فقد يكون في الكلام كتابة، قال ابن عبد ربه في عقده في باب الكناية والتعريض (١) . وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة وعن الحدث بالغائط . ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر وبه وَضَحٌ ، فقال : ما هذا البياض بك؟ فقال : سيف الله جلاه ودخل حارثة بن بدر على زياد، فقال له زياد : ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال : ركبت فرسي الأشقر فجمح بي فقال : أما أنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن. وقال معاوية للأحنف ابن قيس أخبرني عن قول الشاعر : إذا ما مات ميت من تميم فسرَّك أن يعيش فجيء بـزاد بخبز أو بتمر أو بسمن أو الشيء الـمـلـفـف بـالـبـجـاد تراه يطوف في الآفاق حرصاً ليأكل رأس لقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفف في البجاد ؟ قال الأحنف : السخينة يا أمير المؤمنين . وهل ننسى ونحن نتكلم عن الكناية قول عمر ابن أبي ربيعة : أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله ! كيف يلتقيان؟ هي شامية، إذا استقل، والقطع الأدبية، عليه أن يسعى لتذليلها بالوسائل نفسها التي يتذرع بها لفهم الغامض من ظاهر النص : عليه بمطالعة النص كله أولاً، ثم بمراجعة مؤلفات المؤلف الأخرى، فأقوال الزملاء المعاصرين. في محل وقوعها . بقي علينا قبل اختتام هذا الباب أن نعترف بفضل علماء التفسير في هذا المضمار . فإن الأسس التي اتبعوها في أصول التفسير علمية صحيحة . قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير (1) ما نصه : فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن . وما اختصر من مكان، وقال تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا ﴾ [النحل : ٤٤]، وقال تعالى : ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل : ٦٤] ، ولهذا قال رسول الله ﷺ : «إلا أني أوتيت القرآن ومثله معه. والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن لأنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بادلة كثيرة، ليس هذا موضع ذلك. الصحيح، أنبأنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : قال عبد الله يعني ابن مسعود : والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناوله المطايا لأتيته، وقال الأعمش أيضاً عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابـن عـم رسول الله ﷺ وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله ﷺ له حيث قال : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، ترجمان القرآن ابن عباس، ثم رواه عن يحيى بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال : نعم الترجمان للقرآن ابن عباس، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله ﷺ حيث قال : بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . وتجوز حكايته لما تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ويأتي عن المفسرين خلاف، بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون (۱) كلبهم، وتعيين البعض الذي ضرب به المقتول (۱) . ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه (۲) الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه، تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا ( يطول ) النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها؛ أو يحكي الخلاف، ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ؛ فهو ناقص أيضاً. فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب أو جاهلاً فقد أخطأ، حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان وأكثر مما (١) ليس ويرجع بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور والله الموفق للصواب . إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق، حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وبه إلى الترمذي قال : حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش . ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك - وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع وابن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فليتفطن اللبيب لذلك. أما إذا أجمعوا على الشيء، فلا (١) يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، أو السنة، أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك . فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، حدثنا مؤمل حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»، حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي، حدثني حسان بن هلال، قال : حدثنا سهيل أخو حزم القطعي، قال الترمذي : هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل ابن أبي حزم، وأما الذي روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا : أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم. وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين فقال : فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَذِبُونَ ﴾ [النور : ١٣]، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر، وتكلف ما لا علم له به. والله أعلم. ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال : قال أبو بكر الصديق : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمود بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله : ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايَتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [عبس: ٣١]، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (۱) ، وقال أبو عبيد أيضاً حدثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : « وفاكهة وأبا » فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر ، حدثنا سليمان بن حرب، قال : حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب، فقال ما الأب ثم قال : إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه، وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال : حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن عباس ( أنه ) سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها، إسناده صحيح، وقال أبو عبيد الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) السجدة: 5]، فقال ابن عباس فما : يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج : ٤] ، فقال الرجل : إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه . فكره أن يقول کتاب الله فيك ما لا إبراهيم آية من يعلم، وقال : ابن جرير حدثني يعقوب بن (١) ، وقال ابن شوذب : حدثني يزيد ابن أبي يزيد قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأنه لم يسمع ، وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عبده العنبي، حدثنا عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع الديلمي (۳)، ، وقال : وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة . قال ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، وقال أبو عبيد : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال : إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله، فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به،