في قصّة غسّان كنفاني "قرارٌ موجز،" يبدأ الفدائيُّ بفكرة أنّ "الموت خلاصةُ الحياة. يجد مبدأً آخرَ: "ليس المهمّ أن يموتَ الإنسانُ، بل المهمّ أن يجدَ لنفسه فكرةً نبيلةً قبل أن يموت."2]لكنّ هذا لا يعني أنّ كنفاني يفضّل الموتَ على الحياة. أو أنّه موتٌ نبيلٌ أو مجيد. القضيّة الأساس هنا ليست المفاضلةَ بين الحياة والموت، مثلَ كلّ القيم البشريّة،يقول كنفاني، على لسان بطله الفيلسوف المناضل والفدائيّ، إذًا، ليست نتاجًا لعملٍ فكريّ تجريديّ أو فلسفيّ، بل هي نتاجٌ يَحمل من سِمات المادّيّة ما يحمله الإحساسُ، الذي لا يفترض انفصالًا أو تعارضًا بين المادّيّ والروحيّ، أو بين الفكر والفعل. ومادّيّةُ هذا الإحساس تَكشف عن نفسها - كما يظهر في نصّ كنفاني - عبر الفعل الذي يؤدّي إليه، أيْ عبر القتال والمجازفة بالحياة من أجل الفكرة. هكذا يكون الموتُ أثناء النضال من أجل الفكرة شرطًا أساسًا من شروط نُبلها.الموتُ الذي سعى إليه بطلُ قصّة كنفاني كان لتفادي الخيانة. وهو بهذا كان موتًا يتفادى موتًا آخرَ لأنّ "الخيانة في حدّ ذاتها ميتةٌ حقيرة." أمّا موتُ البطل (الشهيد) فحياةٌ، وذلك في تحوّل هذا الموت إلى أساسٍ لاستمرار النضال، المهمّ أن تستمرّوا."[3]باتريس لومومبا في الكونغو كان يقاتل من أجل الفكرة التي يؤْمن بها، ومن أجل الأفق الذي ترسمُه للخروج من واقعٍ بائس. ولا يمْكننا في هذه الحالة القولُ إنّ لومومبا كان معميًّا بتعصّبٍ لفكرةٍ أوصلتْه إلى العدميّة. وحتى لو كانت نتيجةُ المعركة محكومةً بالخسارة،الثائر الذي يموت من أجل فكرةٍ ليس مدفوعًا بيأسٍ وقنوط، بل بقوّةِ إيمانٍ وتفاؤل. هذا التفاؤل الذي نراه عند المستعمَرين الثائرين ينبع من واقعٍ بائس، التفاؤل هنا ليس تفاؤلَ الإنكار أو المواساة، الذي يتحدّث عنه نيتشه أو كامو، وما زال يشكّل في الوقت المعاصر سلاحًا رئيسًا تستخدمه الليبراليةُ الجديدةُ لمصادرة الأحلام. تفاؤلُ المستعمَرين الثائرين لا يقوم على أيّ ضمانةٍ للمستقبل. ولكنْ عندما يثور الإنسانُ على القوى القمعيّة، عندما يخوض المعركةَ من أجل الحياة، ومن دون الحاجة إلى أن يعتذرَ عن أيّ شيءٍ في حياته.4]موقفُ كنفاني هذا يقوم، والصمودَ خلالها، في مقولة "إنّ الله مع الصابرين، ومن هذا المنظور، لا يعود لمسألة القدَر أيُّ قيمة؛ أو يجاهِدَ فيُستشهدَ ويحقِّقَ مكانةً أعلى في الحياة الآخرة.6]المشكلة الأساس التي رآها كنفاني في خطاب العدميّة هي أنّ هذه الأخيرة تؤبِّد وضعًا قائمًا، وتَقبل الضعفَ والعجزَ، ومن ثمّ يَقْبل المستعمَرُ بحالته المستعمَرة قدرًا محتومًا. التخلّي عن سؤال القدَر في الفعل والحياة يعني قبولَ الإنسان أنّه ليس إلهًا. ولكنْ عندما يترافق هذا القبولُ مع توهُّم الإنسان أنّ أقلَّ ما يمكنه عملُه هو أقصى ما يمكنه عملُه، فإنّنا سنبقى عالقين في كينونةٍ مُعرَّفةٍ ومُحدَّدةٍ بالقدَر. مثلُ هذه الكينونة لا يمكن أن تجدَ الراحةَ إلّا في حال التخدير والهلوسة، كالتي سعى إليها الفوضويّون والسرياليّون في أوروبا، حين حاولوا تخطّي الجدران الزجاجيّة التي تخترق حياةَ الفرد والشعب في الحضارة الرأسماليّة.في مقدور الإنسان أن يختارَ الموتَ بكبرياء ما لم يتمكّنْ من الحياة بكرامة. الموت في هذه الحالة هو رفضٌ للجبن، اختيارُ الموت بحرّيّة هو تغلّبٌ على ذاتيّةٍ فردانيّةٍ أنانيّة، بدلًا من الخضوع لها. الموتُ هنا ليس تجربةً منعزلةً وخاصّةً،"[8] اختيارُ الموت هنا ليس انتحارًا،