فجهاد الصديقين في هذا أن يلقوا الفرح بشيء سواه، بعد أن امتلأت صدورهم غموماً، فلما أوصلهم قربهم، كلما زاد قربهم اشتد شوقهم، فازدادوا حتى عطشت قلوبهم، كان رسول الله : دائم الأحزان والفكره (۱). وروي عنه أنه قال : ما عبد الله عز وجل بمثل طول الحزن (٢) . فإنه وصل بقلبه إلى رب ماجد كريم، فرأى عظمته وجلاله، فلم يشف الوصول إليه بتلك القربة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : «المؤمن من أمن الناس بوائقه (۳)، من لم يكن له ورع يرده عن معصية الله عز وجل إذ خلا بها، لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً. فذلك مخافة الله عز وجل في السر والعلانية والاقتصاد في الفقر والغنى والصدق عند الرضا والسخط . إلا أن المؤمن حاكم على نفسه يرضى للناس ما يرضى لنفسه؛ وأحب الخلق إلى الله عز وجل أحسنهم خلقاه (۱) ، وينال بحسن خلقه درجة الصائم القائم (۲) وهو راقد على فراشه. فهو يشهد مشاهد القيامة بقلبه، وروحه عارية في بدنه ليس بالمؤمن حقاً من لم يكن حملانه على نفسه، رحيم في طاعة الله عز وجل، بخيل على دينه حي مطواع، وأول ما فات ابن آدم من دينه الحياء، خاشع القلب الله عز وجل متواضع قد برىء من الكبر، ينظر إلى الليل والنهار يعلم أنهما في هدم عمره، لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل . قال رسول الله : لا جرم أنه إذا خلف الدنيا خلف الهموم والأحزان، ولا حزن على المؤمن بعد الموت، بل فرحه وسروره مقيم بعد الموت (۳). حدثنا عبد الجبار بن العلاء بن يوسف بن عطية قال: سمعت ثابت البناني رحمه الله تعالى يذكر عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله يمشي إذ استقبله رجل شاب من الأنصار، فقال له النبي : كيف أصبحت يا حارثة؟ قال : أصبحت مؤمناً بالله عز وجل حقاً . قال : انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقته قال : يا رسول الله، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعادون فيها . قال: «أبصرت فالزم عبد نور الله الإيمان في قلبه . فقال : يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة؛ فكان أول فارس استشهد وأول فارس ركب، فجاءت إلى رسول الله الله فقالت : يا رسول الله، أخبرني عن ابني إن يك في الجنة لم أبك عليه، وإن يك غير ذلك بكيت عليه ما عشت في الدنيا. إنها ليست جنة ولكنها جنان والحارث في الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول : بخ بخ لك يا حارثة (1) . قال أبو عبد الله رحمه الله تعالى : فإنما وصل العبد الله هذه المنزلة بتلك الأنوار. ألا ترى إلى قول رسول الله : هذا عبد نور الله عز وجل الإيمان في حدثنا أبو محمد بن الحسن المكي، عن عبد العزيز بن أبي داود يرفعه إلى رسول الله ، إلا أنه قال : لكأني أنظر إلى ربي عز وجل فوق عرشه يقضي بين خلقه (۲). لإحاطة غيوم الشهوات، وزين الذنوب بالقلب في الصدر، حتى إذا تاب العبد صقل قلبه بالتوبة فإذا جاهدها وراضها، حتى ينقطع دخان شهواتها، جاءت الأنوار مدداً للإيمان الذي في القلب، فذلك عبد نور الله عز وجل الإيمان في قلبه، فلما نوره استنار في صدره، فصدرت الأمور إلى الجوارح من ذلك النور، فعملت الجوارح على الحدود، وروي عن رسول الله : إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فلا يزال ينكت حتى يسوء القلب كله، فإذا تاب ونزع صقل قلبه، فإنما ينصقل بالأنوار حتى يتجلى كالمرآة المجلية، فإذا صار كالمرآة تراءت له الدنيا على هيئتها والآخرة على هيئتها والملكوت (۱). فإذا لاحظ في الملكوت عظمة الله عز وجل جلاله صارت الأنوار كلها نوراً واحداً، بمنزلة رجل نظر في المرآة، وأبصر ما بين يديه وما خلفه فيها. فإذا قابل بها عين الشمس، وقع الشعاع في البيت فأشرق البيت من تقابل النورين: نور عين الشمس ونور المرآة، فكذلك القلب إذا جلى فانجلي. فلاحظ العظمة والجلال، تجلت العظمة بين الحجاب لذلك القلب المجلي، وأدناس الهوى والتقى النوران فامتلأ القلب شعاعاً، حدثنا سفيان بن وكيع وقتيبة بن سعيد قالا : حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته (۲) ولكنه إذا تجلى الله رجل لشيء من خلقه خشع له . وكذلك لما تجلى لطور سيناء صارت البقعة التي وقع التجلي عليها كالهباء المبثوث، وما في جوارها ساخت في الأرض، فهي تذهب في تلك البحار التي من وراء الدنيا إلى يوم القيامة فلا تستقر وما جوارها أبعد منها، حتى وقعت أربعة منها في حرم الله عز وجل، وأربعة في حرم الرسول بالمدينة . وخر موسى عليه الصلاة والسلام صعقاً فصارت الأرض كلها ذات بهجة وزينة، حتى ظهرت الكنوز على ظهر الأرض، وانفتحت الأرحام فحملت كل عقيم، فاعلم في هذا الحديث : أن الشمس إنما ذهب ضوءها خشعة الله عز وجل، وخشوعها خروجها في سربالها الذي سربلت به من نور العرش، فكذلك النفس إذا أحست بالتجلي خشعت له عز وجل، أو خرجت من جميع شهواتها إلى الله عز وجل بما فيه من المعرفة والعقل فضرب، وهو قول جبريل عليه السلام ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله عز وجل كأنك تراه (۱). فإذا كان محجوباً فإنه يعبد الله ولا يلتمس الحسن، بمنزلة رجل دعاه الملك ليقطع ثوباً بين يديه ويخيطه، فلا يترك هذا الصانع من خفة اليد، وإحكام الخياطة وزينتها، ويريد أن يتجلى بذلك عنده فيكتسب به جاهاً عنده ومنزلة . والآخر رجل دعاه الملك وقال : اذهب بهذا الثوب فقطعه، فلما غاب عنه رفع عنه باله، فيقول: قد عملت وأخذ الأجرة، وإنما جرأه على ذلك غفلته عن رؤية الملك،