لن تقرأ مواعظ هادئة عن الطريقة التي ينبغي أن تفكر بها قبل نشر أول كتاب، بل هو أشبه بحوار طويل، أستطيع تعداد أسماء كتاب كثيرين لم يصلوا في لحظة إدراك واحدة بأنهم يستحقون أن يكونوا كتابًا مقروئين، كافكا النموذج الأكثر شهرة، تمنى أن يمزق روايته المسخ، ووجد هذه التحفة التي لا يقايضها القراء اليوم بشيء، وامتد خجله مما يكتب في عدم نشره لأعماله طيلة حياته، وقد ينتابك بعض الشك عند الإقدام على نشر كتابك الأول، في حال راودتك حالة كافكا نفسها، فنحن نعيش في ثقافة محت ذلك الفاصل بين أفكارنا عن الأشياء وميلنا وتصديقنا الفعلي لها. إن لدينا شكًا مضاعفًا حول ما إذا كان شكنا في قدرتنا على الكتابة، نمطًا نحب أن نُظهر امتثالنا له على طريقة كل الكتاب العظام الذين أثروا فينا. كشابة طُبع كتابها قبل أيام وبدأ توزيعه، شعرتُ بأنني وقعتُ في الفخ، أدون وأكتب المقالات ذات الطابع النقدي، وجدتُ أن عليّ التعامل مع توقعات كبيرة من قبل القراء، أدخلني ذلك في حالة عجز تامة، لا تتحرك إلا مع فتح نسختي الموجودة على بريدي الإلكتروني لقراءة الكتاب من السطر الأول، تمنيت لو لم أكتب «سقيفة» وقلت «سقف» بدلًا منها، بدوتُ حتى بالنسبة لي -وأنا أعرف ظروف كتابة هذا العمل- ساذجة، وعاطفية بطريقة أضفت على النص إيقاعًا صاخبًا ومتكلفًا. تمنيتُ لو أعود سنة ونصف للوراء عندما بدأت الكتابة، كنتُ أحاول أن أرفق على نفسي، لذلك تبدو لي الكتابة رديئة، وهذا مؤشر جيد يعني أنني أصبحتُ أكثر انتباهًا ويقظة، ولكن هذه الحجة لم تسعفني سوى دقائق في رحمتي على ذاتي. قررت عدم متابعة أخبار الكتاب في جميع الوسائط المتاحة، دفعته بقوة إلى الزاوية الخلفية لتفكيري، تابعتُ لقاءً مع الكاتبة المصرية الرائعة إيمان مرسال، وقد وجه لها سؤال عن عدم تقدير الكاتب العربي إلا في حالة فوزه بجائزة أو موته. أجابت إيمان قائلة: إن الكتابة بحد ذاتها مكافأة. في تلك اللحظةُ وجدتُ نفسي وقد عدتُ للمربع الأول من أسئلة الذات المتشابكة مع فعل الكتابة؟ لماذا نكتب؟ هذا السؤال الذي أُشبع بالإجابات، وظهرت للإجابة عليه مؤلفات مستقلة، هذا الملعب الذي بدا كثير من الكتاب مستعد لكي يجرب فيه رميةً يريدها فريدة وخاصة به وحده، بدت بالنسبة لي مع إجابة مرسال، عندما أكتب أحسُ بأنني أؤلف عالمًا، إنها ثورة على سكونية لا تحبها جيناتنا ولا ثقافتنا نحو الحياة ونشدانها، هي بحد ذاتها تجربة لا تقايض بثمن، في واقع يفرض الانفصال طوال الوقت. كنت محظوظة في إجازة هذا الأسبوع عندما كنت أؤدي فرضًا يوميًا بمطالعة جديد الصحف العالمية خصوصًا أقسام الثقافة فيها، عندما تعثرت على مقالة لجيسكا وينتر، عن رغبة القراء ودافع الناشرين لتصديق فكرة أن الأدب الذي نكتبه هو سيرتنا الشخصية. عدا أنه في اضطراره للاعتراف بأنها حياته، أو في حالة إنكاره لهذا الاتهام فهو يجعل العمل فاقدًا للأصالة التي يتغنون بها باستمرار. على الرغم من أن الكاتب لم ينشدها منذ البداية أصلًا، لكي أقول إنني عثرتُ على مفتاح سلامتي هذه الأيام مع بدء انتشار كتابي بل تلك الفقرة التي أترجمها هنا بتواضع وتقول فيها: لا أحد يطلب منك أن تفعل ما تقوم بفعله. هنالك أكثر من روايات كافية في هذا العالم، ولا أحد يدرك ذلك بشكل مؤلم أكثر من الشخص الذي يحاول كتابة واحدة. إن البدء في الحفر من أجل كتاب من الأرض يمكن أن يكون عملاً شاقًا وهو تمزيق للأيدي، وعندما تنفجر التعويذة، لا يمكنك أن تكون متأكدًا تمامًا مما اكتشفته، أو من أين أتت أو من سيعترف بها على أنها تنتمي إليه أيضًا. ومهما كانت النتائج اختراعًا خالصًا (أو هكذا تعتقد)، لقد رأيتُ حجمي الحقيقي في هذا العالم، وربما لن يخسر العالم شيئًا إذا قررت الانسحاب من مشروع الكتابة هذا، وعن فرصتي للتثبت من نوع هذه الذات، أظن بأن تحويل نظرتنا إلى هذه الفكرة عن الكتابة، سيجعلنا أقل التحامًا بتلك الأسئلة المخيفة حولها، ويسمح لنا جميعًا على اختلاف مستوياتنا في هذه الصنعة بالتجربة داخل حقولها المختلفة، مثلما اختار الآخرون طرقًا إبداعية أخرى منوعة، إننا لسنا مسؤولين أمام أحد عن جودة ما نكتب، لأننا سنكون مسؤولين عن جودة حياتنا بالنسبة للآخرين في حالة كهذه، التاريخ سيحتفظ بما يريده، أو بما يريده المنتصر القادم فيه، أما نحن اليوم فعلينا أن نعيش وأن نعالج أرواحنا حتى لو تطلب ذلك أن نكتب عملًا سيئًا. قد تقرأ قصيدة لا تحاول لبوكوفسكي يمكنك سماعها فورًا على اليوتيوب بالمناسبة فهي مترجمة للعربية هناك وتشعر أنها موجهة لك، ينبغي أن لا تكتب بعد الآن، وقد تقرأ كتاب ريلكة رسائل إلى شاعر شاب، لأنك تريد أن تستفيد منه ومن رؤيته لفعل الكتابة، لكنني لا أظن بأن من حق أحد مصادرة فرصتك في أن تخطئ أو تصيب.