجزائه التي يعمل بها وهي: اعتدال الوزن، الإيقاع ما جرى على وزْنٍ بما يفترضه من «حسن التركيب» و»اعتدال الأجزاء»، وهذا يقودنا بدورنا إلى تأويل عمل الإيقاع من جهتَيْن: وهو ما يتكون من «الوزن» و»عذوبة اللفظ» الذي يراعي انسجام التفاعيل وتجاوبها، وتآلف الحروف وحسن الأخذ بها، ومراعاة اتساق أصوات الكلمات والحروف، ـ إيقاع المعقول أو المعنى، وهو ما يتكون من «وزن المعنى وصوابه» الذي يُراعي الفهم والإبلاغ. فالعلاقة بين الصوت والمعنى وثيقة مثلما هي بين السمع والبصر، وكلما كان هناك تآلُفٌ بين الصورة والصوت، أحدث في النفس اهتزازا وشعورا باللذة. وهذا ما يؤكد أن للكلام أصواتا محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار، وذلك ما فطن به غير واحدٍ من علماء بالشعر وبلاغيين. يُؤالِف ابن طباطبا بين الإيقاعين في الشعر، ففيهما حسن التركيب واستواء النظم واعتدال الأجزاء، هناك أيضا معنى عام لمصطلح الإيقاع يستقيه ابن طباطبا من بعض المراجع الفلسفية في عصره، وهو الانسجام الذي يُحس بالذوق كمواقع الطعوم المركبة الخفية التركيب اللذيذة المذاق، وفي الذي يلمس من الملامس اللذيذة، ولهذا، لأن «علة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب»، مقترحا سمتي المشاكلة والمطابقة بين عناصر القصيدة لتحقيق الانسجام وجودة الصياغة، وكمال الفهم المتذوق للشعر؛ فـ»للمعاني ألفاظ تُشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها»، كما أن «أحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى الذي أريدت له»، بما في ذلك الكلمة ـ القافية التي يجب أن تنزل موضعها، فيجعل الشعر وفْقا له «كالسبيكة المفرغة، ويُبْقي الوعي/ الوعد به قائما. يمكن لنا أن نتمثلها في ما اصطلح على تسميته بـ»عمود الشعر»، وعلاقة اللفظ بالمعنى القائمة على فكرة الكسوة والتحسين، أي ما يقوم عليه البناء الصوتي داخل الشكل الشعري، وانتقد أبو هلال العسكري ما أتى بخلافه من اضطراب وسوء وهلهلة. فسوغوا لأنفسهم الكلام على مبنى منفصل عن أي معنى أو العكس، أو يضمها الشاعر بعضها إلى بعض مُحاولا أن يوفر لها مقادير الانسجام والتآلف. في مقدمة «شرح ديوان الحماسة»، ولاسيما بين طلاب المعاني وأرباب الألفاظ. وقد أراد الإمام المرزوقي أن يُحاجج برأيه من وراء ذلك، ـ الأول؛ في نظره، والبيت كالكلمة لما بين أجزائه من تعادُلٍ يتحقق بمزية الوزن الذي التذ به السمع، ويُمازِجه بصفائه، يرتبط بـ»مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما»، هنا، أن يكون «اللفظ مقسوما على رُتَب المعاني»، لا أن تكون مغتصبة متكلفة الوضع في مكانها، نافرة عن الطباع. وإذن، لم يعد هم الشعرية العربية إبراز وجوه البديع ومُحسناته الصوتية،