يواصل "هيوم" حملته النقدية على الرأي الشائع لدى العامة من الناس والفلاسفة فيما يتعلق بجوهرية النفس، واعتبار النفس الصورة الجوهرية للجسم. يخرج عن رأي "باركلي" الذي يذهب فيه إلى أن لا وجود إلا للذوات المباركة على وجه الحقيقة، ويصدر حكماً آخر أشد وقعاً على الفلسفات السابقة فيما يتعلق بجوهرية النفس أو الروح، وإن نجح "باركلي" في استبعاد الصور الجوهرية عن الفيزياء – على حد تعبير "بيرتراند رسل" – فإن "هيوم" هو الآخر قد أبعد تصور الجوهر عن علم النفس، وبالنسبة لـ "هيوم"، مشكلة النفس أو الجوهر النفسي أصعب أو أكثر تعقيداً كالإشكالية المتعقلة بالأجسام، كما أن السؤال في حد ذاته المتعلق بالجوهر المادي والروحي هو سؤال بلا معنى، يرفض "هيوم" تصور النفس كشيء قائم بذاته ببساطة، وكل ما هو متميز يمكن أن يوجد بذاته، بقدر ما يتعلق الأمر بتعريف الجوهر. يشير "هيوم" إلى أن هناك بعض الفلاسفة يتخيلون، أعمق على وعي تام بما ينطبق عليه أنفسنا أو ذواتنا. وباستمراريتها في "الوجود"، ونقصد: ما هو الاطلاع الذي يمكن أن تستمد منه فكرة النفس؟ بل يقر "هيوم" باستحالة الوصول إلى إجابة صريحة بدون ظهور تناقض، أي الوصول إلى فكرة واضحة عن النفس ترتبط بالاطلاع الذي تستمد منه. إن فكرة النفس لا ترتبط بانطباع واحد، فإن الانطباع الذي يقابلها، فنكل ما نلاحظه هو جملة من الانطباعات، ومادامت كذلك فلا يمكن لأي من هذه الانطباعات أن تستكشف أو تستمد منه فكرة الذات أو النفس. يقول "هيوم": «بالنسبة لي، عندما أدخل دخولًا عميقًا بكل عمق إلى ما أطلق عليه ذاتي، فإني أعثر دائمًا على إدراك ما أو آخر، فإني لا أمسك "نفسي" أبدًا في أي وقت». ولا يمكنني أن ألاحظ أي شيء على الإطلاق، «ولتوضيح موقفه أكثر» يقول "هيوم" إنه في الحالات التي تتوقف جميع الإدراكات لوقت ما، وعندئذٍ لن تكون هناك هوية أو نفس أو الأنا. ولهذا نقول بأن النفس جوهر روحي خالد قائم بذاته، ولا يقر "هيوم" بصريح العبارة: «لكني على يقين، مفهوم وتعريف النفس أو الذات – ينظر "هيوم" – لا شيء، وأصبح هذا التصور الجديد مخالف تمامًا لما هو مألوف، ثم يصرح بعبارة نقل بالمفاهيم السابقة للنفس: «إنه يمكنني أن أجازف بالقول، "هيوم" ينفي أن تكون للنفس مفهوم ميتافيزيقي، ويقدم لنا "هيوم" تشبيهًا يبلغ ووفق رؤيته بموضوع النفس، ولدينا بالمقابل فكرة عن تلك المواضيع المتعددة والمختلفة، فسيكون هناك تناقض بين التفكيرين، بواسطة الخيال أو الميل الطبيعي لشيء مجهول وغامض غير معتبر وغير متقطع يسوق فكرتنا عن الذاتية؟» المجهول الجوهر، وهكذا التصور يكون "هيوم" قد قلب مفاهيم كثيرة موروثة عن النفس، ويكون بالمقابل أوفى التجريبيين لبلادته. فمدام لا يوجد انطباع تستمد منه فكرة النفس، وكلما نجده هو مجموعة من الإدراكات، أما الحامل لهذه الإدراكات فلا أثر له ما دام لا انطباع له. وهكذا التصور يكون "هيوم" قد ألغى آخر حصون الميتافيزيقا الذي ترعرعت فيه وارتبطت به كثير من المفاهيم الميتافيزيقية، يتحدث عن موضوعات الفهم البشري، أما مسائل الواقع (matters of fact)، إذ التجربة هي معيار الصدق ونتائجها احتمالية. فهي ذات استنباط برهاني، مثلا نجد. لا مكان لشيء في قاموس "هيوم"، مقتنعين بمبادئنا، ولكن في اللاهوت والميتافيزيقا المدرسية، أو استدلالات تجريبية عن أشياء واقعية حاصلة؟ لا. لأنه لا يحتوي على شيء غير السفسطة والوهم». وهكذا، ما دام الجوهر بعد صلب الميتافيزيقا، ولا يتعلق باستدلالات تجريبية عن الحكم والعدد، ولا يتعلق أيضًا باستدلالات تجريبية تتعلق بالواقع، فإن ما اعتبره أرسطو الموضوع الأول والأساسي للفلسفة الأولى، ومن بعده ربط كبير من الفلاسفة، بعده "هيوم" مسفسطة ووهم،