وكادوا أن يعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها: وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلان ببعضهما باخدود يعين طرف انفه العلوي، وانفه المفلطح تدور باسفله دائرتان واسعتان فوق شارب رمادي كثيف، اما ذقنه فلقد كانت عريضة حادة، بردت رقبته الثخينة بردا.ان سعيد الحمضوني نادرا ما يتكلم عن ماضيه، وما ينفك يعتقد ان غدا سيكون احسن من اليوم، ولكن اهل(السلمة) يتناقلون فيما بينهم، اخبار سعيد الحمضوني ايام كان يقود حركات ثورية في 1936، يقولون-هناك في القرية- ان سعيدا اطلق سراحه من المعتقل لانه لم يدن . ويقال انه لم يقبض عليه بعد، ويربط الصبيان كل احاسيسهم وتخيلاتهم التي يرسمونها للرجل الممتاز . وليد المغامرة القاسية . واحضر معه رشاشا من طراز(الماشينغن) كان قد قضي قرابة اسبوع كامل يجمع ثمنه من التبرعات، ومع ان سكان السلمة كانوا على يقين كبير ان ثمن مدفع من هذا الطراز لا يمكن انيجمع من التبرعات، فلقد اثروا ان يسكتوا، لان وصول المدفع الرائع اهم بكثير جدا من طريقة وصوله، فالقرية في اشد الحاجة الى اي نوع من انواع السلاح، فكيف اذا حصلت على سلاح من نوع جيد؟.لقد عرف سعيد الحمضوني ماذا يشتري! ان هذا المدفع، مدفع (الماشينغن ) كفيل برد اي هجوم يهودي مسعور، والقرية في اشد الحاجة اليه. فلماذا يفكرون في طريقة و صول المدفع ؟ . لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهن تلح الحاحا قاسيا، ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الأمر، ان سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة 1936 مدفعا من هذا الطراز ابلى من خلفه بلاءا حسنا، ثم خبأه في الجبال الى ان ان اوان استعماله من جديد . ولكن التساؤل بقي متضمنا في اعمق اعماق السلمة، لم يكن من اليسير ان يجمع الانسان ثمن مدفع من طراز الماشينغن .اذن فمن اين اتى سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم . ان هذا المدفع الاسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس اهل السلمة، و هو يعني بالنسبة لهم اشياء كثرة، اشياء كثيرة يعرفونها، واشياء اكثر لا يعرفونها . صار يربط حياته ربطا وثيقا بوجود هذا المدفع، نوعا من الشعور بالحماية.وكما يرتبط الشيء بالاخر، ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع، لم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة، ان سعيد الحمضوني اصبح الان ضرورة مكملة . كانوا يشعرون انه اداة من ادوات المدفع المعقدة . كالماسورة: كل متماسك لا تنفصل اطرافه عن بعضها . لقد صار يربط سعيد الحمضوني حياته نفسها ربطا شديدا بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعورا هادئا بالطمأنينة، شعورا يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع، تكاد لا تراه الا وهو يدرب شباب القرية على استعماله، ويدلهم في نهاية التدريب على المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع، هذا المكان الذي سيصير –فيما بعد – معتادا . ومع مرور الايام بدأ سعيد الحمضوني يتغير. وبدا كأنه يضمر شيئا فشيئا، و احس شباب السلمة ان سعيد الحمضوني صار يبدو اكبر من ذي قبل، وانه صار يققد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته . صامت الى حد يخيل للانسان معه انه نسى كيف كان يتكلم الناس، وصار شيئا مألوفا ان يجده الناس منطلقا الى جنوب السلمة، ليجلس وحيدا بقربة الى العشية . هل كان يعتقد انسان انه سيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد؟ لقد فتحواعليه باب داره والصباح يوشك ان ينبلج، وضربت الارض وبرز منها صوت احد رجاله، ليبتلع كل احساس بالوجود : ان ماسورته تتحرك بغير ما توجيه.وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارة تقتلع من جوفه شيئا يعز عليه ان يضيع منه، شيئا كقلبه لا يستطيع ان يتابع وجوده الا معه . كان يشعر بكل هذا و هو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في اخر الليل . ووصل الى حيث كان الرشاش يتكيء كالطفل الميت على الاغصان اليابسة، تحاول عبثا الوقوف في وجه الهجوم .وهز سعيد الحمضونيرأسه و كأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه، ثم فكر : ان لا بد من اجراء . شيء قوي كالكلابة يجب ان يمسك الفوهة الهاربة الى بطن الدفع. سأشد الماسورة الى بطن المدفع بكفي. لا يوجد اية دقيقة لتضيع في كلام .- سيرانا اليهود وانت فوق الحفرة .- ستحرق كفيك بلهب الرصاص.وبدأالمدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل، شعر سعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلا بالثورة والدم والقتال في الجبال، وكم هو جميل ان يختار الانسان القدر الذي يريد. وسمع صوته من خلال دقات الرصاص:- اسمع اريد ان اوصيك و صية هامة .- وعاد يصيخ الى المدفع واستخلص من صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول ان يمضغ المه:- قرب قرية ( ابو كبير ) ابعد منها قليلا،عرفته؟حسنا! لي هناك مبلغ جيد من المال، ان ارجع لأقبضه بعد ان يفحصوا الدم . في كل مرة يقولون انهم يريدون ان يفحصوا الدم كأن دم الانسان يتغير في خلال اسبوع و نصف . ستجد اسم التاجر في داري . لقد دفعت قسما كبيرا من ثمنه من تبرعاتكم . هل تعرف انهم يشترون الدم بمبلغ كبير؟ لو عشت شهرين فقط؟ شهرين اخرين لاستطعت ان اسدد كل ثمنه . انني اعطيهم دما جيدا . خذ حسن و حسين واذهب الى ذلك المستشفى . الا تريد ان يبقى المدفع عندكم . يعرفان كيف يذهبان الى هناك. القضية قضية الحليب الذي رضعناه . اريد ان اقول لك شيئا اخر. اذا تراجع اليهود هذه المرة . تكون اخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية . فعليكم ان تنقلوا المدفع الى الشمال . لان الهجوم التالي سيكون من هناك .واشتد شعوره بالنار تلسع كفيه بقسوة . واحس احساسا ملحا انه لو كان في صحته العادية لاستطاع ان يقاوم احسن من الان، وراوده شعور قاتم بالندم على انه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل، ولكنه احس احساسا دافقا ان المدفع طرف اخر من الموضوع، ان وجوده يحافظ على اهميته قبل ان يموت هو، وحاول جاهدا ان يحرر نفسه من سجن ذاته كي ينسى المه . فأسقط ركبته على الارض في ثقل.وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف. احس سعيد الحمضوني باشياء كثيرة . كانها ملايين الابر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه، ثم شعر باطرافه جميعها تنكمش كانها ورقة جافة في نهاية الصيف. وبجهد شرس حاول ان يرفع راسه ليشم الحياة، الا انه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر . والذي عاش الى جواره فترات طويلة من صباه، وجد نفسه في ذلك التنور جنبا الى جنب مع الارغفة الساخنة تحمر تحت السنة اللهب، ورأى بعينيه فقاقيع العجين الملتهبة، تطير عن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه، وشعر بيد قاسية تشد رأسه الى ادنى . فيسمع لفقرات رقبته صوتا منتظما ثقيلا وهي تتكسر تحت ثقل راسه . واحس انه فعلا لا يريد ان يموت، واعطته الفكرة دفقة اخرى من الحياة . فاكتشف ان صوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش، وشعر بمواساة من نوع غريب، مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع اخيه، وخرج من( التنور ) لكنه شعر انه لم يلمس الارض بقدميه.وشيعته القرية كلها الى مقره الاخير.