ليس بمقدور أحد - في ضوء معطيات الفصل السابق - أن ينكر كون الأمة الإسلامية في العصر الراهن تعاني من حالة انهيار حضاري يعبّر ليس أقلها خطراً ما يلحظه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في دراسته لتاريخ - فيما أشرنا إليه في المدخل - بخصوص الحضارات الست المتبقية في العصر الراهن، بعد غياب ما يزيد عن أنفاسها وتدور في فلك الحضارة الغربية الغالبة، ونحن نلحظ كيف أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ - منذ أخريات القرن الثامن عشر - صيغة الانبهار الذي دفع الكثير من أو ما سماه (مالك بن نبي) التكديس الذي ومكمن الخطورة في هذا الأخذ أنه لم يميز بين الأشياء والأفكار فإذا كان في الحالة الأولى يمارس عملاً مشروعاً، بجملة من المفردات التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من تابعاً يدور في فلك الآخر. بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وغياب التعددية القطبية التي تحكم العالم، وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بالقيادة السياسية والعسكرية والحضارية، فيما أطلق عليه النظام العالمي الجديد أو الموحد، هذا النظام وعالم الإسلام، هنتنغتون، وصولاً إلى "العولمة" التي تجعل العالم كله قرية صغيرة تتحكم ما تشاء من أجل تحقيق أهداف نفعية (براغماتية) صرفة لصالح مراكز وبخاصة تلك التي قدّر بن نبي، أو أو الأقوياء والضعفاء - جاء هذا كله لكي يضع الأمة على بقايا وجودها الحضاري المنهار، وتهدد بإلغاء شخصيتها وإلحاقها - في بجامعة هارفارد، بعد سقوط بحاجة ماسة إلى عدو جديد يوحّد دوله وشعوبه وأن حتى لو سكت السلاح وأبرمت المعاهدات، ذلك أن إذا كانت هذه النظرية واضحة فإننا سنقف بعض الوقت عند الأوجه الأخرى للتحديات وصولاً إلى "العولمة"، بالمسألة التاريخية التي هي موضوع هذا "المدخل"، خاصة إذا تذكّرنا عبارة والجماعات كافة، قبالة الصنمية الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية وجبروتا، وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستعباداً. والمطالب الأساسية للإنسان. واليهودية والاستعمارية والرأسمالية. إن إلغاء الذاكرة التاريخية، قوى العلم والتكنولوجيا والتفوق العسكري وحتى السياسي للغرب، وكل ينسلخون عن تاريخهم ويفقدون تميزّهم، ويزدادون التصاقاً بالقوى المتحكمة في آليات الاقتصاد العالمي. إنه قديم قدم الإنسان نفسه، رغم أن تغيراً كبيراً لحق هذا الصنم فانفلت - وهو يتضخم - لكي يتحكم بكل شيء في هذا العالم، لكنه مع ذلك ليس حالة جديدة في تاريخ الإنسان. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ( (التوبة: 34 التنظير، التاريخ". والنبض الديني الذي يتعبّد الاقتصاد ويتخذه إلهاً، ( كما يقول جيوروجيو في "الساعة الخامسة والعشرون" ( 1 ولقد سقطت التجربة الأولى بعد قرن ونصف من محاولات التجربة والخطأ، من عمر الشعوب قبل أن ينكشف زيفها وضلالها. إن تجريد العالم من بطانته الروحية، والوجود من تجذّره في الغيب، ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، الخمسين في تاريخ الإنسان الذي سيكون الخاسر الوحيد. ولقد أدرك هذا العديد من مفكري الغرب وفلاسفته وباحثيه. يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، الحياة الدنيا حقها. إيمان يبيّن لنا كيف نقيم توازنا بين حاجاتنا الروحية ( والجسدية وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهور" ( 2 جورج سارتون الذي غرق في دراسة تاريخ العلوم عشرات السنين يحكم على "التقدم المادي الخالص" بأنه أمر "مدمّر" وأنه "ليس تقدّماً على الإطلاق بل تأخّر أساسي" ذلك "أن التقدّم الصحيح - ومعناه تحسين صحيح على محبة الله" ( 3) . النمو. صنم التقنية العلموي. صنم قوة الأسلحة ( والجيوش، بشكل من الأشكال، اللعبة نفسها، ويحوّل المنتمين للحركة إلى أدوات صماء تنفذ ولا تناقش حتى وهي تمارس ومن خلال إلحاحها على التسوية صعد الانتهازيون عشرات الأمم والشعوب والجماعات. المرة متمثلاً بأميركا، بحكمها بالإعدام الماسونية والشيوعية وتضيف إليها قيماً وأبعاداً أخرى. ومن خلال سيزداد القوي الحلقات تعاسةً وضلالاً. إن "نهاية التاريخ" بما تنطوي عليه من إلغاء للتاريخ، إنما هي رؤية ( (البقرة: 251 ) ) . ( (هود: 118 ( (الحجرات: 13 مطالب المال والاقتصاد، تؤمن عواقبها. وكل محاولات فك الارتباط بين الإنسان وتاريخه باءت بالفشل، ينطوي على الخصائص والمقومات، أما بخصوص النظام العالمي الموحّد أو الجديد، للدخول في التفاصيل، التاريخية، بالمصير. والحق أن التوحد الغربي قبالة الشرق ليس بالضرورة الوجه الأوحد للصورة، فهنالك - لحسن الحظ - الوجه الآخر: إنها الثنائية التي تخترق وعبر التاريخ الغربي كانت دائماً هناك روما بمواجهة أثينا، والرومانية المقدسة بمواجهة البابا، وبريطانيا بمواجهة القارة، وأميركا بمواجهة بريطانيا، والاتحاد السوفياتي وأوروبا وإن الثغرة التي قد ينفذ منها ستتشكل، ( (هود: 118 عمران: 140 )، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا. النفسية إزاء التفرد الأميركي إلى المدى، التي تفتحها في جدار الغالب. كل المستويات النفسية والفكرية والستراتيجية والاقتصادية، نهاية الأمر. وأمانٍ تزجى، اعتماد الصيغ المدروسة والمحسوب حسابها، على أن تحمي الوجود الإسلامي من التفكك والذوبان. بل أن تمضي ثانية باتجاه مواقع أكثر تقدماً على خرائط العالم المعاصر لكي تشارك في اتخاذ القرار وصياغة المصير. ولكن في أي من هاتين الألفين قدر الغرب على أن يطمس نهائياً على إن عالم الإسلام يقف اليوم قبالة حالة تاريخية ليست جديدة بالكلية، بما أنه حصيلة قرون واشنطن). ولم يصل النظام الجمهوريات الأوروبية للاتحاد السوفياتي المنحل تتكتل، وقد اليابان تواصل قفزاتها التقنية والاقتصادية بحساب متواليات هندسية قد تحد من قدرات التفرد الأميركي في المستقبل الجديد لعالم تهيمن على مقدراته إرادة واحدة، فتتحرك لتفعل شيئاً، ثم عالم الإسلام الذي طالما دفعته التحديات و"العولمة" هي الإفراز الطبيعي للتقدم التقني المدهش، وللنظام الجديد الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو في انتشار المعلومات والأفكار. أما في حقيقة الأمر فإن معناه تفكيك الأمم والدول والجيوش والمجتمع والأسرة، ورفع الحواجز والحدود أمام المؤسسات والشركات متعددة الجنسية. على المستوى الثقافي تسعى العولمة التي تقودها أميركا إلى صبغ العالم والانتشار الفاعل في حياة البشر، بصبغتها الثقافية القائمة على إعلاء القيم المادية والمتمحورة حول الفرد والمصالح الخاصة، والتحرر من كل المبادئ ويلعب الإعلام بوسائله وتقنياته المتطورة الدور الرئيس في تعميم أنماط الثقافة الأميركية وكذلك مؤسسات التعليم العالي. ومن بين أسباب النفوذ الذي تتمتع به الثقافة الأميركية: هيمنة شركات الإعلام الأميركية على التسويق العالمي، وسيطرة l الاقتصاد الأميركي واعتماد اقتصاديات دول أخرى كثيرة عليه. التفوق الأميركي في صناعة الأفلام والموسيقى، ضخمة في ظل انتشار التلفزيون والأقمار الصناعية وقنوات الفضاء التي القابلية التسويقية التي تتمتع بها المنتجات الثقافية الأميركية l هوية ذات جذور محددة. قيام أميركا بتطوير صناعة ثقافية موجّهة لشريحة الشباب داخل l وهم الشريحة الأوسع على مستوى العالم، وهم رجال المستقبل الذين سيشغلون في مجتمعاتهم مواقع التأثير والنفوذ. فتح أميركا معاهدها وجامعاتها أمام الطلاب من أنحاء العالم، l الأنماط الثقافية وطرق التفكير المقتبسة من أميركا. وهناك عامل سياسي عزّز نفوذ الثقافة الأميركية يتمثل في تفرّد أميركا وهو ما دفع دولاً كبرى وصغرى في وكذا القادة والزعماء والمفكرين فيها إلى الاقتناع بشكل أو بآخر بأن الديمقراطية والتعددية والليبرالية واقتصاد السوق تحت رعاية الدولة، هي وهو ما جعل أميركا مؤخرا الأنموذج السياسي الذي يجب على كل الشعوب والدول أن أما على المستوى الاقتصادي فإن العولمة تهدف في الظاهر إلى حرية السوق وتدفق السلع والخصخصة، ولكنها في جوهرها تقود إلى هيمنة العالم كله في ميادين الاستيراد والتصدير والإنتاج، والزراعة والطاقة، وتوفير الحماية الأمنية لها في كل مكان تمارس فيه أنشطتها الاستثمارية. إن ما يتم في إطار الخصخصة التي أشاعتها أميركا في العالم، سوى نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص من كبار التجار والبيوتات المالية والشركات العملاقة في الداخل والخارج. بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر، إلا أن الواقع هو إفساد وتفكيك الأفراد واختراق وعيهم، وإفساد المرأة والمتاجرة بها واستغلالها في وبالمقابل تعميم المؤتمرات ذات العلاقة (مؤتمر حقوق الطفل) (مؤتمر المرأة في بكين) (مؤتمر إلا أنها في الحقيقة تصبح سارية المفعول بشكل أو بآخر. ذلك أن تبدو واضحة للعيان في الواقع الاجتماعي استسلاماً وسلبية فردية، وإحباطات عامة وشلل تام لدور المجتمع الذي تحوّل إلى قطيع مسيّر ومنقاد لشهواته وغرائزه لا يعرف معروفاً ولا ينكر متحللاً من أي التزامات أسرية واجتماعية إلا في إطار ما يلبي رغباته وشهواته وغرائزه. إن أوضاع العالم الاجتماعية اليوم قد أصبحت محكومة بطغيان يجسد قوانين كل من (دارون) و(فرويد) حيث تتلازم (القوة) و(اللذة) تلازم الغاية على المستوى السياسي يتضح أكثر فاكثر كيف أن أميركا راعية النظام إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وتفرض عليها سياسات عديدة تمس سيادة واستقلال تلك الدول مثل تخفيض الجيوش وتسريحها، وعدم صناعة السلاح، وبالأخص السلاح المتطور المصنف ضمن أسلحة الدمار وفرض العقوبات والمقاطعة والحصار على الدول المناوئة لسياسة أميركا والتي عبّر عنها (ريتشارد كاردز) مستشار الخارجية الأميركية بقوله: "إن تجاوز السيادة الوطنية للدول قطعة قطعة ( يوصلنا إلى النظام العالمي بصورة أسرع من الهجوم التقليدي" ( 6 ومع ذلك فإن العولمة الشاملة لم تصل - بعد - إلى مداها، كما أن إمكانية التصدي لأهدافها غير مستحيلة إذا توفرت النية وأحكم التخطيط، لا سيما إذا تذكرنا أن الأمة الإسلامية هي أولى الأمم المستهدفة من النظام التحديات إذا عرفت كيف تلم الشمل وتحشد الإمكانات وتقيم منظومة أمنية وتفيد من الوسائل المبتكرة والمتطورة بكل أشكالها وتوظيفها في مجال مضادة) لأن الإسلام رسالة سماوية وتبليغها للعالمين واجب يقوم على أساس حرية الاختيار والانتقال والمرور والوصول إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، مهما يكن من أمر، فإن الوضع الذي بلغته الأمة الإسلامية في العصر الراهن لا تحسدها عليه أمة أخرى في العالم. بمعنى أن عوامل السلب مكث وراحت تتنامى في الكم والنوع عبر قرون متطاولة من الزمن لكي بسبب من ارتباطه بالغزو الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، تكنولوجيا القوة، قد ازدادت هوته اتساعاً بيننا وبين الغرب، والحركات الجهادية التي صفّيت الواحدة تلو الأخرى. لم يكن يعوزها الفكر لقد قامت حركات المقاومة - كالسنوسية والمهدية - كرد فعل ضد الاستعمار، وكان عليها أن تنوء بعبء الفارق الكبير في التسليح فضلاً عن الصليبي - في احتواء العالم الإسلامي وعدم إتاحة أية فرصة لاستعادته أيما الذي تأكد للغرب كم أنه الجدار الأشد صلابة في مواجهة الخصم. موضوعية وإنما تجيء كرد فعل على حالة تاريخية، عناصر الخلل ونقاط الضعف، التي ستكون بمثابة المقتل الذي تغوص فيه أما الدعوات الإصلاحية غير المسلحة فقد كانت مشكلتها أنها - في وظلت منعزلة عن الأمة الإسلامية أنشطة شبه أكاديمية، أو مشاريع فكرية مطروحة على الساحة (دعوة الكواكبي مثلا) قبالة تحديات التمزيق الغربي. وأحياناً اللادينية، ضد حركة الجامعة الإسلامية التي تبنتها الدولة العثمانية قبل سقوطها الأول والحاسم على يد الاتحاديين وبالتالي فإن هذه الدعوات لم تجد لها سندا بل حدث خطأين قاتلين أكدا إلى الشارع والمؤسسة والبيت والشبهات. فأما الخطأ الأول فهو إقامة جسور بشكل ما مع الخصم الغالب، إن الخطأ الثاني فهو أنها عزلت نفسها عن حركة الجهاد المسلح، بل - ربما - وبغض النظر