لأنّ شعوري بالعجز كان أشدّ عليّ من حمل مدينة، ولأنّ ندوب الماضي هاجمتني فجأةً، و إدراكي أنّ لكلّ حرب طرفين، قرّرت الانسحاب من هذه المعركة. آسف، لم يعد لديّ صبر لتحمّل باقي أيامي. هذه آخر رسالة كتبتها لأخي قبل أن أُقدم على الانتحار، والدموع تتساقط كالمطر، وقلبي يتفتّق حزنًا. لا أريد أن أترك أخي وحيدًا، لكنني لا أستطيع أن أكون عالة عليه. مع كلّ كلمة، كانت ذاكرتي تستحضر مشهدًا مؤلمًا، بكيت حتى غشيت، لكنّني انتقلت لعالم آخر: صحراء جرداء، وحيدًا تحت شمسٍ مُحرقة. ظهر رجلان طويلان، لم أستطع تمييز ملامحهما، حاولت الهرب لكنّ الصحراء بلا نهاية، هما محيطان بي. صمت مهيب، حتى نطق أحدهما (عريض المنكبين، وجنتاه حمراء، يرتدي جلبابًا أخضر) مخاطبًا الآخر (نحيلاً، يرتدي جلبابًا رماديًا): "أتعرف هذا؟" فردّ: "عرفني. هذا ثائر، 25 عامًا، درس المحاسبة، أسرته مكوّنة من أب وأم وأخين، عاطف وعاصم". قلتُ: "أسرتي الآن شخص واحد، أخي عاطف". انهالت عليّ ذكرياتي المؤلمة، غشيتُ، رأيتُ نورًا أبيض ساطعًا، ثمّ شعرتُ كأنّني طائرٌ يحلق، ثمّ سحبتُ بقوة وسقطت في هاوية، الرياح تعصف، أصوات متداخلة، روحي تنفصل عن جسدي، أضواء خافتة تُرشدني. سمعتُ صوت أمي: "ثائر، هل أتيت؟". ظهرت من وسط الأضواء كالملاك، "متى أتيت يا بني؟" قلتُ: "جئت يا أمي، افتقدتك كثيرًا!" احتضنتني، دخلتُ بيتًا لم يمرّ عليه الزمن، وإخوتي صغار، نادت أمي: "عاطف، عاصم، ما الغداء؟" رأيتهم صغارًا، لمستُ جسدي، وجهي صغير، كيف لي أن أكون بعمر التاسعة؟ صوت عاطف: "بما أن ثائر نجح، الغداء كفّة احتفال". ضحكت أمي، اجتمعنا على مائدة الطعام، أبي مسافر. تمنّيت لو بقيت في هذه الفترة. نادى عاصم: "حلوى؟" قالت أمي: "كعكة عاطف في الثلاجة". تذكّرتُ ما لا أريد تذكّره. ذهبت للمطبخ، كعكة عيد ميلاد عاطف، رقم 18. خفت. سمعتُ جرس الباب، أبي عاد بعد غياب ثلاث سنوات! اختبأت، أترقّب. هل عدت لأصلح الماضي؟ فكرتُ بتغيير كلّ شيء. رأيتُ أبي يبحث عني: "أين المشاغب؟" ترددت، ثمّ خرجتُ، عانقني أبي عناقًا طويلًا، قلتُ: "العالم دونك موحش يا أبي". نظر إليّ بعمق: "تعبيرك بليغ يا ثائر، لا أريد الابتعاد". كنتُ أقصد السنوات القادمة، لكنني لم أستطع شرح ذلك. جاءت أمي بالكعكة، احتفلنا بعيد ميلاد عاطف. قال أبي: "هديتي لك سيارة أحلامك". دهشة عاطف، عانقه أبي. قلتُ: "أبي، لا تجلب له سيارة". صمت، نظر إليّ أبي باستغراب: "لماذا يا بني؟" قلتُ: "حاجة في نفسي". غضب عاطف: "هل لأنّني سأمتلك رخصة وأنت لا تستطيع؟" هدأت أمي الوضع. ذهبتُ لغرفتي، حاولتُ التفكير بهدوء. اشتراها أبي، علم عاطف القيادة بصحبتي وعاصم. لم أرد رفض تلك الجولات، أردت استرجاع تلك الأيام، ولم أرد إغضاب أبي وعاطف. لم أتراجع عن قراري، لن أنشغل بالسيارة، طلب مني أبي أن أوصل أمي وعاصم، وافقت ثم تراجعت، تذكّرتُ الحادثة، أمي تصرخ، عاصم، أنا أفقد الوعي، المستشفى، جدتي، خالتي، أبي يبكي، عاطف في ذهول، وفاة أمي وعاصم. صرختُ: "أمي! عاصم!" سمعتُ صوت أمي: "نحن هنا يا بني". طمأنتني، قالت: "سنذهب بتاكسي، ثائر ليس بحالة جيدة". شعرتُ براحة، لم أقُد السيارة، بعد ساعتين، رنّ الهاتف، أبي: "يا بني، حدث شيء... أمّك وأخوك... تعرّضا لحادث سير". بكيتُ بصوت عالٍ. خيبة أمل وكسرة نفس. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ مرّت أيام العزاء، أنا أكثر رصانة وصبرًا. غيّرتُ شيئين: أبي لم يُسجن، ولم أقضِ وقتًا في الإصلاحية. لكنّ أبي لم يخرج من الصدمة، بدأ يغيب عن عمله، لا يأكل، يشرد. في يومٍ غاب أبي، عاد عاطف سكرانًا، غائبًا عن الوعي. أبي أدمن، لم يعد كما كان. أبي نام طوال النهار، رأيتُ أموالًا كثيرة، أبي يتاجر بالمخدرات. ألقي القبض عليه، رأيتُ وجهه خلف القضبان، هزيلًا، انهزم أمام نفسه وأمام الحياة. وبعد أشهر، توفّي أبي في السجن. لماذا عدت للماضي؟ لماذا أعيش هذه اللحظات؟ كلّما حاولتُ الهرب، كان الماضي يلاحقني. وصلت للثالث الإعدادي، لم أحصل على مجموع يؤهّلني للثانوية العامة، دخلتُ الفنية التجارية، كالمرّة السابقة. لُمتُ مكوثي في الإصلاحية على كلّ شيء، لكنّ هذه المرّة لم يكن هناك سبب واضح. بنفس تتابع الأحداث، التحقتُ بكلية تجارة، قرّرتُ التركيز على عدم ضياع فرصة سفري. في السنة الرابعة، فرصة سفر، وظيفة مضمونة، لكنّ خالتي تمرّ بحالة نفسية سيئة، بقيتُ بجانبها. هذه المرة، جرت الأمور كما في الماضي. لكنّني هذه المرّة عارضت خالتي، أصررتُ على السفر. كنتُ أعتقد أنّ سفري سيرسم مسارًا مختلفًا، سأجني أموالًا، أتزوج الفتاة التي أحبّها. سافرتُ، بدأتُ أيامي بحماس، لكنّ الواقع مُرّ، الدعم المادي بالكاد يكفيني، ضغوط دراسية، عملتُ لساعات طويلة. ثمّ حادث أوقف كلّ شيء، اضطريتُ للتوقّف عن الدراسة، انقطعت المساعدات المالية، عالقٌ بين جدران باردة. كنتُ أظنّ أنّني أستطيع تغيير الماضي، لكنّني وجدتُ نفسي أمام تحدٍّ جديد، أكثر قسوة. أيامي سلسلة من التعقيدات، وحيدٌ، مريضٌ، بلا عائلة أو صديق. قرّرتُ العودة. علمتُ أنّ حالة خالتي تفاقمت، محتجزة في مستشفى الأمراض النفسية. لم يخبرني أخي. ذهبتُ لزيارتها، رأيتها حزينة، نظرت لي نظرة عتاب قاسية، أدركتُ أنّ خسارتي لفرصة السفر كانت أرحم من خسارتي خالتي. قبّلتُ جبينها ومشيت. رأيتُ ناريهان، أول حبّ في حياتي، تعمل ممرضة في المستشفى. تسارعت نبضات قلبي. سمعتُ حديثها مع صديقتها: "ثائر شابّ نقيّ، لكنّني لا أعرف عنه شيئًا بعد سفره، إذا عاد بمنصب مرموق، سأفكّر في أمره، أما هيثم فهو غنيّ ويمكنه أن يحقق لي ما أتمناه". كلماتها كشظايا زجاج، تجرح قلبي. غادرتُ المستشفى، ناريهان أنانية وخائنة، سرتُ في الشارع كالمجنون، بكيتُ، صداع شديد، صرختُ. تلك الصرخة أعادتني للصحراء، الرجلان ظهرا مجددًا، الرجل ذو الجلباب الرمادي سار في اتجاه السراب، بقي الرجل ذو الجلباب الأخضر، نظر إليّ، ابتسم، "كيف حالك الآن يا ثائر؟" أجبتُ: "تائه". قال: "هذه الحياة اختبار، هناك نوعان من الناس: الشقيّ والراضيّ. ما عليك سوى السعي والدعاء. ما كان موت أمّك وأخيك وأبيك بيدك، بل هو بيد الله. ما كان عدم سفرك خاطئًا، بل هو الأفضل. ما كان زواجك بتلك الفتاة هو ما سيجمّل حياتك. ستعيش مواقف كهذه، سلّمها لله. كنتُ ثائرًا على أقدارك، نسيتَ أنّ ربّك يدبّر لك كلّ ما لا تراه. لقد عشتَ الحياة كما كنتَ تظنّها، حتى علمت أنّ الله اختار لك الأفضل. افتَح قلبك للحياة، انطلق، عش، وانسَ الماضي. كن لأخيك عونًا، وكن رحيمًا بنفسك." شعرتُ بشيءٍ يشدّني بعيدًا، استيقظتُ، رأيتُ السكّين ورسالة الانتحار. هذا لم يكن حلمًا، بل رسالة واضحة. أعدتُ السكّين لمكانها، وقطعتُ الرسالة. استقبلتُ أخي بابتسامة، تناولنا العشاء، الروح بدأت تشفى. توضّأتُ، وتضرّعتُ لله، طلبتُ منه أن يغفر لي جزعي. شعرتُ براحة عميقة، اقترب وقت صلاة الفجر، أيقظتُ أخي، الشيخ يتلو الآية: "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم"، شعرتُ وكأنّها رسالة ثانية، الله يعلم ما هو خير لي. مع إشراقة الفجر، كلّ شيء في مكانه الصحيح، لم أعد كما كنت، التسليم لله هو المفتاح الوحيد لنجاة المرء!